صفحة جزء
[ ص: 1617 ] يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا الكلام في الأسرة، وإن حماية الأسرة تكون بحماية ضعفائها، ومن لا يستطيع الذود عن نفسه، ولذلك تكلم القرآن الكريم في شأن اليتامى، ثم في شأن النساء. وقد تكلم سبحانه في الميراث وتقسيمه العادل، وفي هذه الآيات التالية يشير سبحانه إلى نوع من الميراث ظالم، كان من عادات بعض أهل الجاهلية، لم يكن موضوع الميراث فيه مالا، ولا حقا يقبل التوريث، بل كان موضوع الميراث في زعمهم حق امرأة المتوفى في نفسها، فقد زعموا أن من يموت زوجها، لا تكون مالكة لأمر نفسها بموته بل يكون أمر زواجها بيد أوليائه الذين يرثون ماله، فإنهم يرثون مع ماله الولاية على زوجه، فلا تتزوج إلا بإذنهم أو تزويجهم، ولذا قال سبحانه:

يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها

[ ص: 1618 ] صدر النص السامي بالنداء للذين آمنوا، للإشارة إلى أن ذلك لا يتفق مع الإيمان، بل إنه من مظالم الجاهلية. وإذا كان مثله يصدر عن أهل الشرك، فإنه لا يسوغ مع الإيمان، ولا يليق أن يصدر عن المؤمنين؛ لأن حقوق الأشخاص لا تورث، وليست المرأة ولا حق زواجها متاعا يقبل التوريث.

ولقد روى الزهري أنه كان من عادات أهل الجاهلية أنه إذا مات الرجل يلقي ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة، فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها، ولم يعطها شيئا، وإن شاء عضلها من الزواج، أي: منعها منعا مشددا لتفتدي نفسها بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها!!

ومغزى هذه الرواية أنهم يجدون لهم حقا في إمساكها ومنعها من الزواج، بما كان قد دفع لها زوجها من صداق، وبما كان له عليها من حق الإمساك. ونهى القرآن الكريم عن ذلك بقوله: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ومعنى النص الكريم على هذا أنه لا يصح أن يرث أولياء الميت حق تزويج نساء المتوفين كرها عنهن من غير توكيل، فليس الميراث هو ميراث ذات المرأة كزوجة، بحيث يملك زواجها بغير عقد، بل المراد حق تزويجها من نفسه أو من غيره، من غير أن تكون لها إرادة حرة في الزواج.

وبعض العلماء فهم أن المراد من الميراث هو ميراث الزوجية نفسها، بحيث تكون المرأة زوجا من غير عقد، كما فهم آخرون أن المراد لا يحل أن ترثوا أموالهن. ولكن الظاهر من مجموع الروايات، أن المراد بالميراث هو ميراث حق التزويج، وميراث ما أعطيت من صداق. وقد عبر الله سبحانه وتعالى - ولكلامه المثل الأعلى - عن النهي عن هذا العمل بقوله تعالى: " لا يحل " بدل لا ترثوا للإشارة إلى أنه أمر غير مستحسن في ذاته، فهو في ذاته غير حلال وغير لائق، فلا يحتاج في نفي الحل إلى نهي ينشئ التحريم، بل إن الفطرة السليمة تدرك عدم [ ص: 1619 ] حله، وقد كان الجاهليون في ضلال مبين وظلم شديد، إذ كانوا يفعلونه، ولذلك استنكره كثيرون منهم، وكان العمل من بعضهم، لا من كلهم.

ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن العضل هنا معناه: التضييق والتشديد لمنع الزواج، أو الظلم الشديد من الأزواج، وقد قال الراغب في معنى العضل: " العضلة كل لحم صلب في عصب الرجل، ورجل عضل مكتنز اللحم، وعضلته شددته بالعضل نحو عصبته، وتجوز به في كل معنى شديد " قال تعالى: ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن والمراد هنا التضييق الشديد، والخطاب هنا إما أن يكون لأولياء الميت، وتكون " لا تعضلوهن " معطوفة على " أن ترثوا النساء " وتكون ( لا) لتأكيد النفي، والمعنى على هذا: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها، ولا تعضلوهن وتمنعوهن من الزواج لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن، أي لتضيقوا عليهن حتى يتركن حقهن في المهر الذي أخذنه، أو بقي لهن، ومعنى لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن تضيعون حقوقهن، إذ يقال ذهب بالأمر أو بالحق: أضاعه، ومن ذلك قوله تعالى: ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون

هذا احتمال في النص الكريم، وهناك احتمال آخر في توجيه الخطاب، وهو أن يكون ذلك نهيا مستأنفا، محمولا في النسق على نفي الحل السابق، ويكون الخطاب للأزواج، فيكون المعنى على هذا: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها، فتتزوجوهن أو تزوجوهن بغير رضاهن، وكذلك لا تعضلوهن بأن تضيقوا عليهن وتظلموهن وترهقوهن وهن زوجات، لتكرهوهن على طلب التفريق في نظير أن تأخذوا بعض ما آتيتموهن. وإذا كان التضييق لأخذ بعض المهر منهيا عنه، فأولى أن يكون في موضع النهي التضييق عليهن لأخذ المهر كله.

وإنا نختار أن يكون الخطاب موجها للأزواج، ويكون النص السامي قد اشتمل على بيان التحريم في موضعين: أولهما - إكراه المرأة على زواج لا تريده، وذلك بدعوى حقهم في ميراث حق تزويجها. والثاني - النهي عن إكراه المرأة [ ص: 1620 ] على طلب التفريق حتى يضيع عليها بعض حقها في المهر، وبالأولى إكراهها حتى يضيع حقها كله، والمؤدى في الأمرين هو حماية المرأة من أن يتحكم فيها أولياء زوجها ببطشهم، أو يتحكم فيها الزوج بسلطان الغلب والزوجية.

ولكن قد تكون المرأة ظالمة لزوجها، فهل يحل أخذ شيء من مهرها؛ لأنها أفسدت الحياة الزوجية؛ قد بين النص الكريم أنه يحل ذلك بقوله تعالى: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة

الاستثناء هنا منقطع، معناه لكن إن يأتين بفاحشة مبينة يحل أخذ المهر الذي أوتينه أو بعضه، ومؤدى هذا الكلام تحريم وتحليل، أما التحريم فهو ما بين في الكلام السابق، وهو أنه لا يصح أن يعضل امرأته ظالما لها كارها، ويريد طلاقها ويفعل ذلك ليكرهها على طلب الطلاق في نظير ما أعطى كله أو بعضه. وأما التحليل فهو إباحة أن يطلقها في نظير بعض ما قدم لها أو كله، إذا كانت ظالمة له مفسدة للحياة الزوجية. والفاحشة المبينة هي الفاحشة الواضحة المعلنة التي تعلن نفسها، وتكشف أمرها؛ لأن المبين يكون بينا دائما، فعبر عن البين بلفظ المبين مبالغة في وضوحه وبيانه وإعلانه. وما هي الفاحشة؛ قال بعض العلماء هي الزنا، والمعنى أنه يباح في هذه الحال استرداد المهر كله، ولو بغير رضاها، وقد قال الإمام مالك ذلك. والتعبير عن الزنا بلفظ الفاحشة تعبير يجري في القرآن كثيرا، وأصل الفحش الأمر السيئ الذي يزيد عن كل معقول مقبول، فالعقول تمجه في كل صوره ولا شيء أكثر من الزنا في ذلك.

وقال بعضهم: الفاحشة هي النشوز وإفساد الحياة الزوجية بكل طرق العناد والمشاكسة والمباغضة. وقال آخرون: البذاءة والفحش في القول والعمل والمكارهة بالعبارات والفعل. وفي الحق إن الفاحشة البينة الواضحة تشمل كل هذا، وهي في كل صورها إفساد المرأة للحياة الزوجية، وقد اتفق العلماء على أنه في هذه الحال يحل للزوج أن يأخذ كل ما أعطى أو بعضه. [ ص: 1621 ] وهذا هو موضوع قوله تعالى: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها

هذا، وإن الرجل هو الراعي، وهو المسؤول عن هذه الرعية، ولذلك خاطب الله تعالى الأزواج بقوله تعالى: وعاشروهن بالمعروف أمر الله سبحانه وتعالى الأزواج بالعشرة الحسنة، بالمعروف، وإن العشرة هي المخالطة والممازجة بحيث تلتقي النفسان، ومن طبيعتها أن تكون في ألفة لا في نفرة، وقد أطلقت العشرة على المعاملة، والمراد بالمعروف أن يعامل الرجال أزواجهم معاملة تليق بأمثالهن من غير أن يكون منهم ما يستنكر عقلا أو شرعا، أو عادة، فهو يؤنسها ولا ينفرها، ويقربها ولا يبعدها، وكان الأمر بالعشرة الحسنة بعد الإشارة إلى ما قد يكون منهن من نشوز وبذاءة وفحش في القول، لبيان أنه لا يسوغ لرجل أن يفترق لمجرد ظهور النشوز منها، بل يعالجها بالرفق، وإزالة أسباب النفرة إن أمكن. وإن الصحابة- رضي الله عنهم- كانوا يعاشرون أزواجهم على أكمل ما تكون العشرة، ويقربونهن بكل وسائل التقريب، حتى إن ابن عباس كان يقول: إني أتزين لامرأتي كما تتزين لي. وقد يكون سبب النفرة من الرجل نفسه، وإنه ليروى في ذلك أن امرأة ذهبت إلى الإمام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- تطلب الفراق من زوجها، فرأى عمر الزوج، وإذا هو أشعث أغبر خلق الثياب مستطيل الشر، فأدرك بثاقب نظره أن النفرة من هذه الحال، فأجلها وأرسله إلى المغتسل فاغتسل، وألبسه ثيابا حسنة، وأزال شعثه، ثم ناداها، فسألها: أمصرة على ما تطلب؟ فلما رأت زوجها على حاله الجديدة عدلت عن طلب الطلاق.

وإن معاملة المرأة بالحسنى دليل على كمال الرجولة والخلق، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي " . [ ص: 1622 ] ثم بين سبحانه وتعالى أنه لا يصح للرجل أن يسترسل في كراهيته إن عرضت له أسباب الكراهية، بل يتعرف المحاسن، ولا يقتصر على النظر إلى المساوئ، ولذا قال تعالى: فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا

إن العشرة الحسنة مطلوبة ولو في حال كراهية الزوج لزوجته، فإنه لو أظهر الكره لكانت المباغضة، ولاسترسل في غواية تضله، فيصر على الكراهية، وقد كان في الإمكان أن يرى فيها المسرة بدل المضرة، وأسباب المحبة بدل البغض.

وإن النص الكريم يشير إلى معنى سليم، ويدعو إلى إدراك معان مختلفة كثيرة: أولها - أن ينظر إلى الحياة الزوجية من جميع نواحيها، لا من ناحية واحدة منها، وهي البغض والحب، فينظر إلى مصلحة أولاده، وإلى نظام بيته، وإلى محاسنها بدل أن ينظر إلى مساويها. وثانيها - أن يفكر في من يعقبها: أهي خير منها أم لا؛ وثالثها - أن ينظر في شأن العلاقة بعين العقل والمصلحة المشتركة لا بعين الهوى المسيطر الجامح. ورابعها - وهو أعظمها أن ينظر إلى المسألة بالقلب الديني، وأن يتذكر في وقت الكراهية العشرة الحلوة السابقة، ولذا قال الله سبحانه وتعالى: فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا والخير الكثير يتكشف للرجل في الأمر المكروه بإحدى حالين: إما بالنظر الثاقب الذي يتغلب فيه العقل على الهوى، وإما بعد فوات الوقت، فيعرف الخير الذي فاته بفعله، فلا يمكن التدارك، ويكون الندم المرير، ولات حين مندم.

وإن هذا النص يشير إلى معنى جليل عام لا يخص الحياة الزوجية وحدها،

وهو ألا يبت في الأمور تحت تأثير الكراهة، فإنها عارض وجداني قد يزول، وقد يكون في المكروه الخير الكثير الذي غاب عنه في وقت إدراكه، فيفوته النفع العظيم تحت تأثير الكراهية التي قد يبعث عليها أمر حسي عارض. وفي الحديث الصحيح. " لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقا رضي منها آخر " والفرك [ ص: 1623 ] البغض الكلي الذي تنسى فيه كل المحاسن. وروى مكحول عن ابن عمر أنه كان يقول: " إن الرجل ليستخير الله- تعالى- فيخار له، فيسخط على ربه عز وجل، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة، فإذا هو قد خير له " .

التالي السابق


الخدمات العلمية