1. الرئيسية
  2. زهرة التفاسير
  3. تفسير سورة البقرة
  4. تفسير قوله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله
صفحة جزء
[ ص: 483 ] الوحدانية والوثنيون

إن الذين يكتمون ما أنـزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنـزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون

* * *

بعد أن أنهى الله تعالى موضوعات أهل الكتاب في هذا الموضع من القرآن ، وقد كان فيهم كفران النعم ، والنفاق وكثرة العدوان والفساد في الأرض ، والعبث بالأحكام ، والاستهزاء بآيات الله تعالى . بعد ذلك أخذ يبين أقوال الوثنيين وإثبات وحدانية الله تعالى ، وابتدأ القول في بيان حال الكفار من المشركين وأهل الكتاب الذين ماتوا على الكفر ، فقال تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم

ذكر بعض العلماء أن موضوع الآية الكريمة كفار مكة الوثنيون قبل أن يدخلوا في الإسلام ، بدليل الكلام بعد ذلك في الوثنية والوثنيين ، وبيان الوحدانية ودليل التوحيد من خلق الكون .

[ ص: 484 ] ونحن نرى أن وصف الكفر يعم المشركين والكتابيين ، فالكتابيون كافرون كما قال تعالى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ولقوله : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ولقوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

وهذه أوصاف الكفار ; لأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ، فهم داخلون في وصف الكفار ، والكفر كله ملة واحدة ، فلا تفاوت فيهم ، ولا فضل لكافر على كافر وليس كفر دون كفر ، بل جميعهم في الجحيم على سواء .

وقد حكم الله تعالى عليهم الحكم الأبدي ، إذا ماتوا على الكفر مصرين عليه بعد أن بلغوا بالرسالة فكفروا بها ، وماتوا على الكفر بها جاحدين معاندين منافرين معذبين الضعفاء ، ومثيرين للبغضاء والأحقاد ، حكم الله تعالى عليهم بقوله عز من قائل : أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولعنة الله تعالى إبعادهم من رحمته ، وألا ينظر إليهم نظرة رضا ، ومن تكون حاله كذلك يكون في النار خالدا فيها ، ولعنة الملائكة تعذيبهم لهم بأمر الله تعالى ، وإبعادهم عن رحمته ، ولعنة الناس بنبذهم ، والدعاء باللعنة عليهم .

وهنا أمران بيانيان نشير إليهما ونجمل ولا نفصل :

أولهما - أن الإشارة في قوله تعالى : أولئك عليهم لعنة الله تعود على الكفار الذين ماتوا مصرين على الكفر قد بلغتهم دعوة الله ، وكما قلنا ونكرر الإشارة إلى موصوف فيه إشارة إلى أن علة الحكم الوصف ، وهو موتهم على الكفر بعد البيان والإنذار الشديد ، وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا

[ ص: 485 ] الثاني - أن الله تعالى ذكر في بيان عذابهم أن عليهم اللعنة ، أي أن اللعنة تنصب على رءوسهم انصبابا وتحيط بهم من فوق رءوسهم وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، فهم بعداء عن رحمته ، وعليهم غضب الله والملائكة والناس أجمعين ، وإن تلك اللعنة تنالهم بسبب موتهم على الجحود والإصرار على الكفر .

وقد أثار الناس جدلا موضوعه هل تجوز لعنة الكافر وهو حي ، فناس لم يجيزوها ، لأنه يجوز أن يتوب الله تعالى عليه ، وجواز اللعنة إنما كانت على الكفار الذين ماتوا على الكفر ، ومن كان حيا ترجى توبته ، أو تجوز توبته .

ومن العلماء من أجاز اللعنة على الحال التي هو عليها ، وخصوصا إذا كان ممن يؤذون صاحب الدعوة ، ويروى في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن عمرو بن العاص ، وهو على الكفر ، فيروى في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وقد علم أني لست بشاعر ، فالعنه واهجه عدد ما هجاني " .

وقد اتفق أهل العلم على أن اللعن الذي ذكرته هذه الآية عقاب من الله تعالى ، وغضب على الكافر ، وجزاء له كجزاء جهنم .

وأكثر العلماء على أن لعن المسلم لا يجوز ولو كان عاصيا ، لأنه يخزيه ويذله ، وخزيانه وذله يقربه من الشيطان ويجعل للشيطان مدخلا في نفسه ، يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أتي بشارب خمر مرارا ، فقال بعض من حضره : لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به ، فقال الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : " لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم " .

وقد بين سبحانه أنهم خالدون في عذابهم ، فقال تعالت كلماته : خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون الخلود هو البقاء الدائم الذي لا نهاية له ، وكثيرا ما يذكر الخلود موصوفا بالدوام ، وبصيغة مؤكدة ، وقد انحرف بعض الناس فقال إنهم يبقون في العذاب بمقدار جرمهم الدنيوي وزمانه ، وذلك انحراف في الفكر وإن قاله بعض الذين لم يعرفوا بالانحراف .

[ ص: 486 ] والضمير في ( فيها ) يعود على اللعنة ، وتكون اللعنة من الله تعالى مقتضية الدخول في النار ، لأنها متضمنة غضب الله تعالى يوم القيامة ، وغضب الله تعالى مقترن به عذابه ، وإنه عذاب مؤلم مستمر لا يخفف عنهم ، ولا ينقطع بل هو مستمر ، لأن سببه استمر طول حياتهم في الدنيا ، ولا ينظرون ، وقد أكد الله تعالى أنهم لا ينظرون ولا يؤجلون بذكر ضمير الفصل الذي يؤكد الحكم .

وقد صرح الله سبحانه وتعالى بالوحدانية ، فقال تعالى : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وقوله تعالى : " وإلهكم " بالإضافة إليهم فيه إشارة إلى أن المعبود الذي تعبدونه بحق إله واحد ، فالذين تعبدونهم من أوثان وأحجار ليسوا بآلهة بل إلهكم الحق الذي يجب أن تعبدوه واحد لا إله إلا هو ، لا يعبد بحق إلا هو ، ولا يمكن أن يسمى غيره من الأوثان باسمه ، إنما هي أسماء سميتموها ما أنزل الله بها من سلطان ، فالإله هو الخالق الذي ينفع ويضر ، وأنشأ الوجود برحمته ، وعمهم بنعمته ، ولقد وصفه سبحانه وتعالى بأنه " الرحمن الرحيم " الذي يتصف بالرحمة ، وتعتبر صفة من صفاته ، وهو الذي يرحم العباد فعلا ، وقد بينا معنى الاسمين الكاملين من قبل .

وقد ذكر سبحانه وتعالى هذين الوصفين من بين الأسماء الحسنى ; لأنهم يحسون بأنهم في آلائه ، ورحمته ، فهم إذا كانوا في شدة لا يستغيثون بآلهتهم ، وإذا كانوا في ضر لا يلجئون إلا إليه أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله ويقول تعالى : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ويقول تعالى في بيان حالهم في مأساتهم وشدائدهم وأنهم يضرعون إليه : قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون

فأولئك الوثنيون من العرب كانوا يعرفون الله تعالى ولكن يعبدون أوثانهم ، وعندما تشتد الشديدة عليهم يلجئون إلى الله وحده مستعينين طالبين الرحمة من [ ص: 487 ] عنده ، ولا يرجون الرحمة من غيره قط ; ولذا كان وصفه بالرحمة ; لأنهم يلجئون إليه وحده عند رجاء الرحمة فلا يرجونها من غيره ، وكأن المعنى : الواحد الأحد هو الذي يرحمكم عندما تضرعون إليه فكان المنطق يوجب عليكم ألا تعبدوا غيره .

ولقد بين سبحانه دلائل وحدانيته ، وأن خلق الوجود بإرادته ، ولم يخلق الوجود من غير إرادة خلاقة مسيطرة على ما في الوجود ، يعرف ما خلق ، ويدبره والدليل على ذلك :

أولا - تنوع خلقه من سماوات وأرضين ، ومن ماء ينزل فيحيي الأرض بعد موتها ، مما يدل على أنه مخلوق بإرادة واحدة .

ثانيا - تصريف الوجود من حال إلى حال ، من ظلمة ونور وليل ونهار ، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل .

ثالثا - المخلوقات المستمرة من رياح تتحرك وسحاب مسخر ، وجريان الفلك على الماء بأمره ، وكل ذاك لمعنى أريد ، وغاية قصدت لا تكون إلا من خالق مريد منفرد بالإيجاد .

رابعا - الإيجاد بالتوالد المستمر ، وانتظام هذا الوجود مما يدل على وحدة الموجد ، لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون

فهذه الآية الكريمة تشير إلى القدرة المنفردة بالتكوين ، فتنفرد لا محالة بالعبادة والألوهية ، وفي معنى هذه الآية وإن كانت بأسلوب بياني آخر ، أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونـزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج

[ ص: 488 ] هذه إشارات إلى بعض ما في الآية من بينات ، وأدلة على أن خالق الكون واحد مدبر وحده لا يشاركه في هذا الإيجاد المحكم الذي يسير على سنة رسمها منشئه ، لا تقدير لخلق إلا من الله وحده ، وهو العليم الحكيم . ولنذكر ما ساقه سبحانه وتعالى من كلمات في هذا الكون .

قوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض قالوا : إن المشركين لما ذكر الله سبحانه وتعالى وحدانيته طلبوا دليلا على الدعوى ، وإردافها ببينة واضحة ، فقال الله تعالى ذلك ، وإذا لم يكن سؤال ، فإنها جواب على فرض سؤال إذ العقل طلعة يريد معرفة سر كل شيء .

والسماوات جمع سماء ، وجمعت لأنها تشتمل على طبقات مختلفة من أبراج ونجوم وكواكب يمسكهن الله تعالى برباط محكم مما سنه في الكون من جاذبية رابطة ، ونسق بهيج ، إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده فهو سبحانه خلقها وأمسكها وحفظها من أن تنتثر أو أن تنفطر ووحد الأرض ; لأنها في سطحها وظاهرها شيء واحد ، وإن كانت هي الأخرى طبقات .

وآية السماوات ما فيها من أبراج ونجوم وارتفاعها بغير عمد ترفعها ، وما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة الباهرة مشرقة ومغربة نيرة ، وغير نيرة .

وآية الأرض ما فيها من بحار وجبال رواس ، وما في باطنها من فلزات ومعادن وماس ، وما في بحارها من لآلئ ومرجان وعنبر ، فكل هذا آية على وجود الله تعالى ووحدانيته ; فهو خالق الوجود وحده .

وقوله تعالى : واختلاف الليل والنهار بأن يكون كل واحد منهما خلفا ، كما قال تعالى : وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة واختلافهما من حيث الظلمة والنور ، ومن حيث الطول والقصر وأن يطول الليل مرة أكثر من النهار وأن يطول النهار أخرى أكثر كما قال تعالى : ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وقد قال تعالى : وآية لهم الليل [ ص: 489 ] نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون وآية الليل والنهار هي انتظامهما وتغير أحوالهما بفعل الواحد الحكيم العليم .

وقوله تعالى : والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس والفلك تذكر - وتؤنث ، وهي السفن التي تحمل الأثقال وتنقلها من بلد إلى آخر ، أو إقليم إلى آخر ، لينتفع أهل الأرض بكل خيراتها ، وما يفضل من إقليم ينقل إلى غيرها ، فيعم الخير ، ويتبادل الناس جميعا ما في الأرض من نبات وحيوان ; ولذا قال سبحانه : التي تجري في البحر بما ينفع الناس وآية الفلك أنها تحمل أثقالا ويحملها الماء السائل الرقيق ، ولقد قال تعالى : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين

وإن في الفلك آيات أخرى في تسخير الله تعالى لها بالرياح تجريها وتتحرك حيث أراد محركها ، وإنه بعد اتساع العلم ، وقدرة الإنسان في تسخير الآلات والسيطرة عليها ما زالت الرياح عاملا قائما في تسيير الجاريات وقوله : وما أنـزل الله من السماء من ماء السماء المراد بها ما علا مما يتصل بالأرض ، وإن الله وحده هو الذي ينزل الماء أي الأمطار ، ولأنها تجيء من غير حسبان ، وتجيء بالاستسقاء أحيانا ، أسند إنزال الماء إليه سبحانه وتعالى ، لأنه المصرف للسحاب ، ولا يمكن ابن الأرض أن يعرف متى تمطر السماء ، ومتى يكون مطرها غيثا يسقي الناس والدواب والأنعام والحرث والنسل ومتى يكون وابلا عاصفا مفسدا وفاسدا . وبين الله تعالى وجها من وجوه النعمة في نزول المياه من السماء إلى الأرض بتسخيره ، فقال تعالى : فأحيا به الأرض بعد موتها والمراد الظاهر أنها من قبله كانت جرداء لا نبات فيها ، ولا زرع ولا ثمر ، فكانت كالميت فينزل الماء فيحييها بالخضرة والنضرة ، وتصير كأنها الحي ، في ريق حياته ، كما قال تعالى : وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون

[ ص: 490 ] وقوله تعالى : وبث فيها من كل دابة الدابة كل ما يدب على الأرض من الحيوان كما قال تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها وبث أي فرقها ونشرها من أنعام وإنسان وطير وغير ذلك من الحيوان ، فإن ذلك كله من الماء الذي ينزل من السماء سواء أكان سيلا يسيل ، أم نهرا يجري ، أم عينا تختزن فيها مياه الأمطار في باطن الأرض ، ولقد قال تعالى : وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون والآية في ذلك أن الماء به الحياة ، والله تعالى منزله ومجريه ولو شاء ما كان في الناس هذه الحياة من كل زوج بهيج .

وقوله : وتصريف الرياح معناه إرسالها على غير صورة واحدة ، فقد تكون عقيما ، وقد تكون مملوءة ماء ، وقد تكون عاصفا وقد تكون رخاء ، وتكون حارة أحيانا وباردة أحيانا ، وقد تجيء من الشمال وقد تكون من الجنوب ومن الشرق أحيانا ، ومن الغرب أحيانا أخرى ، وفي مقدار تسييرها للسفن الجاريات في البحر ما بين كبيرة وصغيرة ودافعة ورافعة ، وإن ذلك كله بتقدير العزيز العليم ، وقد يقولون : إن ذلك كله يكون تابعا لسنن كونية آتية من حرارة الأرض أو برودتها ، وإن ذلك لحق ، ولكن من الذي سن هذه السنن الكونية ; إنه هو الله تعالى ، وهو قادر على تغييرها ، وهذه آية من آيات الله تعالى في الكون ، وفيه بيان قدرة الله تعالى وحكمته العالية .

وإن الله تعالى نصر نبيه بالريح في غزوة الخندق ، وقد روى ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور " ، ولقد قال تعالى في غزوة الخندق : فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكل خواص الرياح من آيات الله تعالى الدالة على وحدانيته وانفراده بالخلق والتكوين وذلك يقتضي انفراده تعالى بالعبادة فلا يعبد سواه ولا إله إلا الله .

[ ص: 491 ] وقوله : والسحاب المسخر بين السماء والأرض والسحاب ظلال تنتقل بين السماء والأرض ، وسميت سحابا لانسحابها من مكان إلى آخر ، وهي قد تكون ممتلئة فتنزل على الأرض إذا بردت ، ويكون منها الودق ، وقد قال تعالى : ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينـزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار والسحاب المسخر المذلل لأوامر الله تعالى يبعثه من مكان إلى مكان كما يريد سبحانه ، وهو العليم الخبير ، فيذهب بمطره إلى الأرض التي يريد الله تعالى إحياءها ، ولقد قال تعالى : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت ويقول تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فالسحب هي التي سخرت لتوزيع المياه بإرادة الله تعالى من أرض لا تنبت إلى أرض أخرى تنبت ، فإذا كان الله ينزل من السماء ماء ليكون منه حياة كل شيء ، فالله سبحانه وتعالى سخر السحاب لتوزيع هذا الماء الذي ينزله على حسب الحاجة وعلى حسب حكمته ، وسنته .

هذا الذي ذكره سبحانه من خلق السماوات والأرض والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ، والمطر الذي ينزله من السماء ، وتصريف الرياح بسنن كونية نظمها ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض ، فيه آيات بينات ، وأدلة واضحات قاطعة تدل على وجود الله تعالى وانفراده سبحانه بتدبير الكون ، وعلى أن إرادة واحدة هي التي أنشأته وهي التي تديره ، سبحان الله رب العالمين ; ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر تلك الآيات البينات لآيات لقوم يعقلون هذه الجملة السامية فيها جواب " إن " في قوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض إلى آخر الآية الكريمة . " آيات " ، أي أدلة قاطعة لا مجال للريب فيها لقوم يعقلون أي يعملون عقولهم لا أهواءهم ، ولم تطمس عليها أوهام توارثوها ، وتقليد استمسكوا به ، وقالوا ما نعبد إلا ما كان يعبد آباؤنا من قبل .

وعبر سبحانه وتعالى بـ " قوم " للإشارة إلى الأقوام التي لا تعقل ولا تفكر .

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية