1. الرئيسية
  2. زهرة التفاسير
  3. تفسير سورة البقرة
  4. تفسير قوله تعالى قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون
صفحة جزء
قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون

* * *

كان اليهود والنصارى يدعون أن ما عندهم هو دين الله تعالى ، وأنهم أعلم الناس بالله ، وأنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه ، وحسبوا أنهم أقرب إلى الله تعالى لأنهم ليسوا وثنيين ولم يشركوا به أحدا ، والوثنيون ليسوا كذلك ، وبذلك يحاجون النبي في أنهم أقرب إلى الله ، وأنه أقرب إليهم ، وأنهم أولى به ، فأمر الله تعالى نبيه بأن يبين لهم أن الله ربنا وربكم ، وأن القربى إليه بالعمل ، فلنا أعمالنا ولكم أعمالكم فقال تعالى : قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم كان الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليتولى الحجاج معهم إعلاء لكلمة الله تعالى لمن يتولى المحاجة والمجادلة ، والله [ ص: 429 ] أجل وأعلى من ذلك فترك للنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر هذه المحاجة . والاستفهام هنا للتوبيخ ; أي ما كان لكم أن تحاجونا في الله تعالى بادعاء القرب ، وأنكم أولى به وبمحبته ومعرفته ، فالمحاجة في الله تعالى لا في أصل وجوده ، ولا في أصل وحدانيته لقوله تعالى : ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ففي هذا النص كان الجدال في الله تعالى ، من حيث وجوده ، وأنه الفاعل المختار .

أما هنا في هذا النص الذي نتكلم في معانيه ، فالمحاجة في الله تعالى من جهة القرب منه ، والمنزلة عنده لا محاجة أصل وجوده ، والمحاجة من جانب اليهود والنصارى بادعائهم على الله سبحانه وتعالى بأن دينهم هو الذي ارتضاه وأنهم أقرب إلى الله ، وأنهم أحبابه ، وأنهم أبناؤه ، إلى غير ذلك من الأوهام التي يثيرونها حول الله تعالى .

وهم يثيرون قولهم على اعتقاد أن النبي يحاجهم كما يحاجونه ; ولذلك كانت صيغة المفاعلة .

وقد أمر الله تعالى نبيه ، بأن يبين لهم أنه لا حاجة إلى المحاجة ; ولذا أمره تعالى بأن يقول : وهو ربنا وربكم فصلتنا بالله واحدة ، وهو أنه ربنا جميعا ، وقد بين المماثلة في الصلة بالله تعالى لصلة الربوبية ، وهي متحدة في معنى الربوبية ، ولا تفاوت بيننا في هذا ، فلستم أقرب إليه ، ولا نحن أقرب من هذه الناحية ، ونبههم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربه بأن التفاوت إنما هو بالأعمال ; ولذلك أمره تعالى بأن يقول لهم : ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم فأعمالنا بما فيها من خير ونفع تتحمل في ذاتها استحقاق جزائها ، ولكم أعمالكم ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وأن القرب إلى الله تعالى أو البعد إنما هو بحسب الأعمال ، فهي التي تقرب ، وهي التي تبعد ، وهي التي يكون عليها الجزاء .

وقد وصف الله آمرا نبيه بقوله : ونحن له مخلصون أي نحن قد أخلصنا بقلوبنا في عبادة الله تعالى فلا نشرك في العبادة سواه ، ولا نعكر إخلاصنا لله تعالى [ ص: 430 ] بسبب من أسباب الدنيا ، فنحن صرنا لله نحب الشيء لا نحبه إلا لله ، وهذا تحريض لليهود وغيرهم على أن يكونوا مثلهم ، فإن كانوا مثلهم التقوا على الإيمان الجامع غير المفرق .

والإخلاص كما قلنا تصفية النفس من أن يكون فيها غير الله تعالى ، وتصفية الفعل من أن تكون لغير الله فيه شائبة ، ولقد قال بعض الصوفية : الإخلاص سر بين العبد وبين الله لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده . وفي الجملة الإخلاص حصن العبادة الحصين .

إن اليهود والنصارى افتروا مع كفرهم وجحودهم وقولهم : عزير ابن الله ، وقولهم : المسيح ابن الله وإيمانهم بالثالوث ، وافتروا فادعوا أنهم أقرب إلى الله وأحب ، ثم انحدروا في تفكيرهم فقلبوا التاريخ فجعلوا أوله لاحقا وآخره سابقا ، وضلت عقولهم ضلالا بعيدا ، فزعموا أن إبراهيم كان يهوديا أو كان نصرانيا ولقد قال تعالى في ذلك : أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى

وإن هذا قلب كما قلنا للأوضاع ، فاليهود والنصارى أولاد ليعقوب عليه السلام ، وهم تابعون له ، ولآبائه ، فكيف يقلبون المتبوع ويجعلونه تابعا ، ولكنهم يحسبون لغرورهم أن ديانة إبراهيم وأبنائه كانت متفقة مع اليهودية أو النصرانية ، اليهود يقولون إنهم كانوا على ديانتهم ، والنصارى يبهتون الناس بالكذب فيدعون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا يؤمنون فيما يزعمون بثالوثهم الباطل بطلانا مطلقا ، ولتفنيد أوهامهم أمر الله تعالى نبيه أن يرد عليهم ردا طيبا متفقا مع قوله : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن وقال الله تعالى لنبيه : قل أأنتم أعلم أم الله كان جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم سؤالا لهم محرجا ، كاشفا لهم ; لأنهم ادعوا أنهم أعلم بعد أن كفروا ، وإن قالوا أن الله أعلم فقد كذبوا على أنفسهم ، فهو سؤال ينتهي برد كلامهم بأنفسهم ، وهو سؤال من علمه تعالى الحكمة وفصل الخطاب .

[ ص: 431 ] وإن أولئك اليهود والنصارى يعلمون أن ملة إبراهيم هي الإسلام ، والإيمان الجامع لكل الرسل ، ويعلمون ما حرف من التوراة والإنجيل ، ويعلمون أن التوراة بشرت بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأن الإنجيل بشر بأنه بعد المسيح رسول اسمه أحمد ، يعلمون ذلك وغيره وينكرونه ، ويكتمونه حتى لا يعلم ; ولذلك قال تعالى : ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله والمعنى أنه لا أحد أظلم ممن كتم شهادة أودعها الله تعالى في كتابه وما عنده من علم ، فالاستفهام هنا إنكاري توبيخي لنفي الواقع والوقوع ، فهو نفي أنه لا أحد أظلم ممن عنده شهادة من الله تعالى وكتمها ، وفي الوقت نفسه أشارت الآية إلى أن ذلك وقع من أهل الكتاب من اليهود فهم يكتمون علم التوراة عن اليهود ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون فيضلونهم بعلم ، ويعلمون الكثير ويكتمونه .

والشهادة هي الخبر الذي يجب بيانه سواء أكان بين يدي القضاء أم لم يكن ، فإن هذه الأخبار في التوراة كان يجب بيانها ، ولم تكن أخبارا تقرأ ولا تعلم ، ولكنها حقائق يجب أن تعلم وتبين ، فالإعلام بها كالإعلام بالشهادة . وقد هددهم الله تعالى بقوله تعالت كلماته وما الله بغافل عما تعملون فهذا وعيد ، وإخبار بأمر الله تعالى ، وقد نفى الله تعالى نفيا مؤكدا أنه غافل عن عملهم ، بل إنه سبحانه آخذهم بذنوبهم ، فنفى بما وبالباء الدالة على استغراق النفي .

والغفلة هي : عدم التنبه إلى ما يقع ، وهو مأخوذ من الأرض الغفل وهي التي لا معالم فيها ولا بناء ، والآية تهديد ووعيد بلا ريب ، وقد صور فخر الدين الرازي في تفسيره " مفاتيح الغيب " الوعيد في هذا فقال : هذا هو الكلام الجامع لكل وعيد ، ومن تصور أن الله تعالى عالم بسره وإعلانه ، ولا تخفى عليه خافية ، وأنه من وراء ذلك مجازاته ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، لا تمضي عليه طرفة عين إلا وهو خائف حذر ، ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة السلطان يعد عليه الأنفاس لكان دائم الحذر والوجل ، مع أن ذلك الرقيب لا يعلم إلا الظاهر فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى إذا هدد وأوعد .

[ ص: 432 ] وقد نبه سبحانه وتعالى اليهود والنصارى وغيرهم إلى أنه لا يصح لهم أن يتمسحوا بالأسلاف ، فقال تعالى : تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون وقد تكلمنا في معنى هذه الآية الكريمة في ماضي قولنا فلا نعيد ما قلنا في ذكر معاني ألفاظها .

ولكن نتلمس المعنى في إعادة ذكرها ونرى أنها ختام لما يقوله بنو إسرائيل وغيرهم بالنسبة لأسلافهم ، ودعوة لهم إلى أن الله تعالى سائلهم عما يعملون هم لا ما عمل أسلافهم .

وأيضا فإن الناس تعودوا اتباع الأسلاف ، فالله تعالى يكرر سبحانه أن كل امرئ بما كسب رهين ، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى ، ولهم ما كسبوا وعليكم ما اكتسبتم ، وأن خير الماضين ليس خيرا لكم وأن شرهم ليس وزره عليكم .

ولقد قال تعالى في ذلك : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا وقال تعالى : قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى قال تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية