صفحة جزء
[ ص: 2440 ] ولو نـزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين وقالوا لولا أنـزل عليه ملك ولو أنـزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون

كانت الآيات السابقة تبين إعراض الذين كفروا عن آيات الله تعالى، وهي المعجزات التي يأتي بها الأنبياء لإثبات أن رسالاتهم من عند الله سبحانه وتعالى، وأن المشركين يعرضون عن القرآن الكريم، ويطالبون بآيات أخرى ويحسبون أن المسوغ لكفرهم نقص فيها، لا نقص فيهم بعدم الإذعان للحق، وأن الناس قسمان: قسم يذعن للحق إذا قامت بيناته، وهذا يكفيه ما اختاره الله سبحانه وتعالى دليلا على رسالة من بعثه الله تعالى; لأنهم طلاب حق يتعرفون دليله، ويذعنون إليه.

والقسم الثاني: استولت عليهم أهواؤهم وشهواتهم، وسدت مسالك النور في قلوبهم، فهم في لهو وإعراض، وهؤلاء لا تزيدهم قوة الدليل إلا إصرارا، وهؤلاء لا يذعنون للحق مهما تكن قوة الدليل، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: ولو نـزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين

[ ص: 2441 ] أي: إن هؤلاء لا ينقصهم الدليل، ولكن ينقصهم التوجه، وأخذ أمر الدين بعناية وتفكير واتجاه سليم لطلبه؛ فإن الاتجاه المخلص يجعل النفس تشرق، وتمتلئ بالحكمة، فيقنعها الدليل، وهؤلاء المغرضون ينقصهم ذلك الاتجاه المستقيم، الذي يملئوهم بالنور، ويشرق في قلوبهم طلب الحكمة والنزوع إليها، وعلى ذلك لا تجدي فيهم الآيات مهما تكن قوة الدليل وحسيته.

وفي النص القرآني مقامات بيانية تقرب معناها السامي، وإن كان بينا في ذاته.

الأول: ولو نـزلنا عليك كتابا في قرطاس " لو " هنا حرف امتناع لامتناع، أي: أن الله سبحانه يمتنع عن أن يفعل ذلك؛ لأنه عبث لا يليق أن يصدر عن ذاته العلية؛ إذ لا ثمرة له، فلن يؤمنوا مهما تكن قوة الدليل، وذلك مثل قوله تعالى: ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون

فالكلام القرآني في مضمونه هنا يحكم بأن الهداية السامية لا تفتح لها قلوبهم المعرضة المتحيرة المركسة في الضلالة.

وقوى سبحانه وتعالى امتناع هدايتهم، إذا جاءتهم آية بأن لو نزل عليهم مكتوب من السماء محفوظ في قرطاس متضمن معنى رسالة الله تعالى، ولمسوه بأيديهم للدلالة على العلم الحسي الذي لا ريب فيه ولا شك- لا يؤمنون، فتأكدت لديهم رسالة الله تعالى بأمور ثلاثة بهذا المكتوب الذي وضع في غلافه، وبلمسه بالحس، وبكون اللمس بكل الأيدي والجوارح.

المقام الثاني: أنهم لا يقابلون ذلك بالتصديق والإقبال والإذعان، بل ينتحلون الأعذار لكفرهم، ولا يجدون مساغا إلا ادعاء السحر يلجئون إليه، مع أن السحر تخييل وتسكير للإبصار، وهذا فيه لمس بالأيدي، فلم يقتصروا على الرؤية حتى يقولوا: إنما سكرت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون، ومع ذلك يبهتون الحق، ويجابهون الواقع ويقولون مؤكدين: إن هذا إلا سحر مبين

[ ص: 2442 ] الثالث: أن الله تعالى حكم سبحانه بعدله وإنصافه بأن ذلك قول الذين كفروا منهم، ففي ذلك إشارة إلى أمرين:

الأول: الإشارة إلى أن الذين يقولون هم الذين كفروا، وأن هناك في مقابلهم مؤمنين يذعنون للحق، ويصدقون الآيات.

الثاني: أن السبب هو الكفر والجحود والإعراض، فلا يؤمنون بآية مهما تكن قوتها في الدلالة، لإعراض القلوب وعدم اتجاهها إلى الحق، بل إنها مظلمة معتمة لا يدخل إليها النور مهما يكن وضاء.

الرابع: أنهم لفرط جحودهم وإغلاق قلوبهم يؤكدون أنه سحر مع اللمس بالأيدي، وقد أكدوا حكمهم الباطل أولا: بالنفي والإثبات، أي: أنه مقصور على أنه سحر، ثانيا: بالإشارة إليه، وذكروا أنه بين واضح.

ثالثا: والمعنى الجملي أنه لا تجدي فيهم معجزة ولا دليل، ويؤكد هذا قوله تعالى: ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون

التالي السابق


الخدمات العلمية