صفحة جزء
[ ص: 1894 ] يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا

* * *

في الآيات السابقة أمر الله بالعدل، ولو كان في مصلحة الكافرين، وأمر بالعدل بين الأزواج، وإنه أساس قيام الأسرة، وإن كان العدل في الأسرة أمرا شاقا، لأنه يتصل بالنفوس، لا بالأمور المادية. إذ العدل في الحقوق الظاهرة يكون سهلا ليس صعبا، أما المساواة في الأمور النفسية فمن الأمور التي تشق على النفوس. ثم بين سبحانه وتعالى سلطانه الكامل، ورقابته على الأعمال ما ظهر منها وما بطن، وتستوي في ذلك أعمال الجوارح، وأعمال القلوب وخلجات النفوس، وفي هذه الآية يبين أن العدل خاصة أهل الإيمان، وقد أمر الله به المؤمنين، لأنه مقتضى الإيمان، وهذا العدل يعم العدو والولي على السواء.

ولذلك قال سبحانه:

يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله النداء (يا أيها) للتنبيه، وقد اختير اللفظ الدال على النداء للبعيد لتعظيم التنبيه إلى الأمر الخطير الذي يدعوهم إليه، وهو العدالة التي بها ميزان السماء والأرض، والتي هي دعامة الإسلام الأولى، وسمته ومظهره، ومعنى "قوامين" أن تقوموا على القسط وهو العدل وترعوه حق رعايته، فـ"قوام" صيغة مبالغة من قام بالأمر، وقام عليه وتعهده، وهو أبلغ من "كونوا عدولا"، لأن القوام بالعدل تكون فيه خصال ثلاث:

أولاها: أن يعدل في ذات نفسه، فلا يظلم أحدا.

والثانية: أن تكون العدالة شأنا ملازما له لا يفترق عنه، لتكون كالسجية من سجاياه، والملكة من الملكات. [ ص: 1895 ] وثالثها: أن يرعى العدل في غيره، فلا يعدل فقط في القضية التي تعرض عليه ليقضي فيها، بل يعمل على منع الظلم حيث كان، وأيا كان، فليس قواما بالقسط من يرى مظلوما يظلم، أو ضعيفا يهضم، ولا يمنع الاستمرار في ظلمه، ولو لم يكن قاضيا يحكم بين الناس، وهذا تطبيق لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم".

وقد أمر الله تعالى بالعدل بهذه الصيغة فقال: كونوا قوامين بالقسط فلم يقل تعالت كلماته: "اعدلوا"، أو "قوموا بالقسط"، بل قال سبحانه: (كونوا) وهذا التعبير يقتضي أمرين:

أحدهما: أن يروضوا أنفسهم على العدالة، ويربوها ويعلموها لشباب هذه الأمة، ويفطموا النفوس عن شهواتها، فإنه لا يذهب بالعدل إلا الشهوة، فليربوا أنفسهم على السيطرة عليها، وجعلها أمة ذلولا، لتكون النفس عادلة دائما.

وثانيهما: أن ينصبوا أنفسهم لنشر لواء العدل، فلا يتركوا ظالما يرتع، ولا مظلوما يخضع، سواء أكان الظالم فردا أو جماعة، أم كان أمة، فأمة العدل يجب أن تكون قوامة بالعدل.

وإن القوامة على العدل توجب عدالة الإنسان في نفسه، وأهله، وولده، وصحبه، وكل من يتصل به، وتوجب منع الظلم أنى يكون، وتوجب العدل في الولاية والقضاء، والصلح بين الناس.

وهناك أمر هو سبيل الحق، وطريق معرفته، وهو الشهادة، إذ هي السبيل للعدل في القضاء والولاية والصلح، وهي سبيل إحقاق الحق، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: شهداء لله [ ص: 1896 ] ومعنى الشهادة لله تعالى، أن يقول الحق طلبا لرضا الحق جل جلاله، لا يلتفت إلى رضا المخلوق، أيا كان ذلك المخلوق، فإن تحري رضا المخلوق قد يذهب بالحق، ويضعف سلطانه، وإن الشاهد إذا لاحظ جانب الله في شهادته قال الحق من غير تلعثم ولا اضطراب، وأفاض الله تعالى عليه نورا، فلا يضل في شهادته، ولا يخطئ ناحية من نواحي الحق.

وقد فهم بعض المفسرين أن قوله تعالى: شهداء لله حال من الذين آمنوا، والمعنى على هذا كونوا قائمين بالحق حال كونكم شهداء به لله تعالى، وعلى هذا التفسير تكون القوامة على الحق مقصورة على الشهادة غير عامة. وقد ضعفه أكثر المفسرين. وجمهورهم على أن قوله تعالى: شهداء لله خبر بعد خبر، أي أن هناك أمرين طلبهما المولى جل شأنه:

أولهما: القوامة بالقسط، وهذا عام للشهادة وغيره.

وثانيهما: أنه خص الشهادة بالذكر، لأنها السبيل للحق، والشهادة لأجل رضا الله تعالى هي السبيل لكل عدل وكل حق.

والشهادة لله تعالى توجب ألا يحابى قريب لقرابته، ولا يحابى غني لغناه، ولذا قال تعالى:

ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين والمعنى اجعلوا الشهادة لله تعالى فلا تنطقوا إلا بالحق، ولو أدى ذلك إلى أن تكون العاقبة ألما ينزل بالوالدين والأقربين، فالمحاباة على حساب الغير ظلم، وصلة الرحم لا تبرر الظلم، وليس من الإحسان إلى الوالدين أن تقرهما على الظلم، وترضى لهما أن يأكلا الحقوق، كما أنه لا يصح أن تكون الرحمة بالأقارب الأقربين طريقا للظلم، فإن هذه لا تكون رحمة حقيقية، ولكنها شفقة جنونية، فالأولى حملهم على الحق، وذلك بأداء الشهادة لله، وبالحق.

وقد يسأل سائل: ما معنى الشهادة على النفس، وقد أجاب عن ذلك المفسرون بأن الشهادة على النفس هي الإقرار عليها بما ارتكبت، وقد قال [ ص: 1897 ] الزمخشري أن يشهد بما يؤدي إلى وبالها، بأن يشهد على سلطان ظالم فيؤذيه، وقد قال في ذلك -رضي الله عنه-: "ويجوز أن يكون المعنى وإن كانت الشهادة وبالا على أنفسكم أو على آبائكم وأقاربكم، وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره".

وإنه بهذا الذي قرره جار الله الزمخشري ننتهي إلى أن الشهادة على الوالدين والأقربين تكون بإلزامهم بحقوق عليهم مباشرة، وتكون بالنسبة للأنفس بالإقرار بإلزامها، وتكون بالشهادة في الأمور التي ربما تؤدي إلى الإضرار بهم كشهادتهم في أمر عام قد يؤدي إلى حرمانهم من المزايا التي يطلبونها، كمن يشهد بمجرى ماء لشخص تؤدي إلى حرمانهم من بعض ما يبغون، وقد تكون بالشهادة على أصحاب السطوة الذين يؤذون من يشهد عليهم ... وهكذا.

وإنه قد قال قتادة في معنى هذه الآية: "أقم الشهادة يا ابن آدم، ولو على نفسك أو الوالدين، أو الأقربين، أو على ذي قرابتك، وأشراف قومك، وإنما الشهادة لله، وليست للناس، وإن الله تعالى رضي بالعدل لنفسه، والإقساط والعدل ميزان الله في الأرض، به يرد الله من الشديد على الضعيف، ومن الكاذب على الصادق، ومن المبطل على المحق ... وبالعدل يصلح الناس".

وقد يكون سبب الانحراف في العدل أو الشهادة أن تكون الخصومة بين غني وفقير، فقال سبحانه:

إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما أي لا يصح أن يكون اختلاف المتخاصمين أو المتعاملين، أو المشتركين غنى وفقرا سببا في اجتناب العدالة، فلا يمنع الغني حقا لغناه، ولا يعطى أحد غير حقه لفقره، كما لا يصح أن يحابى الغني أو يعفى من العقاب لجاه ماله، ويعاقب الفقير بعقوبة أشد لفقره، فالفقر والغنى بأمر الله تعالى، ولذا قال: فالله أولى بهما أي فالله سبحانه وتعالى هو الأولى والأجدر بحساب الغني والفقير، وهو الذي رتب الحقوق والواجبات، وقسم الأموال بحكمته، ونظمها بإرادته، وهو الأعلم بمصالح العباد، وهو الذي [ ص: 1898 ] يتولى النظر لكليهما بعين رحمته، ويفيض هدايته، روى ابن جرير عن السدي أنه قال: نزلت في النبي -صلى الله عليه وسلم-، إذ اختصم إليه رجلان، غني وفقير، وكان ضلعه مع الفقير، يرى أن الفقير لا يظلم الغني، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير: إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما

وإن الذي يستفاد من هذه الرواية مع أصل النص الكريم أن الغنى أو الفقر لا يصح أن يكونا سببا في التفاوت في الحكم; لأن الله هو الذي نظم الكون بما فيه ومن فيه، فهو الذي أراد للفقير الفقر مع الأسباب، وأراد للغني الغنى مع الأسباب الظاهرة لدينا، والمصلحة الإنسانية هو سبحانه وحده قدرها، فهو أولى بأن يكون الغني له لأنه هو الذي منحه، وأن يكون الفقير له لأنه هو الذي منعه، فابتلى الأول بالمال، وابتلى الثاني بالحرمان.

هذا حكم الله، وقد رأينا ناسا يحاربون الغنى، ورأينا مع الأسف قضاة يمنعون بعض الحقوق، ويمنحون باسم الغنى والفقر. فهذا "محمد" خير البشر عندما علم الله -الذي يعلم السر وأخفى- أنه يضلع مع الفقير بقلبه، ذكره بأن الله أولى بالغني والفقير، وأنه مقسم الأرزاق، فكيف يسوغ لأحد من البشر أن يظلم غنيا لماله؟! أو يحابيه لذلك.

وقال الزمخشري : "فإن قلت: لم ثنى الضمير في أولى بهما وكان حقه أن يوحد، لأن قوله: إن يكن غنيا أو فقيرا في معنى إن يكن أحد هذين - قلت: قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله: إن يكن غنيا أو فقيرا إلى المذكور، فلذلك ثنى ولم يفرد، وهو جنس الغني وجنس الفقير، كأنه قيل: فالله أولى بجنسي الغني والفقير، أي بالأغنياء والفقراء". . وفي هذا التخريج الذي ذكره الزمخشري إشارة إلى أن الغنى والفقر أمران ثابتان في هذا الوجوب، لا يمكن أن تخلو منهما الجماعة الإنسانية، لأن ذلك تنظيم الله تعالى، وإرادته الخالدة، وهو الذي يتفق مع الطبيعة الإنسانية; لأن القدر متفاوتة والأعمال مختلفة، ونتائج الأعمال كثمرات الزرع والشجر، تختلف باختلاف ما يزرع وما يغرس، وإن [ ص: 1899 ] اتحدت الأعمال فقدر الله تعالى يسير الوجود، هذان زارعان يزرعان في قطع من الأرض متجاورات يبذران بذرا واحدا، وتسقى أراضيهما من ماء واحد، ومع هذا فذلك يأتي بزرع طيب، والآخر يأتي برديء، أو هذا يبيع بسعر جيد، وذاك يتأخر شهرا أو يتقدم شهرا فيبيع بسعر دون الأول، فمن ظن أنه يستطيع إزالة ما بين الغنى والفقر، فإنه يظن أنه يستطيع مغالبة القدر.

وإن الميل في الشهادة أو في الحكم عن الحق سببه هو اتباع للهوى، ولذا نهى الله تعالى عن اتباع الهوى فقال:

فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا "الفاء" هنا هي التي تسمى فاء الإفصاح; لأنها تفصح عن شرط مقدر، كأنه يقول إن اتجهتم إلى الحق تطلبونه، فلا تتبعوا الهوى بل اتبعوا داعي العقل وحكم الشرع، والهوى هو الخضوع للشهوات، وعدم الخضوع لحكم العقل، وما يوجبه الشرع، ومن اتباع الهوى الخضوع للنزعات الوقتية، والظاهر، وعدم البحث عن ذات الحقائق، فمن الخضوع للهوى أن تمنع الغني حقا لمجرد أنه غني، وتحابي الفقير لمجرد أنه فقير، فهذا من قبيل الخضوع لمجرد الإحساس من غير تفكير وبحث عن الحقائق، فإن الغني لا يحل ظلمه، والفقير لا يقر على ظلم.

ومعنى النص الكريم: فلا تتبعوا الهوى وتجنبوه لكي تعدلوا، وتتجهوا إلى الحق من غير تعويق من العواطف أو الأحاسيس التي تلقى وهما لا حقيقة، فقوله تعالى: أن تعدلوا في مقام بيان الغاية لعدم اتباع الهوى، فهو تعليل للنهي، ولا حاجة فيه إلى تقدير، ومؤدى الكلام على ذلك نهيتم عن اتباع الهوى لتعدلوا.

والكثيرون من المخرجين على تقدير محذوف، والمعنى على ذلك لا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق إن اتبعتم الهوى، فإن الهوى من القاضي أو الشاهد يذهب بالحق ويضيعه، وإن هذا التخريج فيه تقديران: [ ص: 1900 ] أولهما: كلمة مخافة

وثانيهما: تقدير أن تعدلوا عن الحق.

والأظهر، والأكثر اتفاقا مع السياق والنسق البياني هو التخريج الأول، وما لا يحتاج إلى تقدير أولى مما يحتاج إلى تقدير.

وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا قراءة الجمهور في هذا النص الكريم بواوين "وإن تلووا"، وقرأ حمزة وبعض الكوفيين بواو واحدة، "وإن تلوا أو تعرضوا".

ومعنى النص على القراءة الأولى وإن تلووا في الحكم أو في الشهادة بأن تحكموا بغير الحق، أو تشهدوا بغير الحق، أو تحرفوه، أو توجهوا الكلام إلى غير وجهته في الشهادة بأن تظهروا في الكلام معنى، وتعرضوا بغيره قاصدين له لكيلا تكون الشهادة على وجهها، فإن كل هذا لي للكلام، إذ لي الكلام تحريفه وتوجيهه إلى غير وجهته السليمة، وذلك يشمل قول الباطل والحكم به، وتلوية مقاصد القول وإبهامه والإعراض معناه الامتناع المطلق عن الشهادة أو الحكم، وجواب الشرط هو التهديد الشديد بالعذاب الأليم، تضمنه قوله سبحانه: فإن الله كان بما تعملون خبيرا

أي أن علم الله المستمر الذي يعلم به دقائق الأشياء والنفوس وخفاياها قائم على أعمالكم وقلوبكم، وظواهركم وبواطنكم فاحذروه. اللهم اجعلنا من القوامين بالقسط، الشهداء بالحق، الذين لا يتبعون الهوى، ولكن يعدلون في أنفسهم وذويهم وأهليهم، وما ولوا.

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية