صفحة جزء
هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء هذا بيان لسبب علم الله بعامة ، وعلمه بالإنسان بخاصة ، فإنه علم المكون المنشئ ، الخالق المبدع ، ومن ذا الذي لا يعلم ما أنشأه وكونه وأبدعه على غير مثال سبق ؟ ! ولذا قال تعالى : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير فهذه الآية الكريمة في مقام التعليل للآية السابقة ; إذ الأولى بينت أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وهي تتضمن الإشارة إلى أن ما تخفيه السرائر من بواعث على الإيمان أو الكفر ، والوفاق أو العناد ، يعلمه سبحانه لأنه لا يخفى عليه شيء [ ص: 1105 ] في الأرض ولا في السماء . وهذه الآية تفيد أن الله سبحانه وتعالى يعلم الإنسان لا بعد أن استوى وصار في أحسن تقويم ، بل يعلمه وهو نطفة لفظت ، ثم استقرت في الأرحام ، ويعلمه كذلك علم المكون المنشئ المربي الذي يتولى بقدرته تصويره حتى يصير بشرا سويا .

والتصوير : مأخوذ من مادة صار إلى كذا بمعنى تحول إليه ، أو من صاره إلى كذا بمعنى أماله وحوله ، فالتصوير معناه إذن تحويل شيء من حال إلى حال مغيرا في شكله وهيئته بإمالته من مشابهة شيء إلى مشابهة شيء آخر ; وكذلك صنع الله تعالى في النطفة ; فإنه يحولها إلى علقة ، ومن علقة إلى مضغة ، ثم يجعل المضغة عظاما ، وهكذا ، وتحويل الله وتصويره ليس تغييرا في الشكل ، بل هو تنمية ، وتكوين ، وتدرج في هذا التكوين يستمر من وقت إيداع النطفة في مستودعها ، حتى يصير إنسانا في أحسن تقويم ، بل يستمر التكوين حتى يبلغ أشده .

والأرحام : جمع رحم ، وهو مستودع النطفة في المرأة الذي فيه يتربى وينمو ، ويجري تصوير الله له وتكوينه إياه ، حتى يبرز في الوجود حيا يحس ويسمع ، ثم يعلم ويتعلم ; والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير .

وقوله تعالى : كيف يشاء فيه بيان لأمرين :

أحدهما : أن هذا التكوين تبع لمشيئة الله وإرادته ، فلم يكن وجوده كوجود المعلول من علته ، وكالمسبب من سببه ، إنما وجوده وتكوينه ونموه بإرادة الله تعالى ومشيئته ، وهو فعال لما يريد .

الأمر الثاني : بيان أن الله وحده هو الذي يجعله ذكرا أو أنثى ، وجميلا أو دميما ، وأبيض أو أسود ، بل إنه سبحانه يكتبه وهو في رحم أمه شقيا أو سعيدا ، مؤمنا أو كافرا ، عالما أو جاهلا ، تعالى الله سبحانه في علمه علوا كبيرا .

[ ص: 1106 ] ولقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية الكريمة فيها رد على بعض النصارى الذين اعتبروا المسيح عيسى ابن مريم إلها ; لأنه ولد من غير أب ; فالله سبحانه وتعالى يبين في هذه الآية أنه هو الذي صوره وكونه في رحم أمه ، كما يكون سائر الناس ، وما كان الإله قابلا للنمو من الصغر إلى الكبر ، ومن النطفة إلى العلقة ، فالمضغة ، فالعظام ، وإذا كان رب البرية قد ألقى في رحم مريم ما هو من جنس النطفة البشرية من غير أب يودعها فإن التكوين الذي يسري على البشر سرى عليه فكيف يكون إلها ; ويزكي هذا أن الآيات من أول السورة إلى ثمانين آية كان سبب نزولها - فيما يروى في أسباب النزول - وفد نجران ومناقشة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وسواء أصح ذلك سببا للنزول أم لم يصح فإن الآية فيها رد على من يدعي ألوهية المسيح .

لا إله إلا هو العزيز الحكيم في هذه الجملة السامية تقرير للوحدانية وانفراده سبحانه وتعالى بالألوهية وحق العبودية ، بعد أن قدم ما هو دليل على هذه الوحدانية ، وهو العلم الشامل لكل شيء الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وبعد أن أشار سبحانه إلى أنه المكون لكل شيء وخص الإنسان بالذكر ; لأنه هو الذي يتمرد ويضل ، وكل ما في الوجود مسخر له كما قال تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا

ثم ختم سبحانه وتعالى بالعزة والحكمة ، لبيان كمال سلطانه في ملكه الذي خلقه ، وإثبات أنه لا سلطان لأحد معه حي يشترك في عبادته سبحانه وتعالى ، وكيف يكون إله لا سلطان له ! ولبيان أن الله سبحانه يدبر هذا الكون بواسع علمه وعظيم حكمته ، إنه على كل شيء قدير ، وهو نعم المولى ونعم النصير .

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية