1. الرئيسية
  2. زهرة التفاسير
  3. تفسير سورة البقرة
  4. تفسير قوله تعالى إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم
صفحة جزء
[ ص: 1018 ] إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير ( 271 ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون

* * *

في الآيات السابقة حذر الله سبحانه وتعالى المنفقين من أدواء الصدقات التي تفتك بها وتذهب بخيرها ، وهي أعداء الإخلاص الثلاثة : المن ، والأذى ، والرياء .

والمن والأذى عملان حسيان قد يسهل على المؤمن اجتنابهما ، أما الرياء فهو داء نفسي الاحتياط في تجنبه يوجب تفتيش النفس في داخليتها ، ومراقبتها في حركتها ، والتنقيب عن بواعثها ، فإن كانت تتصل بالرياء عن قرب أو بعد طهرها وزكاها ، وإن سلمت منه فقد برئت واصعدت إلى سماء التقديس ، وإن المؤمن في سبيل هذه المعالجة الروحية عند الإنفاق قد يتردد بين الإعلان ليكون أسوة حسنة للناس ، إذ يعلن حق الله في ماله فيعرف كل ذي مال ذلك ، ولكنه يخشى أن يجد الرياء منفذا إلى نفسه من هذه الناحية ، وإن أخفاها وسترها عن الأعين ، فقد يضل في العطاء ، فيعطي من لا يستحق العطاء ، ولا يكون إعلان تلك الشعيرة المقدسة ، شعيرة الصدقة التي تثير نخوة ذي المال ، فيقتطع من ماله حق الله فيه .

ولقد بين سبحانه أن في الإخفاء خيرا كثيرا ، والجهر محمود إن نقي من كل أعراض الرياء ، فقال تعالى : [ ص: 1019 ] إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم هذه الآية الكريمة تفيد أن الصدقات في كل أحوالها خير محض ما دام المنفق قد خلص من الرياء ، وجانب المن والأذى ; وإذا كان ثمة تفاوت فهو في حال النفس ، والاحتياط للرياء ، وسد مداخله ، ولذا قال تعالى مادحا النوعين من الصدقة : صدقة الجهر ، وصدقة السر : إن تبدوا الصدقات فنعما أي إن تظهروا صدقاتكم وتعلنوها بين الناس فنعم تلك الصدقة ، أي أنها أمر محمود ممدوح يوجب الثناء والذكر الحسن ; فقوله تعالى : فنعما هي هو نعم المدغمة في ما ، وما هي التي يقول عنها علماء اللغة إنها نكرة تامة بمعنى : شيء ، والمعنى نعم شيئا يستحق المدح والثناء تلك الصدقات . وعبر في قوله عن الإنفاق بالصدقات هنا ، للإشارة إلى أن الممدوح من الإنفاق المعلن هو الصدقات التي يقصد فيها الشخص إلى إرضاء الرب ، وتصدق فيها نيته ، ويخلص قلبه ; لأن كلمة ( الصدقة ) مأخوذة من الصدق ، والصدق هنا هو صدق النية وتخليصها من كل شوائب الرياء . وإذا كانت الصدقة التي خلصت النية فيها لوجه الله تعالى هي موضع مدح وثناء ولا ذم فيها قط ، فهي خير بلا شك . وذكرت خيريته بعبارات المدح والثناء دون التصريح بالخيرية ، للإشارة إلى أنها ممدوحة عند الله كما هي ممدوحة عند الناس ; إذ إن المعلن لصدقته سينال ثناء الناس ، وسيتحدثون بجوده ; فبين سبحانه أن عمله ممدوح عند الناس أيضا وبذلك ينال المتصدق المخلص في نيته ومقصده إن أعلن ، ثواب الله ، وثناء الناس ، وثناء الشرع .

هذه صدقة الجهر إن خلصت من الرياء ; أما صدقة السر فقد أثنى عليها سبحانه بقوله تعالى : وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم أي إن تخفوا الصدقات التي خلصت فيها النية وتؤتوها الفقراء بأنفسكم فهو خير لكم ; لأن البعد عن الرياء يكون أوثق ; إذ في السرية سد لكل ذرائع الرياء ، ولذلك كان السر خيرا للمعطي ; إذ فيه احتياط لنفسه من أن يدخلها داء الإنفاق ، وهو الرياء ; فإذا كان في الجهر فائدة الثناء ، ففي السر فائدة الاحتياط من الرياء ; وذلك خير من كل ثناء . ثم [ ص: 1020 ] صدقة السر خير في ذاتها كصدقة الجهر ، وفوق ذلك فإن صدقة السر خير للفقير ; لأنها تستره بستر الله ، فلا يجتمع عليه ذل الفقر ، وذل الأخذ ، وذل الإعلان والكشف .

