إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم  )  
[ ص: 115 ] ذكر الله سبحانه وتعالى أعلى صنف في الوجود الإنساني ، وهم الذين علوا بنفوسهم وأعمالهم ، وذكر في مقابلهم الذين أركسوا أنفسهم في مهاوي الباطل حتى سدت عليهم كل مسالك الإدراك للحق ، ثم ذكر من بعدهم الحائرين بين الهداية والضلال ، يرون نور الحق ويبصرونه ، ثم يتركونه ، فيتركون الحق وقد بدت لديهم معالمه ، ويتجهون إلى الظلام ، وقد أشرق نوره ، ولمعت في الوجود شمسه ، وأولئك هم المنافقون . 
وقد روي عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد  أنه قال : أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين ، وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة آية في المنافقين  . 
وقد تم بيان صفات المتقين ، ونبتدئ في آيتي الكافرين ، فقد قال : 
إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون  . 
بين سبحانه الذين يتقبلون هداية القرآن ، فينزل على قلوبهم كما ينزل الغيث على الأرض الطيبة ، فتنبت أطيب النبات ، وتثمر خير الثمر . وهم المتقون الذي جرى في القرآن الكريم في الآيات السابقة وصفهم . والكافرون جاء وصفهم في الآيات الكريمة على نقيض المتقين ، إذ إن هؤلاء المتقين امتلأت نفوسهم بالاتجاه إلى ما وراء المادة ، فلم يستول على قلوبهم بريق المادة ، ولم يستغرقهم سلطانها ، بل انفعلت نفوسهم متأثرة بما وراءها متعرفة أسرار الوجود من الموجود ، أما الذين كفروا فقد استغرقتهم المادة ، وسيطرت عليهم ، فلا يفكرون إلا فيها ، وفيما تحيط به ، والله سبحانه وتعالى خلق كل نفس ، وهداها ، فإن استقامت في إدراك الحقائق أوصلها إلى الحق ، وإن عميت واعوجت ابتداء ، فلم تر إلا المادة سارت في طريق غير سوي . والله سبحانه وتعالى يقول : 
والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا  [ ص: 116 ] وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة فالله " تعالى خلق الخلق ، وأودع كل نفس طريق العلم ، فأعطاه أدوات المعرفة كلها ، وجعل السمع يستمعون به والأبصار يبصرون بها ، والقلوب يدركون بها ، فمن جعل هذه الأدوات متجهة إلى النور فقد أبصر ، فيكون من المتقين ، ومن أحاطت به مادة الدنيا ، ولم ينفذ ببصره وقلبه إلى ما وراءها ، فإنه لا بد سائر في طريق الغواية ، مبتعد عن طريق الهداية ، وكل إنسان وما يسر له ، فإن غلبت عليه السعادة اتقى ، وإن غلبت عليه الشقوة كفر . 
والكفر في أصل معناه اللغوي الستر ، ومن ذلك إطلاق الكفار على الزراع لأنهم يسترون البذر لينبت نباتا طيبا كقوله تعالى : 
كمثل غيث أعجب الكفار نباته أي أعجب الزراع نباته ، وقد أطلق من بعد ذلك على ستر الفطرة وطمس الحق ، لأن الفطرة الإنسانية فطرة الله ، فطر الناس عليها تتجه إلى الحق ، وتدرك نوره ، فالكفر ستر نور الفطرة الذي ينبثق نحو الحقيقة ، كما يطلق الكفر على جحود النعمة ، وإنكارها ، ومن ذلك قوله تعالى : 
لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد  . 
ومن ذلك ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قال : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=650993أريت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ، ورأيت أكثر أهلها النساء ، قيل : بم يا رسول الله ; قال : بكفرهن . قيل : أيكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إليهن الدهر كله ، ثم رأت منك شيئا ، قالت : ما رأيت منك خيرا قط  " . وذكر الله تعالى الكفر من غير متعلق فقال : 
إن الذين كفروا للدلالة على جحود كل خير ، فلا يكفر الكفار بالله تعالى وحده ، بل يكفرون بكل نعمة ، وينكرون كل خير ، وتغلب عليهم  
[ ص: 117 ] مادية شرسة لا يؤمنون إلا بها وينكرون ما عداها ، وتسد عنهم مسامع الخير ، فلا يصلون إليه ، ولا يتجهون نحوه ، وبذلك تسد مسامعهم عن كل إنذار بعاقبة ما يفعلون . 
وإذا كانوا قد فقدوا كل الإنصات إلى ما يهديهم ، فهم لا يؤمنون سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم ، والإنذار يفسره علماء اللغة بأنه تخويف من أمر مستقبل يتوقع وقوعه أو يؤكد وقوعه ، وعند المنذر سعة من الوقت يمكنه فيه أن يتوقاه ، وقالوا : إذا لم يكن متسع من الوقت لتفاديه يكون ذلك إشعارا . 
ومعنى 
سواء عليهم أأنذرتهم ، أنه يستوي عندهم إنذارك وعدم إنذارك ، فالاستفهام هنا للمعادلة ، أي أنه يستوي الإنذار وعدمه ، والمصدر هنا ثبت بالاستفهام ، أو من غير أداة مصدر ، كقولك : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي : سماعك بالمعيدي خير من أن تراه . 
ومعنى ذلك أنه سجل عليهم الكفر والجحود ، لأن الشر قد استغرق نفوسهم ، ولم يكن ثمة موضع لسماع داعي الهدى حتى أغلق قلبه عن كل ما يدعو إلى الخير ، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " 
إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء ، وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه  " . وروى 
 nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " 
إن الرجل ليقترف الذنب فيسود قلبه  " ، فإن هو تاب صقل قلبه ، وقال تعالى : 
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ، أولئك الذين كفروا وستروا الفطرة ، وأطفأوا نور الإيمان بتوالي ذنوبهم ، واستمراء جحودهم ، تحيط بهم خطاياهم فلا يؤمنون بالحق سواء أأنذرتهم أم لم تنذرهم . 
وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذا المعنى بـ " إن " الدالة على توكيد حكم ما بعدها .  
[ ص: 118 ] أكد الله تعالى هذا المعنى شارحا حالتهم النفسية ، وانطباعها على الشر ، وعدم تقبل الهداية ، فقال تعالى : 
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة  . 
الختم مصدر ختمت ختما فهو مختوم ومعناه تغطية الشيء ، والاستيثاق من الغطاء حتى لا يدخله شيء من خارجه ، والختم يكون محسوسا ، وإطلاقه على الأمور المعنوية يكون مجازا أو استعارة ، ويكون المعنى أن الله تعالى شبه ابتعادهم عن الهداية ، والحيلولة بين قلوبهم ووصول الحق إليها ، بسبب ما تواردت عليه من أسباب الشك والارتياب وإظلام القلوب ، وعدم قبولها لنور الهداية - شبهه بحال ما ختم عليه بختم استيثاقا من ألا يفتح ويدخل عليه شيء من الإيمان ، وكان على القلوب ، فلا يكون معها مكان لهداية ، وعلى السمع ، فلا ينفتح لسماع كلمة حق هادية ، وذلك من كثرة ما توارد عليها من أسباب العصيان والجحود ، حتى طبع الله تعالى عليها بكفرهم ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=657215تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا ، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين ، أبيض مثل الصفا ، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا (أي مقلوبا ) لا يعرف معروفا ، ولا ينكر منكرا  " رواه الصحيحان ، ولقد قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير  في تفسيره : " إن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها ، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم الذي ذكره الله سبحانه وتعالى : 
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم  . 
والمعنى أن الذين أركست قلوبهم بتضافر ذنوبهم ، وتوالي جحودهم ، واستغراق المادة تغلق عليهم مسالك الهداية ، وتسد عليهم مسام النور ، فلا تصل إليهم هداية .  
[ ص: 119 ] وعبر عن ختم قلوبهم وسمعهم بجمع القلوب ، وإفراد السمع ; لأن الأسباب التي تغلق القلب متعددة ، بتعدد أصناف الهوى ، فكأن كل واحدة تسكن قلبا ، وتتعدد القلوب بتعدد ما ملأها من أهواء ، وتتضافر هذه الأهواء ، وأفرد السمع ; لأنه طريق واحد ، وجارحة واحدة ، ونور الحق واحد ، وصوته واحد ، ولكن لا يسمع . 
والوقف على قوله تعالى : 
ختم الله على قلوبهم وقوله تعالى : 
وعلى أبصارهم غشاوة فإن ختم القلوب يكون على القلب ، وعلى السمع ، أما الأبصار ، فإن عليها غشاوة ، وتكرار (على ) في قوله : 
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم للدلالة على تقوية الختم ، وتأكيده بحيث لا يصل إلى النفس منه شيء عن طريق القلب المدرك أو السمع الواعي . 
وقوله تعالى : 
وعلى أبصارهم غشاوة الغشاوة الغطاء الذي يحول بين البصر والرؤية ، وذكر الأبصار بالجمع بدل الإفراد لتعدد المبصرات الموجهة التي يتوجه البصر إليها ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات أوتاد ، وماء ينزل من السماء ، ومرسلات حاملات للرياح ، وخلق مجدد مستمر ، وحياة وموت ، قال تعالى : 
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت ، وهكذا تتعدد المبصرات ، وفيها الآيات البينات الدالة على قوة القادر على كل شيء ، القاهر فوق عباده . 
فلتعدد هذه المبصرات ذكرت الأبصار بالجمع لا بالمفرد ، والله بكل شيء محيط . 
ولقد ذكر الله تعالى عقاب أولئك الكافرين الذين لا تجدي معهم النذر ، ولا يجدي معهم بيان الحق في ذاته ، وقد طبع الله تعالى على قلوبهم التي شعبتها الأهواء ، وعلى سمعهم فلا يستمعون للحق ، ووضع الله على أبصارهم غطاء يحول  
[ ص: 120 ] بينهم وبين معرفة الآيات البينات ، وبين سبحانه وتعالى ما قرره لهم من عقاب ، فقال تعالى : 
ولهم عذاب عظيم العذاب كالنكال ، وقد ذكر 
 nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري  المعنى اللغوي له ، فقال في كشافه : العذاب مثل النكال بناء ومعنى ; لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه ، كما تقول : " نكل عنه " ، ومنه العذب ، لأنه يقمع العطش ويردعه ، ويدل عليه تسميتهم إياه نقاخا لأنه ينقخ العطش أي يكسره ، وفراتا لأنه يرفته على القلب ، ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذابا ، وإن لم يكن نكالا ، أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة . 
هذا تحليل لغوي كتبه 
 nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري  ونقلناه ، والذي نخرج منه أن العذاب نكال وإيلام فادح لمنع المعاودة ، وأنه يلتقي مع العذاب ، فسبحان الله يجعل من العذب الذي ينقع العطش عذابا يمنع الجريمة . 
وقوله : 
ولهم عذاب عظيم ، أي أنهم يستحقون استحقاق اختصاص وملك ، عذابا عظيما ، كبيرا ليس بصغير ، جزاء ما كان من تشويه فطرتهم ، والطمس على قلوبهم ، عذابا كبيرا ، لا يكتنه كنهه ، ولا يعرف قدره . 
وفي الحقيقة ، إنهم ينالهم عقابان : أحدهما - ما فسدت به طبائعهم وتشوهت به مداركهم ، فإن نزول الإنسان عن مرتبة الإنسان إلى ما دونه من مرتبة الحيوان والخنازير والقردة الذين ينزون إلى الشهوات نزوا هو في ذاته عقوبة مستمدة من ذواتهم . 
العقوبة الثانية أن لهم عذابا عظيما يوم القيامة . والتنكير في 
غشاوة فيه إشارة إلى أنه نوع من أنواعها خاص بهم أساسه التعالي على الحق .