صفحة جزء
قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون

[ ص: 2503 ] في الآيات السابقة بين الله تعالى ما عامل به الأمم السابقة بعد أن جاءتهم رسلهم بالبينات، فاختبرهم سبحانه وتعالى بالبأساء تنزل بهم، والضراء تمس أحياءهم، رجاء أن يعرفوا ضعفهم بجوار قدرة ربهم، وأن تربي الشدائد نفوسهم، فمن لم يتجه إلى الله، ويكفر بعد كشف الضراء عنهم، ويقسو قلبه وينسى ما ذكر به من شدائد، يختبره بالنعمة، يفرحون بها، ويذوقون حلاوتها، ثم ينزل بهم الحرمان ويأخذهم بغتة بالشدائد ويكون ذلك أقسى من الأول؛ إذ يتحيرون ويقطع دابرهم، وفي هذه يبين لهم سبحانه نعمة الله عليهم في الخلق والتكوين، ويذكرهم باتجاههم إليه إن أخذ سمعهم وأبصارهم وختم على قلوبهم أفلا يدركون، فقال تعالى: قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به

في الآيات السابقة -كما قلنا- كان ذكر ما ينزل حولهم ثم يصيبهم، فالدمار ينزل حولهم ثم يصيبهم، وهنا ذكر ما ينزل بحواسهم وكيانهم قائم لم ينقص، ففي هذا النص بيان قدرة الله تعالى في أنفسهم وفي أجزائهم وحواسهم، وامتلاكه لهذه المداخل التي تكون إدراكهم وهي السمع والبصر والفؤاد; كما قال تعالى في آية أخرى: قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون

ومعنى أخذ الله سمعهم وأبصارهم والختم على أفئدتهم، أن يصبحوا لا يسمعون حقيقة ولا يبصرون حقيقة، ولا يفقهون فيسلبهم سبحانه الفهم والإدراك، وواضح أن أخذ السمع والبصر يكون بعدم السماع والإبصار; لأن هاتين الحاستين تسمعان وتريان، وأخذهما فقد عملهما - ولكن الأفئدة شيء يخفى لا يؤخذ بل هو باق، ولكن يغشى عليه، فليس الجنون ذهاب العقل، وإنما الجنون ستر العقل فلا يدرك الأمور على وجهها، ولذلك عبر عن فقد الإدراك بالجنة; لأن العقل يستر ولا يذهب كما يذهب السمع والبصر; [ ص: 2504 ] ولذلك قال سبحانه: وختم على قلوبكم أي: وضع غشاوة على قلوبهم، فتصبح كالشيء المختوم لا ينفذ إليه شيء من الإدراك، وذلك بلا ريب هو أعلى دقة في التعبير تليق بمقام القرآن الكريم في البيان الذي لا يصل إليه أحد من البشر، والتعبير بقوله تعالى: أرأيتم الاستفهام فيه للتنبيه، كأنه سبحانه وتعالت كلماته يقول: أرأيتم. أي: إن لم تكونوا قد رأيتم ذلك فروه وعوه، وأدركوا ما وراء ما يدل عليه.

وقوله تعالى: من إله غير الله يأتيكم به الاستفهام فيه لإنكار الوقوع الثابت بالدليل الذي لا مجال لإنكاره، والضمير في (به) يعود إلى المأخوذ، وهو السمع والبصر والفؤاد، وقام الأخذ والختم مقامه من قبيل قيام السبب مقام المسبب، و: يأتيكم معناه برده عليكم، وعبر سبحانه بـ: " يأتي " للإشارة إلى أنه يكون كالجديد، والنص يشير إلى أنهم وحواسهم في يد الله سبحانه وتعالى، ويشير إلى أمر آخر، وهو أنه تعالى قادر على إعادة السمع والبصر والإدراك، وهي أجزاء جسمكم المدركة المصرفة، أفلا يكون قادرا على إعادتكم في البعث كما بدأكم أول مرة، إنكم ترون من يذهب سمعه كأن في أذنيه وقرا ثم يسمع، ومن يذهب بصره ثم يبصر بعمل الله، ومن يصاب بجنة ثم يفيق، وكل ذلك من الله تعالى، إن ذلك محسوس، فلماذا لا يقيسون عليها عودة الأجسام بعد بلاها كما بدأكم تعودون.

انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- لبيان حال المشركين، وأنهم لا تؤثر الحجة فيهم مهما تكن واضحة نيرة ملزمة، والتصريف: التغيير، وهو يكون في ذات الآيات بتعددها من آية كونية إلى آية قرآنية، فالتعدد صورها، فتعدد في صور الآيات الكونية من عواصف عاتية إلى مطر صاخب إلى خسف للديار، ومن آيات قرآنية زاجرة ضاربة للأمثال مبينة للمثلات، إلى تذكير بقدرة الله تعالى فيما تحيط بهم، وتذكير بأنفسهم، ومع هذا التصريف المتتابع، والآيات الواضحة المنوعة تجدهم صادفين؛ ولذا قال تعالى: ثم هم يصدفون أي: [ ص: 2505 ] يعرضون، ولا يجيبون من الصدوف بمعنى الإعراض، وأصل الصدوف الميل عن الجانب; لأن أصله الصدف بمعنى الجانب، فمن يصدف يميل عن هذا الجانب أو يجعله حاجزا دون الإيمان، وقد عبر في العطف بـ: "ثم" للدلالة على التراخي المعنوي بين الآيات وتتابعها والإعراض، وقد أكد سبحانه وتعالى الإعراض منهم بضمير الفصل; لأن وقوعه غريب في ذاته بعد تلك الآيات البينات.

التالي السابق


الخدمات العلمية