والتعبير في نفقة السر بقوله تعالى : وتؤتوها الفقراء فيه إشارة إلى ثلاثة أمور :

أولها : أن الصدقة قسمان : قسم يعطى إلى الحكام ، وهو الصدقات المفروضة التي قدرها الشارع ; فهذه يجمعها أولو الأمر ومن ينوبون عنهم من ولاة وعمال ، أو جماعات يختارونها لذلك وهذه تكون معلنة بلا ريب . والقسم الثاني يعطى الفقراء مباشرة وهو الصدقات غير المفروضة ، والصدقات المفروضة غير المقدرة التي تكون على حسب حال الشخص ، كمن يرى شخصا في مخمصة وجوع ، ويخشى عليه من الموت فإن الصدقة تكون فرضا على من يعلم حاله ; وهذه الصدقات التي تعطى الفقراء مباشرة يكون السر فيها أولى ، بل أكاد أقول إنه يكون لازما ; لأن الإعلان أذى ، وقد قرر المولى العلي القدير أن الأذى يبطل الصدقة في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى

الأمر الثاني : الذي يفيده التعبير بقوله تعالى : وتؤتوها الفقراء الإشارة إلى وجوب تحري صفة الفقر فيمن يعطى ، فلا يعطى إلا ذا حاجة ، ولا يكون من الصدقات ما يعطى لغير الفقراء ; لأنه يكون مروءة أو جودا ولا يكون صدقة يبتغى بها ما عند الله ، إذ يبتغي بها ما عند الناس ; وإن ذلك وإن كان من نظام الدنيا ليس من الصدقة في شيء .

الأمر الثالث : أن الإعطاء في هذه الصدقات بوصف الفقر ، لا فرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم ، ولا بر أو فاجر ; فإذا كان غير المسلم في حال مخمصة ولا يعلم حاله إلا مسلم فرض عليه أن يدفع عنه مخمصته ; فإن ذلك من الرحمة المفروضة لكل إنسان ; ولذا ورد في صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1021 ] قال : " في كل كبد رطبة أجر " وفي رواية لغيرهما " في كل كبد حرى أجر " فهذا يدل على أن الرحمة بكل الأحياء فيها أجر ، فكيف بالرحمة بالإنسان .

بعد بيان أن صدقة السر فيها خير وصدقة الجهر موضع ثناء ومدح ، قال سبحانه : ويكفر عنكم من سيئاتكم أي أنه سبحانه وتعالى يستر السيئات التي يرتكبها الشخص ، ويخفيها ولا يظهرها عند الثواب والجزاء ، فلا يحاسب عليها أصحابها إذا تصدقوا وأعطوا مبتغين وجه الله تعالى في صدقاتهم . و " من " في قوله تعالى : من سيئاتكم إما أن تكون " من " البيانية ، والمعنى أن الصدقات تكفر السيئات وإما أن تكون " من " الدالة على البعضية ، أي أن الله سبحانه وتعالى يكفر للمتصدقين من الخطايا بمقدار ما يتصدقون من صدقات ، وينفقون ابتغاء وجه الله تعالى . وعندي أن " من " بيانية ; لأن النفس التي تفيض خيراتها وتتجه إلى الله تعالى في صدقاتها لا تبغي إلا مرضاته ، فلا تبغي رياء ولا نفاقا ، ولا جاها في الدنيا ، نفس برة تقية لم تحط بها خطيئاتها والنفس التي تكون على هذا النحو لا تسيطر عليها المعاصي ، فيكون غفران الله تعالى لما كان منها من سيئات في بعض الأحوال .

وقوله : ويكفر عنكم من سيئاتكم قال بعض العلماء : إنه بالنسبة لصدقة السر ; ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : " صدقة السر تطفئ غضب الرب " وقال بعضهم : إن الصدقة بنوعيها تكفر السيئات ; وذلك أوضح من الأول ; لأن الصدقة إن سلمت من الرياء وقدمها الشخص طائعا مختارا ولو بإعلان هي حسنة مقبولة ، والله سبحانه وتعالى يقول : إن الحسنات يذهبن السيئات ولقد روي أن [ ص: 1022 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " الصدقة تطفئ المعصية " ولأن من الصدقات ما لا يمكن إلا أن تكون معلنة كشراء سيدنا عثمان بن عفان لبئر رومة ووقفها على المسلمين ; فلا يمكن أن تكون تلك الصدقات المعلنة التي يبتغى فيها وجه الله غير مكفرة للسيئات ، وقد أعد عثمان جيش العسرة ، فهل يغض ذلك من صدقته . ولذا نرى أن تكفير الصدقات للسيئات لا يختص بصدقات السر وحدها ، بل يعم الصدقات كلها . ولقد أثار العلماء بحثا في أيهما أفضل : صدقة السر أم صدقة الجهر ؟ وقبل أن نخوض في أقوال الفقهاء في ذلك نقرر أن الصحابة أثرت عنهم صدقات الجهر ، كما كان معلوما عنهم أنهم يتصدقون ويخفون حتى لا تعلم شمالهم ما تنفق يمينهم .

ومما يروى في صدقاتهم التي كانت معروفة أن عمر رضي الله عنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصف ماله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر ; " قال : خلفت لهم نصف مالي : وفي هذا الوقت جاء أبو بكر بكل ماله ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر ؟ " قال : عدة الله وعدة رسوله . فبكى عمر وقال : بأبي أنت وأمي يا أبا بكر ، والله ما استبقنا إلى خير قط إلا كنت سابقا ! .

وتبرعات عثمان كثيرة مشهورة معلمة بينة ، دونتها كتب التاريخ ، والسيرة المحمدية الشريفة .

وإذا كان المأثور عن الصحابة وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة العلن والسر ، ففي كل خير ، والآية صريحة في ذلك . ولكن بعض العلماء فضل صدقة السر ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث البخاري : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه يرجع إليه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، [ ص: 1023 ] ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " .

وقال بعض العلماء : إن صدقة الفرض المقدر الأحب فيها الإعلان ; وصدقة الفرض المقدر هي الزكاة وصدقة الفطر . والصدقة غير المقدرة الأحب فيها الستر حتى لا يؤذي الفقير . ولقد أثر عن ابن عباس أنه كان يقول : ( جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا ) .

إنه بلا شك صدقة الفريضة المقدرة تكون علنا ، وهي معلنة بحكم أن الإمام يجمعها بعماله ، أو بمن ينوبهم عنه ; وأما صدقة التطوع فإنه بلا شك واضح أن سترها أولى للبعد عن الرياء ، ولعدم إيذاء الفقير ; ولكن قد يكون في إعلانها ما يتحقق به الأسوة ، ويكون كدعوة عامة للإنفاق في باب معين من أبواب غير المفروضة ، فيكون في الإعلان خير يفوق خير الستر ، ولكن بشرط البعد عن الرياء ; ولذلك كان السر في غير الفريضة المقدرة التي يجمعها ولي الأمر ، والأمر متروك لتقدير المنفق ، لأنه يتصل بقلبه أخلا من الرياء أم شابته شوائبه ؟ ولأنه يعرف حال الفقير الذي يعطيه ، أويؤذيه الإعلان أم لا يؤذيه ; ولأنه هو الأدرى بفائدة الإعلان وفائدة الستر في أمر صدقته .

هذا هو الحكم العام في الصدقات في ماضيها عندما كان الناس يقومون بمراقبة نفوسهم ، وإنه بالنسبة لزماننا وقد ساد النفاق ، وسيطر الرياء ، وعطلت الفرائض نرى أن - الستر أولى حتى تهذب النفوس ، وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي الصدقة أفضل ; فقال - صلى الله عليه وسلم - : " سر إلى فقير أو جهد من مقل " .

[ ص: 1024 ] والله بما تعملون خبير ختم سبحانه الآية الكريمة بذلك الختام السامي ; والمعنى فيه أن الله ذا الجلال والإكرام المعبود بحق ، الذي انفرد بالألوهية خبير ، أي عليم علما دقيقا صادقا بما تعملون أيها المؤمنون .

فهذه الجملة السامية تشعر المؤمن برقابة الله تعالى على أعماله ، وعلى بواعث هذه الأعمال وعلى القلوب التي تنبعث منها النيات والمقاصد ، عليم سبحانه بكل ذلك ; فإذا أحس العبد برقابة الله القوي القادر بهذا العلم السامي نقى قلبه من كل شوائب الرياء في صدقاته كلها ، جهرها وسرها ، خافيها وظاهرها . ثم هذه الجملة كما تربي في نفس المؤمن المهابة من الله ، والشعور بمراقبته تتضمن وعدا ووعيدا ; لأنه إذا كان الله سبحانه وتعالى عليما علما دقيقا بكل ما يعمل العبد من خير وشر ، فإنه يكافئ العبد بما ينتج فعله ، إن خيرا فالثواب والنعيم المقيم ، وإن شرا فالعذاب الأليم .

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية