1. الرئيسية
  2. زهرة التفاسير
  3. تفسير سورة آل عمران
  4. تفسير قوله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ
صفحة جزء
[ ص: 1107 ] هو الذي أنـزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب

* * *

في الآيات السابقة ذكر سبحانه منزلة القرآن بين الكتب السماوية ، وأنه فرقانها وميزانها ، وذكر أنه سبحانه وتعالى العليم بكل شيء ، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فهو العليم بخلقه ، والعليم بما ينزل عليهم من آيات بينات ، والعليم بمداركهم البشرية ، وطاقاتهم العقلية ، يطالبهم بما يدركون ويكلفهم ما يستطيعون ; وفي هذه الآية يبين أقسام القرآن من حيث قوة إدراكهم له ، وتطلعهم لفهمه ، وتباين مقاصدهم في طلب حقيقته ومعناه ، وغايته ومرماه ; وفيها بيان أنه قسمان : قسم لا تدركه كل العقول ، وقسم تدركه كل العقول المميزة ، وأن ما يعلو على الإدراك ، أصله ما أدركه كل الناس . ولذا قال سبحانه : هو الذي أنـزل عليك الكتاب الضمير يعود إلى الذات العلية التي وصفت في الآيات السابقة ، إذ قد وصف ذاته - جلت قدرته - بأنه الحي القائم على كل شيء ، والذي به يقوم كل شيء ، وبأنه منزل الكتب من السماء ، وجاعل القرآن ميزانها ، وأنه سبحانه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وأنه سبحانه الذي يعلم الإنسان منذ يكون نطفة في بطن أمه إلى أن يصير إنسانا مستويا كامل التكوين ، وهو الذي يصوره ذلك التصوير ، ويكونه ذلك التكوين ، وهو العزيز الغالب المسيطر على كل شيء خلقه ، ولا شيء في الوجود إلا كان خلقه ، الذي يتصرف في هذا الكون بمقتضى حكمته وعلمه بكل شيء ; فقوله تعالى : [ ص: 1108 ] هو الذي أنـزل الضمير يعود إلى المتصف بهذه الصفات . وقوله : الذي أنـزل عليك الكتاب معناه أن هذا الكتاب العظيم الشأن الذي هو ميزان الكتب السابقة وفرقانها ، أنزله الله العلي القدير المتصف بهذه الصفات عليك ، وقد اختارك موضع رسالته ، وأداء أمانته ، و الله أعلم حيث يجعل رسالته وهو أعلم بشأن الكتاب وما جاء فيه ، وتلقي الناس له ، ومقدار إدراكهم لما فيه ، وقد شاء بحكمته الواسعة أن يجعله قسمين ; أحدهما : يدركه كل الناس ، والثاني : فوق مستوى عامة الناس ، ولذا قال بعد ذلك : منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات أي أن القرآن من حيث بيانه وإدراك الناس له : محكم ، ومتشابه ; ولقد وجدنا القرآن الكريم وصف بأنه كله محكم في مثل قوله تعالى : الر كتاب أحكمت آياته أي أنها نزلت محكمة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ; ووصفه الله سبحانه وتعالى بأنه متشابه ; فقد قال تعالى : كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ومعنى التشابه هنا هو أنه على شاكلة واحدة من حيث قوة تأثيره ، وتآخي معانيه ، وإحكام نسقه ، وفصاحة ألفاظه ، وقوة تأثيره بألفاظه ومعانيه ، فهو في هذا متشابه ، أي يشبه بعضه بعضا .

وفي هذه الآية التي نتكلم في معانيها وصف القرآن بأن منه آيات محكمات ، وأخر متشابهات ، فلا شك أن معنى محكم هنا غير معناها في قوله تعالى : كتاب أحكمت آياته ومتشابه غير معناها في قوله تعالى : ( الله نزل أ حسن الحديث كتابا متشابها مثاني وإن ذلك يتضح من تفسير كلمة محكم ومتشابه في أصل معناها اللغوي . وهذا ما جاء في كتب اللغة : العرب تقول : حاكمت وحكمت وأحكمت بمعنى رددت ومنعت ، والحاكم يمنع الظالم من الظلم ، وحكمة اللجام هي التي تمنع الفرس من الاضطراب . وروى إبراهيم النخعي : أحكم اليتيم كما تحكم ولدك . أي امنعه عن الفساد . [ ص: 1109 ] وقال ابن جرير الطبري : أحكموا سفهاءكم أي امنعوهم ، وبناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له . وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي . وأما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر ، بحيث يعجز الذهن عن التمييز ; قال تعالى : إن البقر تشابه علينا وقال في وصف ثمار الجنة وأتوا به متشابها أي متفق المنظر مختلف الطعوم ، وقال تعالى : تشابهت قلوبهم ومنه يقال : اشتبه علي الأمران ، إذا لم يفرق بينهما وقال عليه الصلاة والسلام : " الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما أمور متشابهات " . وفي رواية أخرى " مشتبهات " . ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سمي كل ما لا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه إطلاقا ، سواء أكان له مشابه أم لم يكن له مشابه .

وعلى هذا الأساس اللغوي ، نقول : إن المتشابه في القرآن أطلق على ما لا يمكن فهمه مطلقا ، أو ما لا يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل ، أو ما يدق ويختفي على العامة ، ولا يستغلق على الخاصة . هذان هما الوجهان اللذان يحتملهما معنى المتشابه ; فإما أن نقول إنه ما لا يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل في هذه الدنيا ، وإما أن نقول إنه ما يمكن معرفته ولكن لبعض الخاصة الراسخين في العلم ، والمحكم هو ما يقابل المتشابه ، وهو الواضح البين للعامة والخاصة الذي لا تتفاوت في إدراكه الأنظار ، وما يمكن معرفة حقيقته على الوجه الأكمل ، وهو أم الكتاب ، لأنه الأصل الذي يجب على كل مؤمن معرفته ، والجزم بمعناه ، والتصديق بمغزاه . فالآيات المحكمات أم الكتاب ، أي أصله الذي يرجع إليه ، ويحمل المتشابه عليه ، ويخرج بتخريج لا يناقضه إن كان ممكن الإدراك على الوجه الكامل . فالآيات المحكمات هي الحكم الذي يفصل بين التأويل الزائغ ، والتأويل الصادق ، فما شهدت له ، فهو الصادق الذي يتفق مع أصل التنزيل ، وما يخالفه فهو الزيغ في الدين ، والخروج عن جادته .

[ ص: 1110 ] والمتشابه ينتهي كما ذكرنا إلى أحد معنيين ; إما أن نقول إنه الغيب الذي لا يستطيع الإنسان معرفته ، كحقيقة الروح ، وحقيقة الجن والملائكة ، وما يكون يوم القيامة ، وكيف يكون نعيم الجنة الحسي ، وعذاب الجحيم المادي ، وكيف ينشئ الله الخلق ، وكيف يعيده ، وكيف يتجلى سبحانه يوم الحساب ، وهكذا مما غيبه الله تعالى علينا ; لأن عقولنا مأسورة بالحس الذي نحسه ، وبالمادة التي ندركها ، وعلم الغيب قد أخفاه الله سبحانه عنا ; لأنه يعلو عن مداركنا في هذه الدنيا ، وعلينا أن نؤمن بما أخبرنا به القرآن الكريم ، وما جاءت به السنة الصحيحة ; فإن من صفات أهل الإيمان الإيمان بالغيب ، إذ قال سبحانه في أوصافهم : الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون

هذا هو الوجه الأول الذي يحتمله تفسير كلمة المتشابه .

أما الوجه الثاني فمعنى المتشابه أنه الذي يدق معناه إلا على طائفة خاصة من أهل العلم ، كبعض العبارات القرآنية الخاصة بالكون وتكوين السماء والأرض ، وبعض ما ذكر في القرآن من أوصاف لله سبحانه وتعالى ، ونحو ذلك من الحقائق التي لا يخوض فيها إلا أهل الذكر ، وهي دقيقة في معناها .

هذان هما الوجهان اللذان تحتملهما الآية الكريمة ، ويدخل في عمومهما كل الأقوال التي قيلت في هذا المقام . ونرى أن كلا الوجهين تحتملهما الآية ، من غير ترجيح لأحدهما على الآخر ، بل يصح لنا أن نقول : [ ص: 1111 ] إن الوجهين معا مرادان ، وسنختار ذلك ، ونبين وجهه عندما نتكلم في تأويل المتشابه إن شاء الله تعالى .

وإن وجود هذين القسمين في القرآن الكريم كان سببا في أن وجد الذين زاغوا وأضلهم الله على علم سبيلا لأن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم ; وذلك بمحاولة تأويل المتشابه من غير أن يلاحظوا الموافقة بينه وبين الآيات المحكمات وهن أم الكتاب ; ولذا قال سبحانه :

فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى أن الذين يتلقون هدى القرآن قسمان ، كما أن آيات القرآن قسمان ، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى ; فالقسم الأول يتلقى الهدي القرآني مستضيئا بنوره آخذا بهديه ; ما يعرفه يهتدي به ، وما لا يعرفه يؤمن به ، ويفوض فيه الأمر إلى ربه ، ويقول : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين والقسم الثاني زاغ ، فأزاغه الله عن الحق . وقد ذكر الله ذلك القسم ، ويفهم القسم الأول من قوله تعالى في حق الراسخين في العلم أنهم يقولون : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا

والزيغ أصل معناه في اللغة : الميل عن الاستقامة . والتزايغ التمايل ، ورجل زائغ : أي مائل عن الطريق المستقيم في طلب الحق . والمعنى على هذا : أن الذين في قلوبهم زيغ ، أي ميل عن طلب الحق وعدم أخذ بالمنهج المستقيم ، لا يتجهون إلى المحكم يطلبون منه حكم القرآن ، بل يتبعون ما تشابه من القرآن ; لأنه بغيتهم ، ويجدون في الاشتباه ما يتفق مع اعوجاج نفوسهم ، وعدم استقامة تفكيرهم ، وما ينطوي عليه مقصدهم الباطل ; فإن اعوجاج القلوب يجيء من تحكم الهوى في [ ص: 1112 ] النفس ، وإذا تحكم الهوى وسيطرت الشهوات المختلفة كشهوة التسلط والغلب وحب السلطان ، وشهوة المال ، وشهوة النساء ، وشهوة المفاسد ، فإن القلوب تركس ، وتفسد ، وتعوج ، فلا تطلب الحق لذات الحق ، بل تطلب ما يحقق شهوة النفوس ، وأولئك لأنهم لا يطلبون الحق يتبعون المتشابه يتقصونه ويتعرفون مواضع الريب ، ليثيروا الشبهات حول الحق ، ويشككون الناس فيه ، ولذا قال سبحانه : ابتغاء الفتنة أي طلبا لفتنة الناس عن دينهم وخدعهم ، وإثارة الريب في قلوبهم ، بأوهام يثيرونها حول المتشابه الذي جاء في القرآن ، مثل أن يقولوا : ما نعيم الجنة وما جحيمها ؟ و أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد وكيف يخلق الله العالم ؟ وهكذا يثيرون هذه الأوهام المشتقة من مألوف الحياة الفانية ، ليشككوا في حقيقة الحياة الباقية . فابتغاء الفتنة مقصودهم الأول ; ولذا ذكر أولا ، ثم أعقبه سبحانه بابتغاء التأويل فقال : وابتغاء تأويله فهم قد ابتغوا التأويل بانبعاث من الهوى والرغبة في تضليل الناس وإثارة الشكوك حول حقائق الدين ، فالرغبة في الفتنة هي المقصد الأول ، والرغبة في التفسير أو معرفة المآل جاءت تابعة إذ لا تتحقق الفتنة إلا بها .

والتأويل في أصل معناه اللغوي كما قال الأصفهاني في مفرداته " من الأول أي الرجوع إلى الأصل ، أي رد الشيء إلى الغاية المقصودة منه علما أو فعلا " فهو معرفة الغاية ، إما بمعرفة المراد المقصود ; ولذلك أطلق التأويل على التفسير ومعرفة ما يخفى من الحقائق وإرادة غير الظاهر لقرينة تدل عليه ; وإما بمعرفة المآل والنتيجة عملا ، كما في قوله تعالى : هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون

والتأويل الذي يبتغيه الزائغون هو معرفة المآل في الدنيا ، كأن يطلبوا إنزال العذاب الذي يهددون به ، وكأن يطلبوا إحياء بعض الموتى ، وقد يفسرون تفسيرات [ ص: 1113 ] المقصود منها تشويه الحقائق وتضليل العقول ، وقد قصدوا في الأمرين الضلال . وإن الله سبحانه وتعالى قد بين بعد ذلك أن معرفة المآل عند الله تعالى وحده ، ومعرفة المعنى قد يدركها الراسخون ، فقال سبحانه :

وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا في هذا النص الكريم قراءتان : إحداهما بالوقف عند لفظ الجلالة ، والابتداء بقوله تعالى في استئناف للقول : ( الراسخون في العلم ) . وهذه القراءة يستفاد منها أن معرفة التأويل والعلم به هي لله وحده ، وعلى هذا يكون التأويل بمعنى معرفة مآل ما اشتمل عليه القرآن من أخبار اليوم الآخر وغيره من مغيبات عن الحس . والقراءة الثانية بالوصل من غير وقف ، بعطف الراسخين في العلم على لفظ الجلالة ; ومعنى هذا أن العلم بالتأويل عند الله ، ويعرفه الراسخون في العلم من غير زيغ مع استقامة المنهاج ، ووضوح الغاية ، والتأويل هنا بمعنى التفسير وتعرف المراد علما .

وإذا كانت قراءات القرآن سنة متبعة وكل قراءة هي بذاتها قرآن متلو مبين ، فمجموع القراءتين يشير إلى أن التأويل قسمان ، أحدهما : علم بالمآل والغاية ، وهذا لا يعلمه إلا الله ، كما أشارت القراءة الأولى ، والقسم الثاني من التأويل علم بالتفسير والمراد من الألفاظ ، وهذا يعلمه الله ، وقد يعرفه الراسخون في العلم ، وهم في الحالين يقولون آمنا ، أي صدقنا وأذعنا ، كل من عند ربنا ، فهم مفوضون مؤمنون مذعنون في حال علمهم وجهلهم ، مصدقون بأن المحكم والمتشابه من عند الله . فمعنى كل من عند ربنا أي كل واحد منهما يجب الإيمان به من غير تشكيك . وهذا هو الفرق بين الزيغ ، واستقامة الفكر ، فالمستقيم المفكر المؤمن يقدم الإيمان على طلب التأويل ، أما الآخر فيطلب التأويل ليلقي بالريب والشك .

[ ص: 1114 ] وإن هذا المنهاج المستقيم الذي يطالب به الإسلام هو منهاج أهل العقول الراجحة المستقيمة ، وهم الثابتون في تفكيرهم وإيمانهم ، الذين لا تعبث بإيمانهم الأهواء ، لأنه إيمان عميق ، وسماهم العلي الحكيم : " الراسخين " في العلم ، من الرسوخ وهو الثبات والتمكن ، فالراسخ في العلم المؤمن الثابت الإيمان المتحقق الذي لا تعرض له شبهة إلا أزالها بنور بصيرته ، إذ الشبهة كالظلمة يبددها الضوء الساطع . وقد بين سبحانه أن أولئك هم الذين يتذكرون القرآن ، ويتدبرون معانيه ، ويدركون مراميه ، وهم ذوو الألباب حقا وصدقا ، ولذلك ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله :

وما يذكر إلا أولو الألباب أي ما يدرك الحقائق الدينية ويعتبر بها ، ويتذكر ما في القرآن من عبر ومواعظ وهداية إلا أصحاب العقول الراجحة التي لا تخضع للهوى والشهوة . وفي التعبير عن إدراك الحقائق الدينية والمعاني القرآنية وتفويض الأمور إلى الله تعالى فيما يعلم ويجهل بقوله : ( وما يذكر ) إشارة إلى أن المعاني الدينية في فطرة كل إنسان ، ولكن يطمسها الهوى عند بعض الناس فلا يتذكرون ، وتتكشف هذه الفطرة عند الذين لم تسيطر عليهم الأهواء فيتذكرون ، والله أعلم بالأنفس .

هذه آية المحكم والمتشابه تكلمنا في معانيها التي تفهم من ألفاظها ، ولكن بعض العلماء يتكلمون في موضوع هذه الآيات المتشابهة ; وقبل أن نخوض في ذكر بعض ما قالوا نقرر أن الذي يستخلص من مصادر الشريعة ومواردها أن الآيات المتشابهة لا يمكن أن يكون موضوعها حكما تكليفيا من الأحكام التي كلف عامة المسلمين أن يقوموا بها ، وإنه لا يمكن أن تكون آية من آيات الأحكام التكليفية قد انتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى من غير أن يبينها ، ولا تشابه فيها بعد أن بينتها السنة النبوية ; لأن الله تعالى يقول : وأنـزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نـزل إليهم ولا شك أن من أول بيان ما نزل إليهم بيان الأحكام التكليفية ، ولو تصور أحد أن من آيات القرآن التي تشتمل على أحكام [ ص: 1115 ] تكليفية لم يبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان معنى ذلك أن الرسول الكريم لم يبلغ رسالة ربه ، وهذا مستحيل . لذلك نقول جازمين : إنه ليس في آيات الأحكام آية متشابهة ، وإن اشتبه فهمها على بعض العقول لأنه لم يطلع على موضوعه فليس ذلك لأنها متشابهة في ذاتها ، بل لاشتباه عند من لا يعلم ، واشتباه من لا يعلم لا يجعل آية في القرآن متشابهة .

وأكثر العلماء يقولون إن آيات الصفات التي توهم التشبيه هي من المتشابه كقوله تعالى : يد الله فوق أيديهم وقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه وقوله تعالى : الرحمن على العرش استوى فقالوا إن السلف يفوضون فيقولون آمنا به كل من عند ربنا ، والخلف يؤولون ، فيقولون : إن اليد هي القدرة ، والاستواء الاستيلاء ، والوجه هو الذات ; وهكذا يعتبرون تلك الآيات من المتشابه . وقد وجد من العلماء من لم يعدوا آيات الصفات من المتشابه إنما المتشابه عند أكثرهم هو ما يكون خاصا بالغيب الذي لا نعلمه ، ولم يعلمه لنا ، كحقيقة الروح ، وما يكون من نعيم اليوم الآخر ، والعقاب والثواب فيه ; من حيث إنه لا يعرف مآله إلا الله تعالى ، وما أخبره الله تعالى إن هو إلا تقريب ، ففي الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . وهؤلاء الذين نفوا أن آيات الصفات من المتشابه ، لهم ثلاثة مناهج :

المنهاج الأول : منهاج ابن حزم ; فهو يقول إن آيات الصفات لا تشابه فيها ، فهي كلها أسماء للذات العلية ; فاليد كناية عن الذات ، والوجه كذلك ، والاستواء فعل للذات العلية . . وهكذا ، وقصر المتشابه على الحروف التي تبدأ بها السور ، والأقسام التي يقسم بها الله تعالى .

والثاني : منهاج للغزالي ذكره في بعض كتبه ، وهو " إلجام العوام عن علم الكلام " ، وقد ذكر فيه أن بعض هذه الألفاظ التي توهم التشبيه هي استعمال مجازي مشهور ، وليس تأويلا ; فإنه يقال : وضع الأمير يده على المدينة ، [ ص: 1116 ] فيفهم كل عربي أن معنى ذلك أنه استولى عليها وسيطر ، ويكون من هذا القبيل : يد الله فوق أيديهم فعبارات الغزالي في هذا الكتاب تفيد أن هذه العبارات مجاز عربي مشهور لا يحتاج إلى تأويل ، ولكن يجب بعد هذا الفهم الظاهر التفويض وأن نقول : آمنا به كل من عند ربنا

المنهاج الثالث : منهاج ابن تيمية ، وهو يرى أن هذه الآيات ظاهرة في معانيها ، فهو يقول : إن لله يدا ولكن ليست كأيدينا ، ووجها ولكن ليس كوجوهنا وإن هذه معان حقيقية ، ويقول إن ذلك هو مذهب السلف ، وهو في هذا تابع لطائفة من الحنابلة ادعوا أن ذلك منهاج الإمام أحمد . ولكن رد عليهم ابن الجوزي ، وأنكر أن يكون ذلك مذهب أحمد فقال : " رأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح ، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام ، فحملوا الصفات على مقتضى الحس ، فأثبتوا له سبحانه صورة ووجها زائدا على الذات ; وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات ، ولا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل ، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني " ثم يقول : " يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل واتباع ، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل رحمه الله يقول وهو تحت السياط : كيف أقول ما لم يقل ! ثم قلتم في الأحاديث تحمل على ظاهرها ، فظاهر اليد الجارحة ، ومن قال استوى بذاته المقدسة فقد أجراه سبحانه مجرى الحسيات ، وينبغي ألا يهمل ما يثبت به الأصل ، وهو العقل ، فإنا به عرفنا الله تعالى ، وحكمنا له بالقدم " ثم يقول " لا تدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح ما ليس فيه " .

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية