صفحة جزء
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم

* * *

إن الله سبحانه وتعالى نفى استطاعة العدالة بين النساء نفيا مؤكدا، لأن حرف (لن) لتأكيد النفي، فالعدالة بمعنى تنفيذ كل الحقوق المقررة والواجبات النفسية أمر غير ممكن مهما يكن حرص الإنسان على العدالة.

وقد فرض العلماء أن هذه العدالة غير الممكنة لا تكون إلا إذا كان الرجل ذا زوجين فأكثر، وذلك ظاهر; لأن العدالة النفسية بالمساواة في الإقبال القلبي والمحبة أمر غير ممكن; لأن الناس بحكم الخلقة لا يملكون نزعات نفوسهم وميول قلوبهم، ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقسم بين زوجاته في كل ما هو ظاهر كالمبيت والكسوة والنفقة، وكل ما يتعلق بصورة الحياة الزوجية، ولكنه وهو أكمل البشر لم يستطع العدالة النفسية، ولذلك كان يقول -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك".

وقد ادعى بعض الكتاب في أول هذا القرن العشرين الميلادي وتبعه غيره، أنه بضم آية فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة [النساء]، إلى هذه الآية التي نتكلم في معناها يكون منع تعدد الزوجات، وما هكذا تفهم النصوص في [ ص: 1885 ] القوانين فضلا عن نصوص القرآن فإن البداهة تتجه إلى التوفيق، والتوفيق يبدو بادئ النظر، وهو أن هذه الآية موضوعها نفسي، والآية التي في صدر السورة موضوعها العدالة الظاهرة، وقد وضح هذا المعنى النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رويناه، وهو عجزه عليه الصلاة والسلام عن العدالة النفسية، وعلى فرض أن التوفيق غير ممكن إن سايرنا تلك المدارك المحدودة، فإن المتأخر ينسخ المتقدم. والمتأخر هو هذه الآية التي نتكلم في معناها، وهي تطالب بالعدالة المطلقة، بل طالبت بالممكن فقال تعالى: فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا

المعلقة هي التي تهمل نفسيا ومعنويا وحبا ومودة، فلا هي ذات زوج تنال الحقوق الزوجية أو بعضها، ولا هي خالية الأزواج، ترجو أن يوفقها الله تعالى وهذا تشبيه بالشيء المعلق بشيء من الأشياء، لأنه لا يكون قد استقر على الأرض، ولا ما علق عليه تحمله، أو يستطيع تحمله.

وإنه لأجل الوصول إلى هذا الحل الذي لا يكون فيه شطط يجب التدخل لإصلاح ذات البين، ولذا قال الله تعالى: وإن تصلحوا وتتقوا وهذه هي المرتبة الثانية من الشقاق التي يتعذر فيها على الزوجين أن يقوما بعلاجها، ولذا يستمد العلاج من المتصلين بهما وهو المنصوص عليه في قوله تعالى: وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما [النساء]، وعند التدخل للإصلاح يجب أن تكون تقوى الله هي التي تحكم الحكمين ولذا قرن الإصلاح بالتقوى، فإن كان إصلاح القلوب مع تقواها، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر ما عساه يكون من تجاوز للحد قبل ذلك، ولذا ختم سبحانه وتعالى هذا الجزء من العلاج بقوله: فإن الله كان غفورا رحيما أي أن غفرانه البالغ ورحمته الواسعة المستمرة المؤكدة يفيضان على المصلحين المتقين، فإن لم يجد هذا كانت المرتبة الأخيرة، وهي الفراق، ولذا قال سبحانه:

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية