صفحة جزء
ولقد أمر الله سبحانه وتعالى من بعد ذلك بما يكون فيه العصمة من الزلل، والاستمرار على الحق إلى أن يلقوا ربهم، فقال تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا العصمة: المنعة، ومعنى اعتصموا: اجعلوا أنفسكم في عصمة ومنعة عن الزلل بحبل الله، ولكن ما هو حبل الله الذي أمر سبحانه بالاستمساك به، واعتبر الأخذ به عصمة من الزلل؟ والجواب عن ذلك أن " الحبل " في أصل معناه اللغوي " السبب " الذي يوصل إلى الغاية، وله بعد هذا المعنى الأصلي اللغوي معان أخرى مشتركة، فيطلق على [ ص: 1339 ] الرسن ، كما يطلق على العهد، كما في قوله تعالى: ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ويطلق على الإيمان، كما يطلق على القرآن، وقد ورد بذلك الحديث النبوي، فقد قال عليه الصلاة والسلام: " إن القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن استمسك به " ، وروي عن زيد بن أرقم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر حبل الله تعالى في هذه الآية بالقرآن، فقد قال: " حبل الله هو القرآن " وإن ذلك هو الواضح، فحبل الله تعالى هو شريعته المحكمة الباقية إلى يوم القيامة، والمؤدى واحد، فشريعة الله سجلها القرآن، فهو بيانها، وهي حبل الله، والعروة الوثقى التي يضل من فصمها أو تركها.

وقد ذكر سبحانه أن الأمر بالاعتصام لا يؤدي غايته وحقيقته إلا إذا اعتصمت الأمة جميعها، ولذلك قال سبحانه: واعتصموا بحبل الله جميعا أي: كونوا جميعا مستمسكين به؛ وذلك لأن هذا الدين كل لا يقبل التجزئة، والجماعة الإسلامية كل وطائفة واحدة، وكلمة " جميعا " يصح أن تكون حالا من الواو، ويصح أن تكون حالا من حبل الله تعالى، وعلى الأول يكون المعنى كونوا جميعا مستمسكين بحبل الله، ولا يصح أن ينفصل منكم طائفة لا تأخذ بذلك الحبل؛ لأن الشيطان ينفذ إليكم عن طريق هذه الطائفة التي شذت وعصت أمر ربها.

وعلى أن كلمة " جميعا " حال من حبل الله، يكون المعنى خذوا بالقرآن كله، ولا تجعلوه عضينا تؤمنون ببعضه وتكفرون ببعضه، أو خذوا بشريعته كلها ولا تأخذوا بجزء منها دون جزء، فإنها كل لا يقبل التجزئة. [ ص: 1340 ] والأمران مرادان معا، فإن مقتضى النص أن نأخذ جميعا بالشريعة كلها، لا نفرق بينها، ولا نتفرق في أمرها؛ ولذا قال سبحانه: " ولا تفرقوا " أي: لا تتفرقوا في أنفسكم، فلا يضرب بعضكم رقاب بعض، ولا تتنادوا بنداء الجاهلية، ولا تتفرقوا في دينكم، فتذهبوا في فهمه شيعا وفرقا مختلفة، فتضلوا عن سبيل الله، ولا شيء يذهب بنور الحق المبين أكثر من اختلاف الأنظار في فهمه وإدراكه، والنظر إليه بروح التعصب الذي يغفل عن الاتجاه إلى الحق في كل جوانبه، ولذلك جاء النهي عن التفرق في الدين، فقد قال تعالى: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ولقد توقع النبي - صلى الله عليه وسلم - الافتراق لأمته، وأنه سيكون سبب ضعفها، وأن عودة قوتها في عودة اجتماعها، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، وإن بني إسرائيل تفرقت اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين، كلهم في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي " .

وإن الطريق للخروج من الافتراق هو الذهاب إلى لب الدين بإخلاص، ومن غير انحراف إلى طائفة دون أخرى، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، مات والله عنه راض " فإنه لا يفرق إلا الأهواء، ولا يهدي إلا الإخلاص، فإذا سيطرت الأهواء المنحرفة، سرى الضلال إلى النفس وإلى الفكر، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب لصاحبه " وقال عمرو : " الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله " . [ ص: 1341 ] وإن النهي عن التفرق توجب إطاعته الإخلاص والحذر، وطريقه الاعتبار، ولذلك قال تعالى: واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا

الخطاب عام لكل المؤمنين في كل الأجيال وكل الأعصار، ويدخل في عمومه كل الأجناس وكل الشعوب، فالدعوة إلى التذكر دعوة عامة، وهي تذكر لماضي الانقسام، ثم من بعد الاتفاق والوئام، والطريق إلى الوحدة، ولكن إذا كان التذكير عاما، فإن الاختلاف الذي أشار إليه النص الكريم كان خاصا بطائفة من المؤمنين، وهم الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار، فالأنصار أكلتهم الحرب التي قامت بين الأوس والخزرج حتى أتم الله عليهم نعمة الهداية، والعرب جميعا كانوا في تنابز وتنافر حتى كادت بعض قبائلهم تفنيها الحروب التي لا تبقي ولا تذر. ولماذا اعتبر الاختلاف السابق الخاص كأنه اختلاف عام، وخوطب به المؤمنون جميعا؟ والجواب عن ذلك: أن هذا للدلالة على وحدة الأمة، فما كان من ماضيها يخاطب به حاضرها للاعتبار والاتعاظ، ولأن سبب الاختلاف في كل نفس لا يقي منه إلا الهداية، فما وقع من الماضين يتوقع أن يقع من الحاضرين؛ لأن الإنسان ابن الإنسان، ولأن الخلاص طريقه واحد، فما خلص به الماضون يخلص به الحاضرون، إن اعتزموا سلوك ما سلكه الذين من قبلهم.

والنعمة التي يذكرنا الله بها في قوله تعالى: واذكروا نعمت الله عليكم هي نعمة الهداية والتأليف القلبي، وهو أعظم النعم على الجماعات والأمم، وقد بينها سبحانه بقوله: إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فهذه نعمة بينة واضحة، وهذه النعمة ترتب عليها أثرها الجليل الخطير بفيض آخر من نعمته سبحانه أيضا ولذا قال: فأصبحتم بنعمته إخوانا فالنعمة الثانية التي كانت امتدادا للنعمة وفيضا لها هي نعمة الأخوة العامة، التي تجعل الأهواء مشتركة، والمصالح متشابكة متوحدة، يتعاون كل واحد في الأمر الذي يحسنه لمصلحة الجميع، والآية ترمي إلى بيان أن تألف القلوب وحده نعمة والأخوة المترتبة عليه المتعاونة نعمة أخرى، [ ص: 1342 ] والتألف معنى نفسي، والأخوة مظهر اجتماعي عملي، ولقد شدد سبحانه في التذكير بمآثم الاختلاف بعد أن أشار إلى نعمة الوفاق بقوله: وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها

أي: كنتم - بسبب اختلافكم وضلالكم وعبادتكم للأوثان وانحراف تفكيركم - قد أوشكتم على أن تقعوا في النار بسبب تغلغلكم في أسبابها وسيركم في طريقكم حتى صرتم كأنكم على شفا حفرتها، وشفا الحفرة حرفها، وقوله تعالى: فأنقذكم منها الضمير يعود إلى الحفرة؛ لأن من يكون على شفاها يقع فيها لا محالة إلا أن يبعده مبعد عنها، فيكون منقذا له منها، والكلام فيه استعارة تمثيلية، وخلاصتها أنه شبهت حالهم في ترديهم في الاختلاف والوثنية وسيرهم في طريق النار يوم القيامة بحال من يكون على طرف حفرة من النار لا يتماسك عن الوقوع فيها، وشبهت هداية الله تعالى لهم بحال من يتولى تجنيبهم التردي في تلك الحال الخطرة الخطيرة، ولقد ذكر سبحانه وتعالى سنته في بيان هدايته فقال: كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون

أي: كهذا البيان الذي بينه الله سبحانه وتعالى لكم في محكم القرآن، وبين لكم به سبيل هدايتكم، وبين لكم به نعمة هدايتكم ونعمة أخوتكم، يبين سبحانه وتعالى دائما الآيات البينات سواء كانت تلك الآيات قرآنية أم كانت كونية، وذلك لتقربوا دائما من الهداية، ولتكون بين أيديكم أسبابها، لعلكم تنالون الثمرة وهي الاهتداء الدائم، والله سبحانه وتعالى هو الهادي إلى سواء السبيل.

التالي السابق


الخدمات العلمية