صفحة جزء
(الطريقة المثلى )

وإن الطريقة المثلى التي توصل إلى الغاية في فهم القرآن ، وتعرف معانيه ، وإدراك دلائل إعجازه هي الاعتماد على النقل والعقل ، فلا يصح الاقتصار على النقل وحده ، ولا على العقل وحده ، وإنما النظر الأمثل هو أن يعتمد على العقل والرأي وعلى السماع من أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فهم القرآن ، فظواهر القرآن من الألفاظ ، والآثار التي تعاضد الظاهر ، لا تكفي وحدها بل تساعد العقل ، وتفتح له السبل لاستخراج معاني القرآن المتسعة الأفق البعيدة المدى التي توجه الفكر إلى أعمق الحقائق العلمية والكونية والنفسية ، وكلما تفتح العقل في ظل إدراك الألفاظ وظواهر اللغة أدرك إدراكا صحيحا ما تشير إليه الحقائق الكونية ، وما يشير إليه القرآن .

[ ص: 36 ] وإنه كلما اتسع أفق العقل البشري في فهم الكون والحقائق والشرائع اتسع فهمه للقرآن الكريم ، ولعل هذا هو الحقيقة التي أشار إليها بعض الصحابة ، إذ روي عن أبي الدرداء أنه قال : " يفقه الرجل ، حتى يجعل للقرآن وجوهاء أي اتجاهات متلاقية ، ولكن بعضها أعمق من بعض ، وكله حق .

وروي عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن للقرآن ظاهرا وباطنا وليس هو الباطن الذي يقوله الباطنية ، إنما الباطن الذي أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الباطن الذي تدل عليه إشارات العبارات القرآنية ، من أسرار الإعجاز البياني ، وإلى ما تشير إليه من حقائق كونية ونفسية وخلقية وأحكام عملية ، وغير ذلك من المعاني التي يدركها العالم المتعمق ذو البصيرة النيرة الذي آتاه الله تعالى نفاذ بصيرة ، واستقامة فكر ، كالذي يدركه علماء الأكوان في قوله تعالى : أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ، فالمعنى الظاهر لكل ملم باللغة العربية هو أن السماوات والأرض كانتا متصلتين ، وهذا معنى سليم هو الظاهر ، والعالم المدرك للأكوان الباحث فيها يعرف كيف كانت السماء والأرض كتلة واحدة ، وكيف انفصلت الأرض وتكونت عليها القشرة الأرضية ، وكيف كان الماء العذب ، والملح الأجاج .

وهكذا نجد أن كل تال للقرآن يدرك من معانيه بمقدار إدراكه وعلمه .

والغزالي يقرر أن المعاني اللغوية ، وما يشير إليه النقل والسماع هو المفتاح والطريق للمعنى العميق الذي يدركه الناس كلما تفتقت العقول واتسعت المدارك واطلعت على حقائق الكون ، وأدركت معاني الآيات الطالبة للنظر في الكون ، فهو اللوح الذي كتبت فيه حقائق هذا الوجود ، وفيه الدلالة على وجود الله تعالى ، وإبداعه . ويقول الغزالي في ذلك : " العقل والسماع لا بد منهما في ظاهر التفسير أولا ; ليتقى به مواضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط واستخراج الغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع ، ولا مطمع في الدخول إلى الباطن قبل إحكام [ ص: 37 ] الظاهر ، ومن ادعى فهم أسرار القرآن وهو لم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن يريد البلوغ إلى صدر البيت قبل مجاوزة الباب ، أو يدعي فهم مقاصد الأتراك من كلامهم وهو لا يفهم لغة الترك ، فإن ظاهر التفسير يجري مجرى تعلم اللغة التي لا بد منها للفهم .

والمعنى الباطن الذي جاء على حكم الغزالي ليس هو ما عند الباطنية كما ذكرنا ، إنما هو تحري الدقائق التي تكون في مطوي ألفاظ القرآن ، والأسرار التي لا يدركها إلا العلماء المتخصصون في العلوم المختلفة كل بمقدار طاقته في علمه بعد فهم ظاهر اللفظ وما فيه من مجاز وحذف وإضمار ، وعموم وخصوص ، وإطلاق وتقييد .

ويقول حجة الإسلام عما فيه من أسرار ما نصه : " وإنما ينكشف للراسخين في العلم من أسرار بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم ، وتوفر دواعيهم على التدبر ، وتجردهم للطلب ، ويكون لكل واحد حد في الترقي إلى درجة أعلى منه ، أما الاستيفاء فلا مطمع فيه ولو كان البحر مدادا والأشجار أقلاما ، فأسرار كلمات الله تعالى لا نهاية لها ، فمن هذا الوجه يتفاوت الخلق في الفهم بعد معرفة ظاهر التفسير ، وظاهر التفسير لا يغني عنه " .

هذا ما نقلناه عن الغزالي وذلك ما قاله ابن تيمية ، ونحن بلا ريب نأخذ برأي الغزالي وعليه سار المفسرون ، حتى مفسرو الروية ، فإنهم لا يردونه ، حتى شيخ المفسرين محمد بن جرير الطبري ، فاختياره من أقوال التابعين فيه عمق ، واتجاه إلى تعرف الأسرار في الألفاظ القرآنية ، والعبارات ، واستقصاء المعاني . وقد يقول قائل : إن الغزالي يشجع تفسير القرآن بالعلوم الكونية ، فهل نشجعه كما شجع ؟

للإجابة على هذا السؤال نقول : إن ما يكون من آيات القرآن دالا على حقيقة علمية كما تلونا في قوله تعالى : أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ، فإنه بلا ريب أن بيان الحقيقة العلمية يكون من بيان القرآن ، ويعتمد فيه على كلام أهل الخبرة ، وذلك كقوله تعالى : ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا [ ص: 38 ] طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم .

فهذه الآيات وأمثالها كثير ، ولا بد فيها من الاستعانة بأهل الخبرة ، ويقررون في ظلها الحقائق العلمية ، ويجب أن يلاحظ أمران :

أولهما : ألا تفسر الآيات الكريمات بنظريات وفروض لم يقم الدليل القاطع عليها ، وقد تتغير العلوم الكونية بتغير النظريات حولها وقتا بعد آخر ، ولا يصح أن يفسر القرآن بنظريات قابلة للنقض والتغير . إنه كتاب الله تعالى لا تبديل لكلماته ، وهو العزيز الحكيم ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

ثانيهما : ألا يكون الاتجاه إلى تحميل الألفاظ فوق ما تحتمل ، فلا تجهد الآيات إجهادا ليطبقوها على الحقائق أو ليطبقوا الحقائق عليها ، بل لا يفكر أهل الخبرة في أسرار الآيات إلا ما يكون ظاهرا واضحا كما رأينا في الآيات التي تليت ، ويكون عمل الخبير العلمي تصويرها من غير إجهاد لألفاظها ، أو تحميلها ما لا تحتمل ، وإن الأخذ بهذا المنهاج السليم فيه بيان للقرآن الكريم ، وصيانة له ، وبعد به عن مواطن الشبهات .

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية