صفحة جزء
وليست التوبة للذين يعملون السيئات بعد أن بين سبحانه الذين أخذ العهد أن يقبل توبتهم، وهم الذين قد كانت حالهم ما ذكره سبحانه، بين حال الذين لا تقبل توبتهم، فقال تعالت كلماته: " وليست التوبة " هنا نفي لوقوع التوبة؛ لأن حقيقة التوبة كما بينا تقتضي أن يكون العبد في فسحة من الوقت تمكنه من معاودة الخير، فمن يقول عند حضور الموت: " إني تبت الآن " ليس بتائب.

وإذا لم تتحقق منه التوبة فإنه لا يستحق من الله تعالى القبول؛ إذ لا موضوع له. [ ص: 1615 ] ومن هم أولئك الذين لا توجد منهم التوبة، حتى لا يتصور قبولها؛ ذكر الله فريقين: فريق العصاة من المسلمين، وفريق الذين يموتون وهم كفار، أما فريق العصاة من المسلمين فقد ذكر لهم وصفين أو أمرين: أحدهما - أنهم يعملون السيئات، أي تتعدد أنواع السوء، وتكثر وتشيع في النفوس، حتى يربد القلب بها ويسود، وهم الذين قال الله تعالى في أمثالهم: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون فالفرق بين هؤلاء ومن سبقوا أن الأولين ارتكبوا في غفوة من الضمير، ولم يمت. وأما هؤلاء فقد مات وجدانهم الديني، كأولئك الذين نراهم سادرين في الفساد وقد استهانوا بكل المحرمات الدينية والتكليفات الربانية. والوصف الثاني: أنهم لا ينطقون بالتوبة في وقت الاختيار، بل ينطقون بها في وقت الاضطرار؛ ولذا قال سبحانه: حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن

أي أنهم يستمرون في غيهم يعمهون، لا يستيقظ لهم ضمير، ولا يقلعون عن معصية، حتى إذا أزفت الآزفة، وحضر الموت، ولم يكن مناص من أخذهم، قال قائلهم: إني تبت الآن، ولم يقل سبحانه عن حالهم إنهم تابوا، بل حكى قول أحد: إني تبت الآن مما يدل على أنهم لم تقع منهم توبة قط، وقوله لا يعد توبة في حقيقته، وإن سماه هو توبة.

وقد ذكر سبحانه من عصاة المسلمين فريقين: أحدهما: الفريق الذي يتوب من قريب وقد ارتكب السوء بجهالة، وقد وعد سبحانه بأنه يقبل التوبة منه، وتفضل سبحانه فجعل القبول حقا عليه، وهو فوق عباده.

والفريق الثاني: أولئك الذين استمروا في غيهم حتى أدركهم الموت. وبقي ثالث لم يذكره سبحانه، وهو الذي لم يتب من قريب، ولكنه تاب قبل أن يحضره الموت، فما شأن هذا الفريق الثالث؛ قال مفسرو السلف إنه يعد قد تاب من قريب، وإن تأخر في الزمان بالنسبة لأجله، ما دام قد تاب قبل أن يحضره [ ص: 1616 ] الموت، وكان في فسحة من الوقت، وقد رووا في ذلك آثارا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، منها ما روي عن عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من عبد يتوب قبل الموت بشهر إلا قبل الله منه " . فمقياس القرب هو ألا تكون التوبة وقت حضور الموت، ووقته علمه بأنها دنت، أما إذا كانت التوبة وهو صحيح يرجو الحياة، فإنها مقبولة، وأجل الإنسان كله قريب. وقد بين سبحانه بعد ذلك الذين لا تقبل توبتهم من غير المسلمين فقال: ولا الذين يموتون وهم كفار

أي أن الله تعالى لا يعتبر توبة الكفار عن ذنوبهم توبة؛ لأنهم لم يؤمنوا، فأساس الطاعات الإيمان. وإن تابوا قبل أن يموتوا وهم في فسحة من الوقت، فإن توبتهم غير مقبولة، وإنما تكون مقبولة إذا آمنوا ولم تكن من قبيل قول فرعون عند الغرق: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين

أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما أي: أولئك الذين لم يتوبوا، هيأنا لهم عذابا مؤلما وجيعا، وهذا يشمل عصاة المؤمنين، والذين ماتوا وهم كفار، غير أن الكفار خالدون في النار، وأما عصاة المؤمنين فبمقدار ذنوبهم . . اللهم نجنا من عذاب النار واقبل توبتنا، ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك

التالي السابق


الخدمات العلمية