صفحة جزء
قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث

أمر الله تعالى نبيه أن يذكر لهم أن الخير والشر لا يستويان، وأن الخبيث والطيب لا يتساويان، فلا يمكن أن يكون معاملة أهل الخبيث كمعاملة أهل الطيب، وأمر الله تعالى نبيه أن يقول ذلك، ويبينه للناس على أنه جزء من رسالته يبينه للناس ويعرفهم به أو يذكرهم إياه وهو ما ترتضيه الفطر السليمة وتدركه العقول المستقيمة، وهو بيان لطبائع هذا الوجود.

والخبيث هو الأمر المستقذر؛ إما لأنه في ذاته قذر تعافه النفوس والطبائع السليمة، وإما لأن سبب الحصول عليه خبيث، فجاءه الخبث من سببه، إذ انسحب السبب على المسبب فلوثه، وإما لأنه مخل بالمروءة، فالمستقذر هو [ ص: 2369 ] الخبيث، وهو حسي، وأدبي، والطيب ما يكون حسنا في ذاته وفي طريق كسبه، وترضاه النفوس المستقيمة والعقول المدركة، وتأتي الشرائع بإباحته.

وإذا كانت تلك هي القاعدة الإنسانية العالية، والعادلة، فإنه لا بد من عقاب المسيء، وثواب المحسن، ولكن الباطل له لجاجة وفيه كثرة؛ لأنه مجاوبة للذائذ الشهوات، وما يستلذ يكثر، وما يطاوع الهوى يزيد، وما يكون فيه صبر وضبط نفس يقل، وإن كان طيبا، ومهما يكثر الشر لن يتساوى مع الخير؛ ولذا قال سبحانه: ولو أعجبك كثرة الخبيث أي: ولو أثار نفسك وعجبك واسترعى نظرك كون الخبيث كثيرا، إن الشر مهما يكثر لا يمكن أن يستحسن شرعا أو ترضى به الأخلاق، ولا يمكن أن ينقلب بالكثرة مساويا للخير بل إنه كلما كثر، وجبت مقاومته بشدة، وبمقدار كثرته تكون شدة المقاومة؛ وذلك فرق ما بين شريعة الله تعالى وقوانين العباد، فإن قوانين العباد، تستمد قوتها من الكثرة، وعرف الناس، ولو كان فاسدا، أما شريعة الله، فهي للخير المحض، وإذا كثر الشر لا تتبعه، بل تقاومه، ولا ترضى به، لأنها جاءت لنشر الخير، ولا يمكن أن ترضى، وإلا ما كانت رسالات الرسل، ولا جهاد الأنبياء والصديقين والشهداء الصالحين، ولذلك أمر سبحانه بمقاومة الشر مهما كثر، فقال تعالت كلماته: فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون قال الله تعالى في الآية السابقة: لا يستوي الخبيث والطيب وأن هذه الجملة السامية تصلح الكبرى لقياس طويت صغراه، وهي مفهومة من قوله تعالى: اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم إذ الكلام يكون هكذا، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى الذي لا يصل إلى مثله البشر، لا مساواة بين الخير والشر، والله يعاقب على الشر، ويثيب على الخير، والنتيجة لهاتين المقدمتين، أن الأشرار سيعاقبون، والأخيار سيثابون لا محالة، ولازم هذه النتيجة أن يحذر الناس فيرجوا ثواب الله ويخافوا عقابه، وذلك الحذر يكون بتقوى الله تعالى بامتلاء القلب بخشيته، والعمل على اتقاء عذابه; ولذا قال: [ ص: 2370 ] فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون أي: إذا كان كل امرئ مجزيا بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فاملئوا قلوبكم بتقوى الله وخشيته وملاحظة أنه يعلم ما تبدون وما تكتمون، فاعبدوه كأنكم ترونه، فإن لم تكونوا ترونه، فاعلموا أنه يراكم، وهو يعلم سركم وجهركم، فإن خشية الله تعالى في أعمالكم على هذا النحو يرجى منها الفلاح والفوز; لأنها سبب لذلك، فالرجاء في: لعلكم من العبيد، لا من الله; لأنه سبحانه يرجى ولا يرجو إنه بكل شيء عليم.

التالي السابق


الخدمات العلمية