صفحة جزء
[ ص: 2534 ] قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم

بعد بيان قدرته على كشف الكروب بين سبحانه وتعالى قدرته على إنزال الشدائد; جزاء لهم بما كسبت أيديهم، فهو كاشف الضر، وهو منزل العذاب، كل يسير على مقتضى حكمته، وعلى ما يصلح به الإنسان، ويستقيم عليه أمر العالم كما قدر رب العالمين: وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال

وقبل أن نتكلم في معنى القدرة القاهرة، نذكر كلمة في ناحية بيانية، وهو: لماذا أمر الله تعالى نبيه في التنبيه إلى ضعفهم وقدرته سبحانه وتعالى، وصدر الكلام بكلمة: (قل) في بيان ضعفهم، واستجابته لضراعتهم، واستعلائه بقدرته عليهم؟ ونقول في الإجابة عن ذلك فيما يبدو: إن تصدير الكلام بـ: "قل" فيه تنبيه; فضل تنبيه، وفيه بيان مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه هو الصلة بينهم وبين ربهم، وأنه المبعوث إليهم من قبله، وأنه هو الذي يخاطبهم عنه سبحانه في كشف الضر عنهم، ورفع الغمة إن نزلت بهم، وهو منذرهم بالعذاب الشديد.

والخطاب هنا لمن؟ أهو للمشركين فقط الذين وعدوا بالشكر ثم أشركوا; أم هو خطاب للناس أجمعين; ظاهر السياق هو الأول؛ لأنه الخطاب، ولكن موضوع الخطاب يعم، ولا يخص المشركين، ولأن مفسري السلف والآثار الواردة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تومئ إلى أن المؤمنين يدخلون في عموم الخطاب، وإنا نميل إلى هذا العموم.

والنص الكريم يفيد عموم العقاب; لأن العذاب الذي ينزل من فوق يعم الجميع، كذلك العذاب الذي يجيء من تحت الأرجل يجيء عاما لا خاصا، فإذا كانت صواعق، أو إعصار شديد وصواعق، أو سيل عارم كل هذا يعم ولا يخص، وكذلك الخسف الذي تمور به الأرض مورا، والزلازل المدمرة، والبراكين الحارقة كل هذا يعم ولا يخص ينزل بالمؤمنين مع الكافرين، وقد عبر الله سبحانه وتعالى عن هذه الأمور بعبارتين جديرتين بالنظر فيهما: [ ص: 2535 ] أولاهما: التعبير بـ: يبعث عليكم فإن البعث معناه الإثارة، وعبر بـ: يبعث للإشارة إلى أن الله تعالى هو الذي يثير عليهم ذلك العذاب وعبر بـ: (يبعث) بدل ينزل عليهم؛ لأن البعث والإثارة تعني أن النزول يكون من عل، ولأن البعث والإثارة فيهما معنى الإيجاد لا ليس بموجود.

ثانيتهما: التعبير عن ذلك بكلمة: (عذابا) ففيها الإشارة إلى أنه في معنى الجزاء على بنيان واقع، أو أن الذين نزل بهم أكثرهم يستحقون، وهو على أية حال أمر مقصود، وقد أشار الله تعالى في آيات أخرى إلى أن الكوارث قد تكون عقابا على ذنوب سلفت، أو طغيان استحكم كقوله تعالى فيمن ينفقون من غير إيمان: مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون

ومثل قوله فيما نزل بقارون وداره في حال طغيانه: إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين

إلى أن قال سبحانه عنه: فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين

فدلت هذه النصوص على أن الله تعالى ينزل عذابا كونيا، لغرور أو طغيان أو فسق عن أمر ربهم.

وقد ذكر سبحانه وتعالى أنواعا ثلاثة من العذاب الذي يبعثه:

الأول والثاني: أن يبعث عذابا من فوق أو من تحت، أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم

[ ص: 2536 ] ومعنى العذاب الذي ينزل من فوق، أطلقه الكثيرون من العلماء على ما ينزل من السماء; ببعث وإثارة من الله من صواعق وإعصار وريح فيها صر، وحاصب من السماء، وحجارة من سجيل تجعلهم كعصف مأكول، وغير ذلك مما ينزل الله من عل، والعذاب الذي يكون من تحت الأرجل مما يكون من الأرض التي يفترشونها من خسف في الأرض وميد فيها، وبراكين وزلازل، وغير ذلك من آفات الأرض التي تقرض الزرع.

وعبر عما يجيء من الأرض بقوله تعالى: من تحت أرجلكم وذلك للإشارة إلى قربه الشديد منهم، وإلى أنه يكون في مقام استقرارهم، فيكون ميد الأرض من تحت أقدامهم حيث هم مستقرون فيها، وللإشارة إلى أنهم أول من يصابون بهذا العذاب، ولا منجاة منه، إلا أن يكون لله تعالى في منجاتهم إرادة.

وروي عن ابن عباس أنه فسر العذاب من فوقهم بفوقية معنوية، وهم الأئمة المفسدون، والحاكمون العابثون، ومن هم تحت أرجلهم بالرعاع الأقربين يهرفون بما لا يعرفون ويتبعون كل ناعق يدعو إلى هواه ويقفون على ما يريد، فعلى هذا النظر تكون الفوقية والتحتية ليست حسية، وإن لذلك الكلام وجها من الحقيقة؛ فإن أشد ما تصاب به الأمم أن تتحكم فيهم أئمة الفساد، وأن يجدوا تابعا من الذين لا يعرفون كيف يرادون، أعلى الخير أم على الشر، وعلى ورد الماء العذب الذي يسقي النفوس، أم على مناقع الأوباء الخلقية والاجتماعية؛ فإن ذلك يفني الأمم في وحدتها واجتماعها، وإن تخريب السماء وتخريب الأرض يسرع تعويضه، وإقامة بديل له، أما تخريب النفوس وإشاعة الرذيلة فلكي تخرج الأمة [ ص: 2537 ] منه لا بد من تبديل الأقوام وتغيير واستبدال نفوس بنفوس، وذلك يحتاج إلى زمن طويل: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال

وإني أرى أن العذاب الذي ينزل من فوق، والذي يجيء من تحت الأرجل، كلا الأمرين يشمل الحسي، ويشمل المعنوي بولاة السوء، وتحكم السفلة ومن لا يفقهون، ويتبعون كل ناعق، ولا يميزون بين الخبيث وغيره، لا على أن ذلك من الجمع بين الحقيقة والمجاز، بل على أن ذلك تفسير لكلمة العذاب، بما يعم ولا يخص حسيا أو معنويا.

والنوع الثالث من العذاب الذي تصاب به الأمم، وهو الداء العضال الذي أصاب أهل الإسلام، هو التفرق والتباين أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض

هذا عذاب للأمم، يحل وحدتها، وينثر جمعها، وهو أشد أنواع العذاب، عندما يتفاقم، ويكون الهوى المتبع، والشح المطاع وإعجاب كل امرئ وكل جماعة بنفسها وطريقتها كل حزب بما لديهم فرحون فعندئذ تنفك العرا، وتنحل الأواصر، ويقوم المنكر، ويذهب المعروف، ولا سماع لصوت الحق.

و: يلبسكم المذكورة في الآية من لبس بفتح الباء يلبس، وهي تتضمن معاني ثلاثة: أولها: الستر، فالحقائق تستر عمن يلبس عليه، فلا يراها، وثانيها: الخلط، فيختلط الحق بالباطل، والذين يقعون في هذا اللبس (يلبسون الحق بالباطل) فلا يكون وضوح يفرق بين الحق والباطل، وثالثها: وجود غشاوة على القلوب تحجب عنها بسبب التعصب لما يعتقده، فيزين له سوء عمله، فيراه حسنا، ويرين على قلبه فلا يدرك.

[ ص: 2538 ] وقوله تعالى: يلبسكم شيعا شيع هنا حال، أي: يخلطكم حال تشيع جماعتكم، فتكون كل جماعة شيعة قائمة بذاتها منفصلة عن سواها - وأصل كلمة شيعة من شيعت النار بالحطب: قويتها، فالشيعة من يتقوى بها في حدة وحرارة، وينتشرون عنها منادين بها، وقد تستعمل في معنى التجمع للخير، كما في قوله تعالى: وإن من شيعته لإبراهيم وقوله: هذا من شيعته وهذا من عدوه ولكن كثيرا ما تكون في التشيع لغير الحق، وما يكون فيه تعصب شديد فتكون كأنها وقود يقوي النيران; نيران الحقد والحسد والبغضاء.

ومعنى الجملة السامية يلبسكم شيعا أنه سبحانه يخلطكم، وتلتبس الأمور، ولا تميزون بين الخبيث والطيب، وتكونون قوما بورا، وذلك الضلال يصحبه انقسامكم شيعا متفرقين توقد بينكم نيران البغضاء والعداوة، وتفترقون فيما بينكم، فلا تكونون أمة واحدة تجمعها وحدة جامعة، ولكن تكون طرائق متفرقة، وأخلاطا غير متجانسة ولا متمازجة.

ولا تكون العلاقة فيها مودة واصلة ورحمة عاطفة، بل تكون العداوة المستحكمة، كل شيعة تتربص بالأخرى الدوائر في غير هوادة، ولا نفوس قارة، بل في نفوس فاترة، وهذا مؤدى قوله تعالى: ويذيق بعضكم بأس بعض أي: تكون العلاقة أن يذوق كل جماعة شدة الجماعة الأخرى، أي: يكون بأسهم بينهم شديدا، فقوتهم تكون على أنفسهم، ولا تكون على غيرهم، وعبر سبحانه عن البغضاء والعداوة بأن يذيق بعضهم بأس بعض، وذلك تصوير بياني يشبه الإصابة بالبأس بذوقه واستطعامه للإشارة إلى أنهم يستطعمون العداوة بينهم، ويستطيبون البأس الشديد الذي يحكمهم كمن يستطيب طعاما شهيا، وذلك ينبئ عن فساد أمرهم، واضطراب حالهم، وقلب طباعهم، حتى إنهم يستمرئون العداوة كأنها طعام مريء.

[ ص: 2539 ] إن كل بلاء يهون إلا بلاء التشيع، وقد ابتلى الله تعالى به أهل الإيمان، روت الصحاح بآثار متضافرة أن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ستبتلى بهذا البلاء. روى ابن جرير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن الله زوى لي الأرض، حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وإني أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي ألا يهلك قومي بسنة عامة (أي: بأزمة وجوع) وألا يلبسهم شيعا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فقال: يا محمد: إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدوا ممن سواهم فيهلكوهم بعامة، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، وبعضهم يقتل بعضا وبعضهم يسبي بعضا" فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني أخاف على أمتي الأئمة الضالين، فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة". اللهم إن هذه دلائل قد رأيناها، وأضلنا الضالون من الأئمة، حتى صار بعضنا يأكل بعضا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، وأجرنا من شر ذنوبنا، وعواقب أعمالنا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.

انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون

يأمر الله تعالى نبيه بأن ينظر في تصريف الله تعالى آياته البينات، وهو توجيه لما في القرآن الكريم من توجيه حكيم، وإعجاز يتحدى به الإنسانية كلها، فالسورة كلها تصريف في التوجيه، وفي كل بيان جده، ألم تره نبه إلى علمه المحيط الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة فهو يعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، وهو الذي يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها، وهو [ ص: 2540 ] الذي يرد إليه الأمر كله، ثم بين أنه وحده الذي يلجأ إليه المشركون، إذا اشتدت الشديدة، وحلت الكريهة، وهو القادر على أن ينزل إليهم البلاء، ويذيقهم كئوس الاختبار.

هذا تصريف في القول المحكم الصادق ليدركوا الأمور على وجوهها بعد أن يوجهوا إليها، رجاء أن يفقهوا ويدركوا، فالرجاء هنا في قوله تعالى: لعلهم يفقهون هو في حالهم إذا كانوا يعتبرون، وفيما هو من شأن ذلك التصريف في القول الحكيم، ويفقهون معناها يدركون لب الحقائق، وتنفذ بصائرهم إليها، والله سبحانه هو الحكيم الخبير العليم.

التالي السابق


الخدمات العلمية