صفحة جزء
كان إبراهيم أشد الناس بغضا للأصنام وإدراكا لضلال من يعبدونها؛ ولذا قال مؤكدا: رب إنهن أضللن كثيرا من الناس أسند الإضلال إلى الأحجار، مع أن الإضلال هو من الشيطان الذي ابتدع الأوهام حولها؛ وذلك لأنهم لما عبدوها وأحاطوها بأوهام كثيرة وصار الوهم يولد وهما وتوالت وتكاثرت، وكلها حولها صح إسناد الإضلال إليها، وعبر إبراهيم عليه السلام عن الذين ضلوا بها بأنهم كثير، وليسوا عددا قليلا، وذلك لعموم الضلال بها، وعمومه لا يجعلها حقا، بل هي باطل وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون

وإن ذكر ضلال الأوثان على لسان إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وهم يتشرفون بنسبتهم إليه وهو باني الحرم الشريف المقدس، فيه بيان أنه بريء منهم ما داموا يعبدون الأوثان؛ ولذا قال عليه السلام في دعائه: فمن تبعني فإنه مني ملة إبراهيم هي التوحيد، [ ص: 4037 ] كما قال تعالى: ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين فمن تبعه في ملته فإنه منه، ومفهوم هذا أن من لم يتبعه في التوحيد وعبد الأوثان فليس منه؛ لأن اشتراط كونه موحدا ليكون منه، فيه بيان لأن من لم يتبعه لا يكون منه، بل هو بريء منه، كما تبرأ من أبيه، وكما تبرأ من قومه إذ قال: إني بريء مما تشركون ثم قال - عليه السلام - في دعائه: ومن عصاني فإنك غفور رحيم وصف الله تعالى خليله بقوله: إن إبراهيم لأواه حليم وإن حلمه وعطفه وشفقته لتبدو في قوله: فإنك غفور رحيم فهو - عليه السلام - لم يحكم بالعذاب على من عصاه، بل ترك أمره لله تعالى، كما قال عيسى - عليه السلام - مثل ذلك فقال: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم وليس معنى النص أنه يطلب الغفران لمن أشرك بالله، فمحال أن يطلب عدو الأصنام الأول غفرانا لعبدة الأوثان، إنما الذي يفهم من مضمون العبارة السامية أنه يرجو الرحمة لمن عصاه ابتداء ألا يستمر على عصيانه فهو يرجو التوبة ولا يقدر البقاء على الشرك حتى يكون العذاب الأليم.

وهنا إشارة بيانية حكيمة، فيقول خليل الله - عليه السلام - في دعوته: واجنبني وبني تعبر عن ترك عبادة الأوثان واجنبني أي اجعلني في جانب وبني في جانب فهي تتضمن المباعدة، وكان حقا على ذرية إبراهيم التي عبدت الأوثان أن تباعد بينها وبينها.

التالي السابق


الخدمات العلمية