1. الرئيسية
  2. زهرة التفاسير
  3. تفسير سورة البقرة
  4. تفسير قوله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما
صفحة جزء
مقدسات البيت الحرام

إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ( 158 إن الذين يكتمون ما أنـزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم

* * * [ ص: 476 ] ما زالت النصوص القرآنية الشريفة السامية تتكلم حول الكعبة من ناحية كونها قبلة ، وأن الصلاة لا تصح من غير الاتجاه إلى البيت الحرام ، وإنه مما حول البيت والصفا والمروة ، وهما جبلان مجاوران للكعبة ، قيل إن هاجر أم إسماعيل كانت تتردد بينهما عندما أصابهما الجوع والعطش وهي تناجي ربها أن يمن عليها بالغوث فأنبع الله تعالى لها زمزم ، وقيل كانت لها طعم وغذاء وشفاء للعلة من عطشها ، وقد قال تعالى فيها : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما

والشعائر جمع شعيرة ، وهي المتعبد الذي يكون فيه عبادة الله تعالى والقيام بحق الطاعة ، وفي هذا النص تقرير بأن الصفا والمروة موضعا تعبد لله تعالى ، وقد قال بعض العلماء : إن ذكر أنهما من شعائر الله دليل على طلب السعي بينهما ، ولكن ابن جزى الكلبي الفقيه المالكي ضعف هذا ، ولكنا لا نجد فيه ما يسوغ التضعيف لأن كونهما متعبدا يدل على طلب التعبد عندهما ، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - التعبد فيهما بطلب السعي بينهما فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " كتب عليكم السعي فاسعوا " وإنه - صلى الله عليه وسلم - في حجه واعتماره سعى والناس بين يديه وهو وراءهم ، لأنه كان راكبا ، فهو منسك من مناسك الحج والعمرة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لتأخذوا عني مناسككم " .

ويقول تعالى : فمن حج البيت أو اعتمر فمن قصد البيت حاجا أو معتمرا فلا جناح عليه أن يطوف بهما والحج هو المعرف بأركانه وركنه الأكبر الوقوف بعرفات ، ومن مناسكه النحر ورمي الجمار ، والوقوف بالمزدلفة ، أما العمرة فهي زيارة البيت والطواف حوله ، والسعي بين الصفا والمروة ، وقد سعى فيهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 477 ] ولكن كان النص في هذه الآية ، فلا جناح عليه أن يطوف بهما ونتكلم هنا في ثلاثة أمور :

أولها : إن نفي الجناح - والجناح هو الميل إلى الإثم - يقتضي نفي الإثم لا الوجوب ; لأن نفي الإثم يؤدي إلى معنى الجواز لا الوجوب ، أو الطلب فرضا أو سنة ، فمن أين جاء الطلب ؟ نقول إن الطلب جاء من كلمة " شعائر " أولا ، وقد بينا ذلك ، ومن بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن بين أن السعي كتب علينا ، ومن مداومته - صلى الله عليه وسلم - على السعي في عمرته وحجه ، ولذلك قال مالك وأحمد والشافعي : إن السعي فرض ، وقال أبو حنيفة : واجب وهو مرتبة بين السنة المؤكدة والفرض ، ويعرفونه بأنه ما ثبت طلبه الحتمي اللازم بدليل ظني فيه شبهة .

الثاني : لماذا عبر سبحانه بنفي الجناح ، ولم يعبر بالطلب ولا شك أنه كان ثمة موجب لنفي الإثم ، وجعله أساس القول ، ولقد قيل في هذا كلام فرددته بعض كتب التفسير قالوا : إنه كان على الصفا صنم اسمه إساف ، وعلى المروة صنم اسمه نائلة ، وقد تحرج بعض المسلمين من السعي بينهما لمكان هذين الصنمين اللذين كان أهل الجاهلية يعبدونهما ، ولأن الوحدانية طردت الوثنية من القلوب ، فنفى الله تعالى الإثم لهذا ، ولا يمنع نفي الإثم من الوجوب أو الطلب بشكل عام ، وقيل إن بعض الأنصار لم يجدوا النص على السعي في القرآن فتحرجوا من أن يفعلوا ما كان يفعله الجاهليون من غير نص ، فبين أنه لا إثم ، ودل على الطلب بالنص الذي صدر به القول فيهما وبعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله .

الأمر الثالث : قوله تعالى : أن يطوف بهما أصل يطوف يتطوف قلبت التاء طاء وأدغمت الطاء في الطاء قوله تعالى : وليطوفوا بالبيت العتيق والتطوف المبالغة في الطواف بأن يعددوه ، ولا يكتفوا بواحدة ، ولكن الصفا والمروة لا يطوف حولهما ولكن يسعى بينهما ، والمشابهة بينهما ليست بعيدة ; لأن السعي سير على الأرض بينهما وتكرار ذلك سبع مرات ، فكان كالطواف في الأرض [ ص: 478 ] التي بينهما والله سبحانه وتعالى هو مبين مناسك الحج بالقرآن والسنة النبوية المبينة للقرآن .

ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم التطوع المبالغة في الطاعة فيما أمر الله تعالى به من فرض وواجب ومندوب ، فهي المبالغة في أصل الطاعة ، وإطلاقها على النفل غير المفروض والمندوبات ونحو ذلك هو من قبيل الاصطلاح الفقهي باعتبار أن النوافل والمندوبات مكملات للفرائض التي هي أصل الطاعات ، و ( خيرا ) وصف لمصدر محذوف وهو مفعول مطلق ، والوصف يقوم فيه أحيانا مقام المصدر كما في قوله تعالى : ( واذكروا الله كثيرا .

والخير كل ما يكون فيه نفع للناس ، وأداء لما أمر الله ، وقيام بالواجبات الاجتماعية والإنسانية والدينية ، ووصف طاعات الله أو المبالغة في الأداء بأنها خير ; لأنها في ذاتها خير ، ولا يكون ما يأمر الله تعالى به إلا خيرا خالصا ، ونافعا خالصا ، فكل أمر من الله تعالى فهو خير نافع لا ينفع سواه .

ومن تطوع خيرا فعل شرط جزاؤه قوله تعالى : فإن الله شاكر عليم وهذه الجملة السامية هي دالة على الجزاء ، متضمنة له ; لأن تقدير الجواب فله أجر يكافئ ما فعل ; لأن الله شاكر عليم ، أي مجاز جزاء حسنا على ما فعل ; لأن الله شاكر ، والتعبير بالشكر في هذا ، وهو أعظم من أن يشكر عبدا له فالكل منه وإليه ، وقد وصف نفسه بأنه غفور شكور ، فكيف يشكر المنعم من أنعم عليه ؟ ! وكل ما يقدم العبد من طاعات هو شكر للمنعم جل جلاله ، وشكر المنعم واجب بالعقل والنقل ، فكيف يكون الله شاكرا لأنعمه ; ولكن عبر بذلك ، تكميلا لنعمه وتفضله أولا ، كما يشكر من يقوم بالواجب تفضلا ، ولتحريض العبد على كمال الطاعة ثانيا ، ولتعليم العبد شكر النعم ثالثا ، ولإثبات رضوان الله تعالى رضوانا كاملا ، فإن الشكر زيادة في الرضوان ، والرضوان الجزاء .

وقد وصف الله سبحانه وتعالى نفسه مع الشكر الدال على الرضا بقوله : " عليم " أي وصف نفسه بالعلم ; للدلالة على أنه عالم بمن يقوم بالطاعات فيجازيه ، [ ص: 479 ] ومن يعمل بالمعصية ، فيجزيه بالسوء سوءا ، فهو إشعار للطائع بأنه يعمل تحت رعاية الله تعالى ، تحت سمعه وبصره ، وهو القائم بكل ما في الوجود ، وهو القادر على مكافأة كل بما يعمل إن خيرا فخير وإن شرا فشر .

وإن الله تعالى من أول قوله تعالى : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم كان كلامه في بني إسرائيل ، وكفرهم بنعم الله تعالى ومخالفتهم لشرائع النبيين الجامعة لرسائل الله تعالى إلى خلقه ، وما تخلل ذلك من استقبال القبلة كان ردا على سفاهتهم وغيهم ، ثم ما كان يومئ إليه تحويل القبلة من إيذان بفتح مكة ، وأن ذلك يحتاج إلى جهاد ، فبين سبحانه أن عدة الجهاد الصبر والصلاة ، وجاء ذكر الصفا والمروة تبعا لذكر الكعبة وما حولها .

ويختم الله تعالى الكلام في أهل الكتاب ببيان أقبح ما كانوا يعملون ، وهو كتمان آياته ، ويكتبون بدلها بأيديهم ما يسمونه كتاب الله على أنه من عنده سبحانه ، وما هو من عنده فقال تعالى : إن الذين يكتمون ما أنـزلنا من البينات والهدى البينات الأخبار البينة ، والأحكام المبينة في الكتاب بعد بيانها ، وقد أنزلها الله تعالى في كتبه التي كانت للنبيين السابقين ، والهدى هو ما بينه سبحانه من أوامر ومنهيات ، فمن كتم البينات الدالة على الرسالات ، والأخبار الصادقة عن النبيين ، والأحكام الهادية إلى الصراط ، فقد كتم علم الله ، والكتمان للعلم ، إنما يكون حيث تكون الحاجة إلى البيان من قبل أن يكون المقام مقام بيان وتوجيه وإرشاد ، فيكون ممن عنده علم كما أنكر اليهود والنصارى ما عندهم من علم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومكة وما حولها ، وإبراهيم وأولاده ، وكما ينكر العلم من يسأل عنه فلا يجيب ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار " .

والآية موضوعها كل كتمان لعلم أو هداية ، وقالوا إنها نزلت في اليهود ، ولكن حكمها عام يشمل كل كتمان لعلم فيه هداية للناس ، فيشمل الذين يعلمون رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يبلغونها للناس ، ومن لا يبينون الشرع الإسلامي لأهله ، [ ص: 480 ] قربوا أو بعدوا ، ولمن يجهله ، فإنه كما قال علي كرم الله وجهه : لا يسأل الجهلاء لم لم يتعلموا ، حتى يسأل العلماء لم لم يعلموا .

وقد حكم الله تعالى على الذين يكتمون العلم بقوله تعالت كلماته : أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون اللعن الإبعاد والطرد ، والنبذ من جماعة الخير ، وجماعة الحق ، وأولئك إشارة إلى الذين يكتمون العلم ، والإشارة إلى موصوف بوصف ، إشارة إلى أن الوصف علة الحكم ، فكتمان العلم علة للإبعاد عن رحمة الله تعالى ، ونبذه من الناس ، ولعن الوجود كله ، واللاعنون تشمل الملائكة والجن والإنس ، وكل من يسبح بحمد الله تعالى .

ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء " وهذا إذا بين العلم وذكره للناس وهدى من ليس عنده علم ، فإذا كتمه لعنه كل شيء لعنته الملائكة ، ولعنه الناس ، ولعنه كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء ، فاللعن عند الكتمان جزاء ، هو نظير الاستغفار عند البيان .

وقد استثنى من هؤلاء الملعونين الذين يبينون من بعد الكتمان ، فقال تعالى : إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا التوبة هي الإقلاع عن الذنب ، والشعور بالندم ، والعزم المؤكد على ألا يعود إليه من بعد ، وإذا كان الذنب بالترك عمل ، وإذا كان الذنب بالعمل ترك ، فذنب الكاتمين كان بترك البيان والتبليغ فتكون التوبة بالبيان والتبليغ ; ولذلك قال تعالى " وبينوا " أي أكدوا بفعل نقيض ما ارتكبوا .

وقوله " وأصلحوا " ، أي تركوا الإفساد واتجهوا إلى الإصلاح ، وعمارة الوجود ، ونشر الخير بين الناس وإرشادهم إلى أقوم السبل في هذه الحياة ، وفي ذلك إشارة إلى أمرين جليلين : [ ص: 481 ] أولهما - أن كتمان العلم فيه فساد في الأرض ; لأنه يجعل الناس في متاهة من الباطل فتنقلب الأوضاع ، ويختلط الحق بالباطل ، ولا يعرف الناس سبيلا للهداية ، وتسد مسالك الخير ; إذ لا هادي إلا أن يرحم الله عباده بها ، ويرشدهم إليها .

ثانيهما - أن بيان الخير والحق هو الإصلاح في هذا الوجود فلا سلامة يسكت فيها الحق ، وينطق فيها الباطل ، وقد لعن بنو إسرائيل لسكوتهم عن البيان في وقت الحاجة إليه ، وقد قال تعالى : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون وكما قالت الحكمة : السكوت عن الحق نطق بالباطل ، والساكت عن الحق ناطق بالباطل .

وقد جزى الله تعالى التائبين العاملين المؤكدين لتوبتهم بالبيان للحق والإصلاح بأنه يقبل توبتهم ، فقال تعالت كلماته : فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم

هنا التفات من الإخبار إلى التكلم ، فالله تعالى أخبر عنهم في قوله تعالى : إن الذين يكتمون ما أنـزلنا من البينات إلى آخر الآية ، ثم التفت من الإخبار إلى التكلم عند الجزاء ، وكذلك الأمر في أكثر البيان يكون ذكر المعاصي والتوبة منها بالإخبار أو الخطاب ; ويكون الجزاء من الله تعالى بضمير المتكلم تربية للمهابة ، والإشراق في النفس ، والإشعار بالرضا ، وإن قبول التوبة أحب إلى العاصي التائب من كل ما في الوجود ، وهو رفع له من ذلة الذنب وخسته إلى رفعة الحق وعزته ; ولذا قال عز من قائل : فأولئك أتوب عليهم الإشارة إلى الموصوفين بالتوبة الذين بينوا ما كتموا وأقاموا الإصلاح مكان الإفساد ، وكما قلنا وكررنا الإشارة إلى الموصوف بيان أن العلة هي الوصف ، فقبول التوبة سببه التوبة النصوح ، والعمل على نقيض المعصية وما ترتب عليها ، و " أتوب عليهم " معناها أرجع عليهم [ ص: 482 ] بالقبول والجزاء ، فكما أنهم رجعوا إلي من تيه المعصية أرجع بقبول التوبة وغفران الذنوب ، ثم قال عز من قائل : وأنا التواب الرحيم أي كثير قبول التوبة لأني رحيم بعبادي ، وإن كان الناس لا يذنبون أتيت بمن يذنب لأقبل توبته كما ورد في معنى الأثر .

وإن هاتين الآيتين تدلان على وجوب بيان الهادي إلى الرشاد ، كما ورد في الأثر ، وإن تبليغ العلم يجب أن يكون على علم بسياسة البيان بأن يبين للناس ما يطيقون ، ويتدرج من اليسير ، حتى يكون العسير سهلا يسيرا ، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " حدث الناس بما يفهمون ; أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ ! " .

ويجب بيان الحق الذي لا زيغ فيه ، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها ، فتظلموها " وقال عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى : " لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير " . وفق الله العلماء للنطق بالحق وألا يفتحوا باب التأويل لذوي السلطان حتى لا يضعوا الدر في أعناق الخنازير .

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية