صفحة جزء
ثم بين الله تعالى حال الناس في الدنيا فقال تعالت كلماته: فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون والمعنى: فيها تعاقب الأحياء بعضهم من ذرية بعض، والأحياء يموتون ويخلفهم أحياء من بعدهم، والأموات يبعثون من قبورهم ثم تكون القيامة، ويجازى المحسن إحسانا والمسيء الذي أطاع الشيطان يناله عذاب أليم، والله ولي المؤمنين الصادقين.

ما بين قصة خلق الإنسان في سورة البقرة وقصته هنا

يبدو بادي النظر وظاهره أن القصة هنا هي بحذافيرها المذكورة أولا في البقرة، وأن ذلك تكرار في القرآن. ونحن نرى أن كون الله خلق آدم، وأمر الله الملائكة أن يسجدوا، وامتناع إبليس عن السجود، وطرده وهبوطه هو وآدم وزوجه من الجنة - مذكور في القصتين، ولكن كان الاختلاف فيما وراء ذلك، فذكر في إحداهما ما لم يذكر في الأخرى، ومجموعهما يأتي بالقصة متكاملة الأجزاء، فيما تعرضت السورتان له، الثمرة من ذكر القصة مختلفة في كل واحدة عن الأخرى.

أولا - أن قررت أن ثمرتها عداوة إبليس لآدم من أصل التكوين، وحذرت الإنسان من أثر هذه العداوة، وبينت الآية الكريمة ما يترتب على هذه العداوة، [ ص: 2802 ] وذكرت بني إسرائيل، وما وسوس به الشيطان في نفوسهم، وكانوا أوضح مثل في البشرية لتحكم إبليس فيهم، حتى كأنه هو - أي إبليس - وهم شيء واحد، لولا أنه من الجن، وهم من الإنس، وهم مع ذلك صورته الحية الواضحة، جعلهم الله تعالى عبرة المعتبرين من أهل الفضيلة.

والثمرة هنا في هذه الآية هو تحكم إبليس في العرب، حتى جعلهم يطوفون عراة رجالا ونساء، كما حمل إبليس أبوي الإنسان على أن يأكلا من الشجرة، فبدت لهما سوءاتهما.

ثانيا - أن قصة البقرة فيها تعليم الله تعالى لآدم، وبيان استعداده لأن يعلم الأشياء كلها، واختبار الله تعالى للملائكة، ثم كان الأمر بالسجود نتيجة لأن آدم أنبأهم بأسماء ما جهل الملائكة أسماءهم، ولم يذكر ذلك في هذه القصة، بل طوي، وكان الأمر بالسجود فحذف من هنا ما ذكر هنالك مفصلا.

وفي قصة التكوين في سورة الأعراف التي تتكلم في معانيها ذكرت الطريقة التي أزل بها إبليس الزوجين الكريمين، إذ قال لهما: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين

ثالثا - وفي سورة البقرة بينت أنه أزلهما ولم تبين الطريقة التي أزلهما بها، فكانت القصة هنا موضحة لذلك، فهي متممة لها، وليست مكررة معها.

رابعا - في هذه السورة ذكر ما ترتب على الأكل من الشجرة، من أن بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، فإن ذلك لم يذكر في سورة البقرة وذكر هنا، وهو تتميم لما ذكر هناك.

وما ذكر هنا فيه بيان مشابهة ما دعا إليه الله تعالى من النهي عن عري العرب في مكة بإغواء إبليس، فتشابه عمله مع ذرية آدم بما عمله مع آدم وزوجه.

خامسا - في قصة التكوين في الأعراف أن آدم وزوجه قد أحسا بما صنعا قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ولم يذكر [ ص: 2803 ] ذلك في سورة البقرة إلا قوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه فكانت الآية متممة أو موضحة لما جاء في سورة البقرة، ولم يذكر في سورة البقرة نداء الله تعالى للزوجين قائلا: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين وهكذا كان ما هنا متمما لما هناك.

سادسا - ذكر في سورة البقرة إرادة الله تعالت حكمته أن يجعل خليفة، وما قاله الملائكة في هذا: وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ثم بيان الله بتعليمه الأسماء كلها وبيان أنه أحق بخلافة الأرض منهم، ولم يذكر هذا هنا في الأعراف.

وذكر هنا إغواء إبليس، وطريقته في إغوائه، وأنه يحيط بهم دائما من عن أيمانهم وعن شمائلهم، ولم يذكر هنالك في سورة البقرة، وأنه بهذه الموازنة بين ما اشتملت عليه القصة في السورتين يتبين أمران:

أولهما - أنه لا تكرار، بل كل قصة تكمل الأخرى، وتتكون قصة كاملة لا تتضارب الأجزاء فيها.

ثانيهما - أن الثمرة في كل جزء مختلفة، وأن القرآن معين المعرفة لا يغيض أبدا.

التالي السابق


الخدمات العلمية