صفحة جزء
(موضوعات السورة )

وبمقدار ما في السورة من طول ، كان فيها القدر الأكبر من الموضوعات ، فهو طول في كثرة الآيات ، وليس طولا مما يمجه علماء البلاغة ، فهو كثرة موضوعات وليس بطول ممل ، وها نحن أولاء نشير إلى موضوعاتها قبل الخوض في تفسيرها . ابتدئت السورة الكريمة بذكر شأن الكتاب الكريم ، وشرف الذين يؤمنون به ، وأنهم الذين يؤمنون بالغيب .

ثم ذكر القسم المقابل لأهل الإيمان وهم الكافرون الذين لا تجدي فيهم الآيات والنذر سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ، وأنهم صم بكم لا يعقلون .

ثم ذكر سبحانه وتعالى أمر الحائرين الذين يترددون بين الإيمان والكفر ، وهو يحيط بهم ، وهم المنافقون الذين يحسبون أنفسهم أنهم المصلحون في الأرض ، وهم المفسدون .

[ ص: 77 ] وضرب الله سبحانه وتعالى الأمثال التي تصور حالهم وتبين أمرهم ، وبين سبحانه وتعالى أن النفاق مرض القلوب ومرض الجماعات ، ثم ذكر سبحانه وتعالى أن الناس جميعا في قبضته وأنهم خلقه سبحانه وتعالى هم ومن كان قبلهم ، وأنه مكن لهم في الأرض وجعلها لهم فراشا ، وأن ذلك التمكين والخلق والتكوين يوجب عليهم عبادة الله تعالى وحده ، وألا يتخذوا الأوثان . ثم بين لهم مقام الحجة النبوية التي جاءت معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تثبت لهم رسالته ، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله ، وأن يأتوا بشهداء لهم ليثبت عليهم التحدي والعجز بشاهد من أهلهم ، ودعاهم إلى أن يتقوا نارا وقودها الناس والحجارة .

وقد تكلم سبحانه وتعالى في الخلق والتكوين من البعوضة إلى الإنسان ، وذكر أن خلق البعوضة عظيم ، حتى أن الله تعالى لا يستحيي من الحكم في الخلق أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، وأن المؤمن يدرك ويعتبر ، ويعلم أنه الحق من ربه ، وأما الذين كفروا فيتشككون ويضلون ، ويزيد ضلالهم ، وينقضون ما أمر الله به أن يوثق ، وبين سبحانه وتعالى أعلى درجات الخلق ، وهو خلق الإنسان والجن وجعل الإنسان خليفة في الأرض ، وبين أنه خلق فيه العقل والاستعداد لعلم الكائنات ، وبين سبحانه زيادة خلقه عن الجن وعن الملائكة ، وأمر الملائكة والجن أن يسجدوا له فأبى إبليس وجهل وقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، واعترض على الله تعالى خالق النار وخالق الطين ، ثم كان الاختبار الإلهي لأبي الإنسان ، وهو آدم ، فنهاه هو وزوجه عن الأكل من شجرة ، فوسوس لهما الشيطان إبليس ، فأكلا منها ، فأخرجهما الله تعالى مما كانا فيه ونزلا إلى الأرض ، وبينهما وبين إبليس من العداوة الشديدة ، والمغالبة بين الخير والشر .

ولقد أشار سبحانه إلى المعركة الدائمة ، وذكر أوضح مثل لها بما كان يفعله بنو إسرائيل ، لقد أوتوا علم النبوة بما أرسل الله فيهم من رسل ، وأوتوا نعما كثيرة تثبت قدرة الله تعالى بما أنعم ، ولكنهم ضلوا ، وذكر سبحانه ما أمرهم به وما نهاهم عنه .

وبين أنهم كانوا في علم الدين أكثر من غيرهم ، ولكنهم كانوا يأمرون الناس بالبر ، [ ص: 78 ] ولا يبرون ، ولقد أخذ سبحانه وتعالى يذكرهم بنعمه عليهم ، وذكرهم بحالهم من فرعون إذ نجاهم منه ، وكان يسومهم سوء العذاب ، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، وذكرهم إذ فرق بهم البحر ، وآياته الكبرى فيهم ، وذكرهم إذ قابلوا هذه النعم بالشرك إذ اتخذوا العجل ، وذكرهم بعفوه سبحانه وتعالى عنهم ، وذكرهم بأنه طالبهم بعد هذا العفو أن يقتلوا دواعي الشهوات في أنفسهم ، لتكون قوة في هذا الوجود ، فلا وجود لجماعة غلبت عليها شهوتها ، وذكرهم بنعمته عليهم في أن أتى لهم بالمن والسلوى ليأكلوا منها رغدا ، وذكرهم بأنه أمرهم بدخول قرية لهم متطامنين متواضعين ، فإن مع التواضع مغفرة الله ، ولكنهم بدلوا بالطاعة الظلم ، فعاقبهم الله تعالى في الدنيا .

وذكر لهم آياته سبحانه في أن أمدهم بالماء في وسط الجدب ، بأن ضرب لهم موسى الحجر بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، وبين أن شهواتهم ، قد تحكمت فيهم فطلبوا ما كانوا يأكلون في مصر من الفوم والعدس والبصل بدلا من المن والسلوى ، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير ، وأنهم إذ تحكمت فيهم شهوتهم ضربت عليهم الذلة ، فكانوا أذلة ; لأنه حيثما كانت الشهوة المستحكمة كانت الذلة ، ثم بين سبحانه أنه أخذ عليهم الميثاق وأكده برفع الجبل عليهم ، فأعطوه - أي الميثاق - ، ولكنهم نقضوه وجاء من بعد ذلك أمر موسى - عليه السلام - لبني إسرائيل أن يذبحوا بقرة ، وقد كانت مقدسة في مصر فسرت عدوى ذلك إليهم ، فتلكئوا في الأمر فسألوا عنها : أكبيرة أم صغيرة ؟ ، وما لونها ؟ ، ثم سألوه : أهي عاملة أم غير عاملة ؟ فقال : إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها ، فذبحوها وما كادوا يفعلون ، ثم ذكر في السورة قصة القتيل الذي ادعى كل فريق أنه لم يقتله ، فأمرهم أن يضربوه ببعضها ، فظهر القاتل ، وأمر الله تعالى بالقصاص منه .

والله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر هذه الأحوال لهم بين أنه (لا يطمع في إيمانهم ) ، وقد استولى النفاق عليهم ، فإذا لقوا المؤمنين قالوا : آمنا ، وإذا خلا بعضهم [ ص: 79 ] إلى بعض قالوا جاهلين : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ ! كأن الله تعالى لا يعلم ، ولقد ركبهم الغرور في أنفسهم ، فقالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ، فبين الله أن الخطايا تركبهم ، وسيؤخذون بها ، ولقد أخذ الله تعالى عليهم الميثاق بألا يعبدوا إلا الله ويقيموا الصلاة ، وأخذ عليهم الميثاق بألا يسفكوا دماءهم وألا يقتل بعضهم بعضا ، ومع ذلك أخرجوا بعضهم من ديارهم ، ولا يفكون أسراكم إلا بفدية ، ويؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، ويحكم عليهم سبحانه ، بالحكم الخالد لكل من اتبع الشهوات بأنه اشترى الحياة الدنيا بالآخرة ، وبعد ذلك ذكر الله تعالى سلسلة الرسالة الإلهية التي ابتدئت بموسى ، ثم عيسى ، وأنهم كفروا بالأنبياء ، فكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كفروا به أو قتلوه ، ولما جاءهم القرآن مصدقا لما بين يديه كذبوه ، وهم عندهم العلم به .

ويعيب الله تعالى عليهم قتلهم الأنبياء ، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بغير الحق .

ولقد ذكر سبحانه وتعالى أنه قد جاءهم موسى بالبينات وأنقذهم من فرعون ، ومع ذلك بفقدهم التفكير المستقل المدرك عبدوا العجل ، كما كان يعبده فرعون وملؤه ، ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى أخذ الميثاق ، لبيان أنهم لا يرعون ذمة ، ولا يقومون بخير ، ولقد كانوا يحسبون أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس فتحداهم الله تعالى بأن يتمنوا الموت ولن يتمنوه ; لأن عبد الشهوة يتعلق بالدنيا وما فيها ، يعبد الشهوة العاجلة ، ولا يرجو الآجلة ، وذكر سبحانه عداوتهم لجبريل مما يدل على صغر تفكيرهم .

ويبين أنهم كلما جاءهم رسول كذبوه ، وكلما عاهدوا عهدا نقضوه ، ونبذوه وأنهم بدل أن يتبعوه اتبعوا السحر والأهواء ، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ، واتبعوا السحرة ، وعلموا الناس السحر ، وتعلموا منه ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، ولقد بين سبحانه جملة حالهم ، وما يبغون فقال تعالى : ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن [ ص: 80 ] ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

ولقد كان المشركون يعيبون على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يأت بمعجزة حسية ، وأنه يأتي بالمعجزة المعنوية ، وهي القرآن ، فبين الله تعالى أنه إن ترك معجزة يأت بخير منها أو مثلها ، وأن قوم موسى - عليه السلام - قد سألوا أن يروا الله جهرة .

ولقد بين الله سبحانه وتعالى أن كثيرين من أهل الكتاب يريدون أن يردوا المؤمنين عن دينهم حسدا لهم على ما آتاهم من فضل يعلمونه ويجحدونه ; ولذا أمر الله المؤمنين أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وأعلمهم أن ما يقدمونه من خير يأت الله تعالى به ويجدوه عنده ، ثم ذكر سبحانه وتعالى مزاعم النصارى واليهود ، وتكفير بعضهم لبعض ، وذلك شأن الذين لا يعلمون . ثم بين سبحانه وتعالى ظلم الذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وهم المشركون واليهود والنصارى .

ثم بين سبحانه وتعالى كفر الذين قالوا : إن الله تعالى اتخذ ولدا سبحانه ، وضلال الذين يطلبون أن يكلمهم الله تعالى .

ولقد ذكر سبحانه وتعالى مقام الرسالة المحمدية ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - إن طلب رضا اليهود ، فلن يرضوا عنه ، وذكر سبحانه بعد ذلك نعمه على بني إسرائيل .

ولقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك خبر أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فهو أب لموسى وعيسى ومحمد صلوات الله تعالى عليهم ، وذكرهم بهذا أن أصلهم - وهو إبراهيم - واحد ، وأنه ما كان لهم أن يختلفوا .

ثم ذكر بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة ، ومعاونة ولده إسماعيل له ، ودعاءهما لرب البرية أن يجعلهما مسلمين له ومن ذريتهما أمة مسلمة له ، وأن يتعلما مناسك الحج ، ودعاء إبراهيم عليه السلام أن يبعث في العرب رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وذلك الرسول هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فهو دعوة أبي الأنبياء إبراهيم ، وأن ملة إبراهيم هي ملة الأنبياء أجمعين ، ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ، ولقد وصى بهذه الملة الطاهرة إبراهيم ، ووصى بها يعقوب .

[ ص: 81 ] وإنه لا يجوز التفرق في دين الله بين اليهود والنصارى وأتباع محمد ، ولقد جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذه الوحدة الدينية ، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون . وإنه بهذه الوحدة الدينية التي تقوم على التوحيد ، قد اتجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس ; لأن البيت الحرام الذي به الحج كانت الأوثان تحوطه ، فلما آذن الله تعالى بأن دولة الأوثان ذاهبة بعد الانتصار في غزوة بدر الكبرى حول الله تعالى قبلة المسلمين إلى الكعبة إيذانا بتخليصها من الشرك وأهله .

فأخذ السفهاء من اليهود يثيرون الشكوك حول ذلك التحويل : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ ! وقد رد الله تعالى عليهم ، وبين أن ذلك أمر قدره ، وأن وسطية الأمة الإسلامية ، وعلوها اقتضى الاتجاه إلى ما بناه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، وبين سبحانه أن تغيير القبلة بجعلها لبيت المقدس أولا ، ثم تحويلها ثانيا للكعبة إنما هو اختبار للإيمان والتسليم ، وفصل الله تعالى من بعد ذلك كيف يولون وجوههم شطر المسجد الحرام أينما كانوا .

ثم ذكرهم بنعمة الله تعالى عليهم ، وأشار إلى أنهم سيجدون أياما غلاظا شدادا : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين .

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية