صفحة جزء
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون

[ ص: 2303 ] بين سبحانه ضلال اليهود وما كان ضلال فكر، بل ضلال قلب؛ ذلك لأنهم عرفوا الحق، ولكن حقد قلوبهم وحسد نفوسهم منعهم من الإذعان للحق الذي تبين لهم، وأدركوه، وطمس الله عليهم فجعل قلوبهم غلفا لا ينفذ الحق إليها، وبعد ذلك ذكر ضلال النصارى، وكان ضلالهم ضلال العقل الذي انحرفوا به تحت تأثير وثنية قديمة، أو فلسفة واهمة سيطرت في زمانهم. فكان الضلال ضلال فكر انحرف فاعتنقوا غير المعقول، وآمنوا بما هو مستحيل، ولا عجب في ذلك إذ استهوت العقول أفكار منحرفة شردتهم عن الجادة المستقيمة، وقد أخذ سبحانه يصور كفرهم فقال تعالت كلماته: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم أكد الله سبحانه وتعالى كفر الذين قالوا: إن الله -تعالى الله عما يقولون- هو المسيح ابن مريم، ويظهر أنه كان من هؤلاء الذين انحرفت عقولهم من زعم أن الله تعالى حل في جسم فكان هو المسيح، مع أنهم يقرون أن مريم ولدته، وأن منهم وهم الأكثرون من يقولون: إنه ابن الله قد حلت فيه الألوهية، وهم بهذا الاعتبار قد قالوا: إن الله هو المسيح باعتبار أن الألوهية حلت فيه، وأنه الإله أو ابن الإله.

وحقيقة -هذه النصرانية التي انحرفت عن أصل الديانة- المسيحية التي جاء بها المسيح، أنه بعد أن ترك المسيح هذه الدنيا تعرض المسيحيون لاضطهادات شديدة استمرت نحو ثلاثة قرون كانوا فيها يفرون بدينهم ويختفون وتحرق كتبهم، حتى صار أصل العقيدة معرضا لمنازع مختلفة، ولكن التوحيد هو السائد الغالب، وما أن رفع الاضطهاد عنهم، حتى تعرضوا لفتنة أشد من الأذى البدني، فتعرضوا لأذى في العقيدة ذاتها، وهو أشد وأنكى، إذ أدخلت الوثنية في النصرانية بتأثير قسطنطين ملك الرومان، ولنترك الكلمة لابن البطريق النصراني يتكلم عن الأهواء التي دخلت في عقول المسيحية، فقد فال عن "مجمع نيقية" الذي أعلن ألوهية المسيح، والذي انعقد لمنع دعاية الوحدانية التي حملها أسقف اسمه أريوس، ويتبعه في فكرته أكثر المسيحيين قال ذلك النصراني:

[ ص: 2304 ] (بعث الملك قسطنطين إلى جميع البلدان فجمع البطارقة والأساقفة، فاجتمع في مدينة نيقية ثمانية وأربعون وألفان من الأساقفة مختلفين في الآراء والأديان، فمنهم من كان يقول إن المسيح وأمه إلهان من دون الله؛ وهم البربرانية، ومنهم من كان يقول إن المسيح من الآب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية عنها، وهي مقالة سابليوس وشيعته، ومنهم من كان يقول: لم تحمل به مريم تسعة أشهر، وإنما مر في بطنها، كما يمر الماء في الميزاب; لأن الكلمة دخلت في أذنها، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، وهي مقالة إليان وأشياعه. ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وإن ابتداء الابن من مريم، وإنه اصطفي ليكون مخلصا للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية، وحلت فيه بالمجد والمشيئة، ولذلك سمي ابن الله، ويقولون: إن الله جوهر قديم وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس، وهي مقالة بولس الشمشاطي بطريرك أنطاكية وأشياعه، ومنهم من كان يقول: إنهم ثلاثة آلهة لم تزل صالح وطالح وعدل بينهما، وهي مقالة مرقيون اللعين وأصحابه، وقد زعموا أن مرقيون هو رئيس الحواريين، وأنكروا بطرس. ومنهم من كان يقول بألوهية المسيح، وهي مقالة بولس الرسول، ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا).

هذه هي الأهواء والآراء التي كانت تذكر في الجماعات المسيحية وظهرت عندما زال الاضطهاد، وحل محله الأمن، ولم يذكر ما كان يقرره أريوس الذي انعقد المجمع لإنهاء دعوته، والحق أن دعوة أريوس كانت هي البقاء على الوحدانية، فقد قرر كتاب تاريخ الأمة القبطية أن دعوة أريوس كانت منتشرة وكانت عامة وكان السائد عند الكثيرين إنكار ألوهية المسيح، فقد كانت كنيسة أسيوط على هذا الرأي، وكان للرأي الأصيل رأي أريوس مشايعون في فلسطين ومقدونية والقسطنطينية.

ولكن أريد تحويل المسيحية من التوحيد إلى الوثنية قبل أن يدخل فيها قسطنطين فانتقل للرأي الذي يتفق معها وهو ألوهية المسيح، فأعلن موافقته على [ ص: 2305 ] رأي 318 (ثمانية عشر وثلاثمائة) من جمع عددهم ثمانية وأربعون وألفان، واضطهد من عداهم، وقامت منازعات بين الوحدانية والوثنية، حتى اختفت أصوات الوحدانية في الأوساط النصرانية.

وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم في هذا النص الكريم بيان لحقيقة الدعوة التي دعا إليها عيسى -عليه السلام- ونفى نفيا مطلقا ادعاءاتهم الألوهية له؛ فقد كانت دعوته التي كان موطنها بني إسرائيل، وانبثق نورها من أوساطهم إلى غيرهم من الناس، هي إلى التوحيد في العبادة؛ إذ لا ألوهية سواه، وزكى التوحيد بقوله: ربي وربكم فإن هذا النص يمنع الألوهية من نواح ثلاث: الناحية الأولى: إثبات أن الله هو ربه الذي خلقه ونماه، وأنشأه كما أنشأ غيره، والناحية الثانية: التسوية بينه وبين غيره من الخلق في التكوين والإنشاء والتربية، فهو في هذا لا يفترق عن أحد من البشر، والناحية الثالثة أنه لا يمكن أن يكون فيه عنصر الألوهية; لأن الله تعالى رباه ونماه، كما كان بالنسبة لغيره، وليس مما يسوغ للإله أن يأكل ويشرب وينمو كسائر البشر. فذاته العلية منزهة عن الأحداث، ولا يليق بها الاحتياج.

وفي النص الكريم إشارة إلى جريمة من جرائم بني إسرائيل، وهي أنهم كذبوا المسيح عليه السلام - وناوءوه كما ناوءوا محمدا؛ إذ كفروا بالمسيح مع أنه رسول إليهم، وهموا بقتله، وادعى النصارى أنهم قتلوه، وإن هذه الدعوة التي نادى بها المسيح بين ظهرانيهم وفي قوم لم تجد أرضا خصبة في أوساطهم، وحرضوا على المسيح عليه السلام واستمر الاضطهاد للنصارى، حتى غيرت وبدلت لهم في ذلك يد فعالة، وعليهم من وزرها قسط كبير.

وقد حذر المسيح من الشرك، فقال ناهيا محذرا: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار

ظاهر السياق أنه من كلام السيد المسيح -عليه السلام- لبني إسرائيل الذين كانوا أول من وجه إليهم دعوته، ويصح أن يكون ذلك الكلام مستقلا عن كلام السيد [ ص: 2306 ] المسيح، وأنه تقرير لمقام الوحدانية في العبادة، وأنه لا عبادة من غير وحدانية، وأن الشرك ينفي العبادة، بل تكون ضلالا والإشراك بالله يتناول ثلاث شعب: إشراك في الذات، فيجعل ذات الله تعالى كذات الحوادث، وإشراك في الخلق، فيحسب المشرك أن لغير الله تعالى أثرا في الخلق والتكوين، وإشراك في العبادة.

والنصارى قد أشركوا في هذه النواحي كلها؛ فحسبوا أن الله تعالى ليس منزها حتى يتصف بصفات الحوادث، زعموا أن الله تعالى يكون له ولد، كما يكون لغيره ولد، وأن هذا الولد شاركه في الخلق والتكوين وأنه يعبد معه، بل لا تكاد تجد ذكرا لعبادة الله تعالى من غير إشراك غيره.. إن الشرك لظلم عظيم

وجزاء ذلك الشرك أن الله تعالى يحرم به الجنة، بمنعه منها فلا يدخلها، وهذه عقوبة سلبية، فالحرمان عقاب ومنع النعيم عقاب، وهناك عقوبة إيجابية، وهي دخول النار، وإذا كانت الجنة محرمة فمكان إيوائه النار يدخلها ويخلد فيها أبدا، وإنها للجنة أبدا، وللنار أبدا.

ولا يمكن أن ينجيهم من العذاب أحد، ولذلك قال تعالى: وما للظالمين من أنصار أي: أنه ليس لظالم من الظالمين نصير قط؛ فالتعبير بقوله: من أنصار أي: أنه لا نصير قط لا من كبير يخاف، ولا من صغير يرجى.

التالي السابق


الخدمات العلمية