1. الرئيسية
  2. زهرة التفاسير
  3. تفسير سورة البقرة
  4. تفسير قوله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة
صفحة جزء
[ ص: 517 ] البر

ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون

* * *

كان أمر تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام أمر هذه النفوس المؤمنة ، والنفوس المشركة والكتابية وأثار جدلا وحماسة ، فالمؤمنون تقبلوها بقبول حسن ، لأنها بناء إبراهيم ، وهو الذي سماهم مسلمين ، وهو الحرم الآمن الذي جعله الله تعالى للناس مثابة وأمنا ، وهو مزار العرب إليه يحجون ويعتمرون من وقت أن بناه إبراهيم عليه السلام ، وهو عزهم ، وأما المشركون من العرب فقد ظنوا أن محمدا عاد أو سيعود إليهم وما علموا أن ذلك إيذان بذهاب دولة الأوثان ، وإزالتها من حول الكعبة ، وأما اليهود فقد أذهب أطماعهم في النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، وعلموا أنه هو النبي الأمي الذي بشر به في التوراة يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، وقد صدفهم الله تعالى .

إن هذا الأمر الذي يشغلهم جميعا ، إنه الأمر الأعظم ، وهو مقصد الأديان كلها ، وغاياتها ، وهو الذي يهذب النفوس ، والمجتمعات ويربيها ويقيمها على التعاون على البر والتقوى ويحميها ويدفع عنها وهو نسب الأديان كلها ; ولذا قال تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب أي ليس هذا هو البر [ ص: 518 ] المقصود الجامع لكل معاني الخير ، الذي حرص الدين عليه حرصا كاملا ، بل هو إلى الشكل أقرب ، أو هو الوسيلة وما يكون من الأمة هو الغاية العليا من كل دين جاء من الله تعالى لهداية البشر ، وتوجيههم نحو الصلاح الإنساني آحاد وجماعات ; صلاحا يمس نفوسهم ويملأ قلوبهم إيمانا ، وليس في العبارة السامية ما يومئ إلى الاستهانة بأمر القبلة ، بل إن فيها توجيها إلى الناحية التهذيبية والكمالية للإنسان في آحاده ، وجماعاته ; ولذا قال تعالى مستدركا مثبتا : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة

قال العلماء : إن " من آمن بالله " إن الكلام فيها على تقدير مضاف ومعناه ، ولكن البر بر من آمن بالله واليوم الآخر . . وحذف المضاف إذا دل عليه المضاف إليه كثير في القرآن وهو من إيجاز الحذف البليغ كقوله تعالى : واسأل القرية التي كنا فيها أي أهل القرية ، وكقوله تعالى : فليدع ناديه أي فليدع أهل ناديه .

وإن ذلك الإيجاز من دلائل الإعجاز ، وإننا نرى أن حذف المضاف أو عدم تقديره يعلو بالكلام إلى أعلى درجات البيان ، إن الكلام يكون دالا على البر بمفهوم الحال المكونة من الكلام كله ، فيكون المعنى ليس البر المقصود من الديانات الإلهية أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر المقصود وهو الغاية من الديانات الإلهية هو الحال التي يكون عليها من آمن بالله واليوم الآخر . . وآتى المال على حبه ذوي القربى إلى آخر ما بينته الآيات ، فهذه الحال المجتمعة من تلك الصفات ، وهذه الأعمال المهذبة المربية لمجتمع فاضل هي البر ، وعلى ذلك لا تحتاج إلى تقدير ، والبر كما يقول المفسرون هو المعنى الجامع لكل ما فيه نفع للنفس وللناس ، وإني أراه مرادفا في العرف الخلقي .

وقد ذكر الله تعالى صنوف البر كلها في هذه الآية الكريمة ، وكانت بحق آية البر ، لأنها جمعت أطرافه ، ونواحيه كلها ، وهي من أجمع الآيات للتكليفات الدينية .

[ ص: 519 ] * وأول البر وسنامه وأصله الإيمان ، وهو التصديق والإذعان ، وأول من يجب الإيمان به الله ، فالإيمان به هو لب الإيمان كله ، وهو الخضوع والإذعان والعبادة له وحده لا شريك له ، وامتلاء النفس بذكره ، بحيث لا تذكر غيره في الغدو والآصال ، وفي الصحو ، وفي المنام ، ومن الإيمان بالله تعالى الإيمان بأنه وحده الخالق للوجود ، والإيمان بأنه وحده الموصوف بصفات الكمال ، والإيمان بأنه وحده المستحق للعبادة ، فليس في الوجود من يستحق العبادة سواه .

والإيمان باليوم الآخر ، ويشمل الإيمان بالبعث والنشور ، والإيمان بيوم القيامة ، وما يجري فيه من حساب وعقاب وثواب ، وأن من أحسن فله النعيم المقيم ، ورضوان من الله أكبر ، وأن من خالف وغير وبدل فجزاؤه جهنم ، وبئس المصير ، وإن ذلك كله مادي حسي ، وليس روحيا كما توهم بعض الكاتبين .

وكان الإيمان باليوم الآخر تاليا للإيمان بالله تعالى ، لأنه تصديق لما أمر الله به ، ولأنه سلوان المحسن العابد وإنذار للمشرك المكذب ، والمعاند المستكبر الجاحد ، وقد تبين له الحق .

ثم يلي الإيمان باليوم الآخر ، الإيمان بالملائكة الأخيار الأطهار الذين لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، وهو إيمان بالغيب الذي لا يرى ولا يحس ، وأول شعار المؤمن الإيمان ، وهو الفيصل بين المسلم والزنديق ، فالزنديق أو الملحد في دين الله تعالى لا يؤمن إلا بالمحسوس ، ولا يصدق ما لا يرى ويحس ، والمؤمن يعلم أن وراء المحسوس سرا خفيا ، وقد أمرنا الله تعالى بالإيمان فحق علينا أن نؤمن بوجودهم ، وهم مذكورون في كتابه الكريم ، وفي الكتب التي صدقها ، فالكفر بهم كفر بالله وبالقرآن ، وذكر الله بعد ذلك الإيمان بالكتاب ، وهو القرآن الكريم ، والإيمان تصديق بكل ما جاء به ويدخل في ذلك الإيمان بالكتب السابقة ; لأنه سجلها في قصصه ، فهو سجل النبوة كله ، فيه ذكر كتبها ، وفيه بيان معجزات النبيين ، فلولا قصصه الحكم الصادق ما عرف كتاب من كتب النبيين ، ولا معجزة من معجزاتهم .

[ ص: 520 ] وذكر سبحانه وجوب الإيمان بالنبيين السابقين ; لأن الإيمان الذي جاء به القرآن هو الإيمان الجامع بالنبوات الإلهية كلها ، كما قال تعالى : قولوا آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون

هذا هو الإيمان الذي أمر به الله تعالى ، وكانت حال المتصف به والقائم بما يأتي من تكليف ، وأعمال ، هي البر المطلق من الإنسان في كل دين .

ولننتقل إلى بيان الأعمال التي هي بر في ذاتها ، وحال القائم بها هي البر الخالص التي تأمر به كل الأديان التي جاءت من الله لا من أوهام البشر .

* في حال من آتى المال على حبه ، ولقد قال تعالى فيه ، وآتى المال على حبه أي أعطى المال على حبه له فالضمير يعود إلى المال ، والمعنى على حبه للمال ورغبته في اقتنائه ، ولكنه آثر العطاء وعلى هذا السبب وذلك كقوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا وكقوله تعالى : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون

ويفسر هذا ما رواه البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي الصدقة أعظم أجرا ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر ، وتأمل الغنى ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان " .

وقد فسر بعضهم بأن الضمير يعود على الإيتاء وهو المصدر المنسبك من آتى ، والمعنى أعطى المال محبا للإعطاء راغبا فيه راضي النفس ، طيبا بالعطاء ، راغبا في رضاء الله به ، وبذلك يجتمع له قربتان قربة العطاء في نفسه ، وقربة الاتجاه إلى إرضاء ربه .

[ ص: 521 ] وهو في مؤداه لا يختلف عن التقدير الأول ، وإن كان الأول يدل على مجاهدة النفس في العطاء بين ما يحبه ويشح به ، بين إرضاء الله بالعطاء فيؤثر إرضاء الله تعالى على شح نفسه ، فتكون قربة العطاء ، وقربة المجاهدة حتى يكون مطيعا لله تعالى متقربا إليه ، طالبا رضاه ، وهو الغني الحميد .

وقد ذكرت الآية الكريمة من يخصهم بعطائه ، أو من يؤثرهم بهذا العطاء ، ويبدو من الذكر ومعناه ترتيبهم في العطاء وأن بعضهم يفضل في العطاء على بعض إن لم يتسع ماله لهم أجمعين .

( أ ) ذوو القربى ; ولذا قال تعالى : وآتى المال على حبه ذوي القربى وهم قراباته ، ويفضل الأقرب فالأقرب ويبدأ بالوالدين ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ردا على من سأله من أحق الناس بحسن صحبتي : " أمك " كررها ثلاث مرات مع تكرار السؤال ، ثم قال : ثم من ؟ قال : " أبوك ، ثم الأقرب فالأقرب " ، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه النسائي : " إن الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة " ، ولأن الإسلام أقام على دعامة الأسر المتحابة المتعاونة المتكاتفة ، والأسرة مقصورة على الأبوين والأولاد ، بل هي ممتدة إلى أن تشمل الأقارب ; ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : " من أراد منكم أن يبارك له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه " ، ولقد عد من ذوي القربى الزوج إذا كان فقيرا ، فقد سألت امرأة عبد الله بن مسعود النبي - صلى الله عليه وسلم - أيعد إعطاء زوجها صدقة ; ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " نعم " .

[ ص: 522 ] ( ب ) والذين يلون أولي القربى في العطاء اليتامى ، سواء أكانوا من ذوي القربى أم لم يكونوا ، وإذا كانوا من ذوي القربى يكونون أولى من غيرهم من الأقارب إلا الأبوين .

واليتيم هو الذي مات أبوه ، وهو صغير ، ورعاية اليتيم مما حرض عليه الإسلام في عدة أحاديث ، وأوصى القرآن بهذه الرعاية في عدة من آي القرآن ، وأنه يجب ألا يذل ولا يقهر ; ذلك لأن اليتيم إن أهمل كان عضوا هداما في المجتمع ، إذ يخرج إلى الحياة ناقما عليها متمردا لا يألف ولا يؤلف ، إذ إن تربية النزوع إلى الألفة تكون من الأبوين ، ومن الشعور بالرحمة والحياطة والعناية وخصوصا من الأب الحاني الرفيق الحاني العطوف .

فإذا حرم من ذلك فقد يتربى على النفور وعداوة المجتمع إن لم يجد من يحل محله في إلفه ومودته وحياطته ; ولذا نهى الإسلام عن قهر اليتيم ، حتى لا يتربى فيه نزوع النفور ، فقال تعالى ; فأما اليتيم فلا تقهر وقال - صلى الله عليه وسلم - : " خير بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم ، وشر بيوت المسلمين بيت يقهر فيه يتيم " وقال - صلى الله عليه وسلم - : " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وقال بإصبعيه السبابة والوسطى " .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : " من ترك مالا فلورثته ، ومن ترك كلا فإلي وعلي " وهو اليتيم .

[ ص: 523 ] ( جـ ) والمرتبة التي تلي اليتيم في العطاء ، هو المسكين وهو من أسكنته الحاجة ، وهذا يشمل الزمن أي المريض بمرض مع الفقر ، وعدم القدرة على العمل ، ويشمل أولئك الفقراء الذين لا يملكون شيئا ، ويتعففون عن أن يسألوا الناس ، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك " ليس المسكين هو الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين هو الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه " وهو الذي ينطبق عليه قول الله تعالى : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف

( د ) والذي يلي المساكين ابن السبيل وهو الذي انقطع عن ماله ، وصار في مكان لا يجد فيه ما يمده بأسباب الحياة من طعام يطعمه ، أو مال ينفقه أو مأوى يأوي إليه ، ولذلك أطلق عليه ابن السبيل ; لأنه انقطع إلا عن السبيل الذي يسير فيه ، وإن إيتاء المال لهذا يكون بإعطائه ما يسعفه من قوت ، وبإيوائه حتى يئوب ، وإعطائه قدرا يصل به إلى بلده ، ويصح أن يسهم في إنشاء مضيف يأوي إليه أبناء السبيل الذين ينقطع بهم الطريق ، ولا يجدون مأوى ، ولقد قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير ، ومحمد الباقر : إن ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين ، وهو لتعبير جدير ببني هاشم الأكرمين ، فقد سماه ضيفا يجب إكرامه .

( هـ ) ويلي ابن السبيل في المرتبة التي تؤتى المال على حبه فيها السائلون وهم الذين يسألون ما يقوتهم من طعام أو مال يشترون به قوتهم ، وهم لهم حق على كل مسلم له غنى أو فضل مال ، وقد قال تعالى : والذين في أموالهم حق معلوم [ ص: 524 ] للسائل والمحروم وقد روى الإمام أحمد عن الإمام الحسين أحد السبطين والثاني لسيدي شباب أهل الجنة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " للسائل حق وإن جاء على فرس " ، وإنه لا يرتكب مذلة السؤال إلا عن حاجة ، ومن اللؤم أن تسأله عن مقدار حاجته .

هذا ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد كان هناك بيت مال يسد حاجة كل محتاج ، ويبحث عن المحاويج ليعطيهم ما يغنيهم عن السؤال .

وكيف تكون الحال ، ولا توجد أية ناحية تبحث عن المحاويج لتغنيهم عن السؤال ؟ ! إنه يكون إعطاء السائل أهم وأوجب ، ولكن من الناس من يمنع الماعون عن هؤلاء ; بحجة أن هؤلاء لهم مال ويتخذون تكفف الناس حرفة يحترفونها ، ويؤثر المنع على العطاء ، بل إنهم يذهب بهم فرط مغالاتهم في المنع إلى أن يحرموا العطاء ، ولا حجة لهم إلا ادعاؤهم أنهم محترفون ، فهل فتشتم عن حالهم ، ونقبتم في بيوتهم ، وكيف يفرون من أن للسائل والمحروم حقا معلوما كما في الكتاب السامي وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود " للسائل حق ولو جاء على فرس " إنهم يظنون الظن ، ويحكمون به من غير أن يستيقنوا في الأمر شيئا ولا حول ولا قوة إلا بالله .

( و ) المرتبة الأخيرة التي تؤتى المال على حبه هم العبيد ليفك عتقهم ، وعبر عنهم رب العالمين بقوله عز من قائل : وفي الرقاب والرقاب جمع رقبة ، والمراد العبد الذي تعلق به الرق ، وعبر عن الرقيق بالرقبة من قبيل التعبير بالجزء وإرادة الجميع ، وعبر عنه بالرقبة ; لأن الرقبة هي مظهر الخضوع حسا ، إذ يطأطئ العبد رقبته ، خشوعا وخضوعا ، وكان تعبير القرآن عن الرقيق بالرقبة مثل قوله تعالى : [ ص: 525 ] فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة وقال في كفارة القتل الخطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة

وقوله : وفي الرقاب أي يؤتي المال على حبه في الرقاب أي في فكها ، وذلك يشمل إعطاء المكاتب وهو الذي تعاقد مع مالكه على أن يعطيه ثمنه أو ما تراضيا عليه على أن يعتقه ، وقد أمر الله تعالى بالمكاتبة ، فقال تعالى : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم وإيتاء المال بأن يعطيه ما يستعين به على ما تعهد به لفك رقبته .

ويشمل الإعطاء في الرقاب أن يشتري عبيدا ويعتقها ، كما يشمل الإعتاق إن كان له رقيق .

وإن إعتاق الرقاب من أحب ما يطلبه الله تعالى من عباده إليه ; لأن في ذلك صيانة لكرامة الإنسان من الابتذال ، وقد قال تعالى : ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا

ولأن في الحرية كمال الإنسانية وكمال التكليف الاجتماعي ، ولأن في الحرية قوة وتحمل الأعباء وأن يكون جزءا من المجتمع يسيره إلى الخير .

* ابتدأ سبحانه وتعالى في ذكر الخلال التي يتكون من مجموعها حال البر الذي هو غاية الغايات من الأديان الإلهية بالإيمان الجامع في معناه ، ثم ثنى ببيان المحبة للخير والإنسانية بإعطاء المال عن رغبة ومحبة للمحاويج من الأقرب فالأقرب من بني الإنسان ثم ذكر التربية النفسية والاجتماعية في الآحاد ، والجماعات ، فقال تعالت حكمته : وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا

وإن هذه أمور تهذب النفس والمجتمع في الأمة ، ومجتمع الإنسانية فإقامة الصلاة بأدائها على وجهها الذي شرعت له ، وهو إخلاص النفس لله ، وامتلاؤها بذكر الله ، والإتيان بها مستوفية الأركان من قيام وقراءة وركوع وسجود ، واستشعار خشية الله تعالى في كل حركاتها ، بحيث تكون النفس مستحضرة عظمة الله في كل [ ص: 526 ] حركة من حركاتها ، وتلاوة للقرآن فيها ، ويكون القلب مع الجوارح في معانيها ، وتكون كلها ذكرا لله تعالى وتفضي إلى غايتها ، كما قال تعالى : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر

* وإيتاء الزكاة المفروضة ، وهي التي تكون في المال النامي المنتج إذا بلغ نصابا مقدورا بنحو عشرة مثاقيل ، أو يكون من أرض زراعية أو شجر مثمر ، أو نحوهما بمقدار العشر صافيا من النفقات على ما هو مصرح به في كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ومستنبط من جملة الأحكام التي قررها النبي - صلى الله عليه وسلم .

والزكاة يجمعها ولي الأمر وينفقها في مصارفها المذكورة في قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم فولي الأمر هو الذي يجمعها ، وهو الذي يوزعها .

وقد أجمع العلماء على أن في المال حقا غير الزكاة ، وهو الذي أشار إليه الله في قوله تعالى : وآتى المال على حبه ذوي القربى إلى آخر النص الكريم في موضوع إيتاء المال على حبه .

وذلك لأن الزكاة مفروضة وموزعة بالحق وفي مصارف ثابتة منها الفقراء والمساكين وفي الرقاب ، ومنها الغارمون وابن السبيل ، وفي سبيل الله أولئك في نطاق علم ولي الأمر ، أو ما يصل أمره إلى ولي الأمر ، وفوق ذلك هناك واجبات غير الزكاة فإذا كان له ذوو قربى يحتاجون إلى ماله يكون إعطاؤهم واجبا غير واجب الزكاة ، فإذا كان له أبوان فقيران فمن الإحسان إليهما الإنفاق عليهما ، وكذلك ذوو قربى القرابات القريبة .

ومن اليتامى من لا يعلم ولي الأمر حالهم فكل من يعرف يتيما يجب عليه أن يكرمه ويعزه ، وكذلك أولئك المساكين المتجملون الذين لا يسألون الناس إلحافا تعففا وتجملا ، وأولئك لا يعرف أمرهم إلا الأقربون منهم ، وأبناء السبيل حالهم تكون عارضة وتحتاج إلى إصلاح سريع ، وسد حاجة ، ومعاونتهم على إعادتهم .

[ ص: 527 ] ومن الناس من تضطرهم الحاجة إلى السؤال لصعوبة وصولهم إلى بيت المال ، الذي يجمع الزكاة ويوزعها في مصارفها ، ومنهم من يكون في صحراء بعيدا عن العمران فيكونون في حاجة إلى الإسعاف السريع .

وكل هؤلاء وأولئك هم مصارف من يؤتى المال على حبه ، والجزاء عند الله تعالى .

* وذكر الله سبحانه الوفاء بالعهد ، وهو يشمل الوفاء بالعقود التي تعقد بين الناس في بيوعهم وتجاراتهم والجماعات في تعاملها .

وهي أظهر في معاملات الدولة الإسلامية في علاقاتها بغيرها من الدول والجماعات ، فالوفاء بها تنظيم من الإسلام للعلاقات الإنسانية بين أهل الأرض ، ولقد قال تعالى : وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا وقال تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون

فالوفاء بالعهد قوة ، وهو أساس التنظيم بين الدول ، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لكل غادر لواء يوم القيامة ، وأعظم لواء غدرة لواء أمير عامة " . * والأمر الأخير في الأمور التي جعلها الله تعالى قوام البر الكامل - الصبر ، وهو ملاك الأخلاق الإنسانية كلها ، فما من خلق كريم إلا كان الصبر قوامه ، وهو قوة يقين تعين على كل ما ذكر في آية البر ، فإيتاء المال على حبه يحتاج إلى الصبر ، والصلاة والزكاة والوفاء بالعهد ، كل هذا يحتاج إلى الصبر وضبط النفس ، وقوة العزيمة .

[ ص: 528 ] وقد قال تعالى والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس

وإن مقتضى النسق أن يقول سبحانه والصابرون بالعطف على الموفون بعهدهم إذا عاهدوا ولكن كان النصب على أنه مفعول لفعل محذوف هو أخص الصابرين فهي منصوبة على الاختصاص ، لمعنى في الصبر وهو واحد في الفضائل وأفعال الخير السابقة .

وهنا يسأل سائل ، إن الجمل السابقة متعاطفة فقوله : وآتى المال على حبه عطف عليها وأقام الصلاة وآتى الزكاة فلماذا كان عند الكلام على الوفاء والصبر عبر بالوصف دون الفعل ؟ والجواب عن ذلك فيما يظهر لي - والحقيقة عند منزل القرآن فعنده سر البيان الذي لا نسمو إلى إدراكه - وهو أن إعطاء المال وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة أفعال مطلوبة في ذاتها ، وهي تتجدد آنا بعد آن وإن كانت واجبة على الدوام ، أما الوفاء فالفضيلة فيه أن يكون صفة دائمة لا أن يكون فعلا ثم ينقطع ، بل يكون حلية يتحلى بها المكلف ، وكذلك الصبر المطلوب فيه أن يكون صفة مستمرة تظهر في كل أعماله من عبادات ومعاملات وأعمال ، يصبر في كل أمر يقتضي الصبر على النعماء فيرضى ويشكر ، ويصبر على الشديدة فلا يفزع ، ويصبر على الضراء فلا يئن .

وقد ذكر سبحانه وتعالى مواطن للصبر يختبر فيها النفس فلا تطيش ولا تضطرب ; إذ الصبر ضبط النفس فلا تهلع ولا تتبرم ولا تجزع ولا تضطرب ولا تطيش . وقد ذكر الله الصبر في البأساء وهي الشدة التي تنزل من فقر مدقع ، ومن طاغية يطغى ، ومن نوازل تنزل ، كخسف أو ريح عاصف ، أو سوء معاملة أو نحو ذلك مما يصيب الإنسان في الحياة ، والصبر فيها هو ألا يهلع ، وأن يفوض أمره إلى الله تعالى ، ويرجو كشف الغمة ولا تذهب نفسه شعاعا ، بل يكون مالكا لنفسه مدركا بقلبه ومبصرا بما يدفع عنه الأذى راجيا من الله تعالى العون في هذه الشديدة النازلة .

[ ص: 529 ] والصبر في الضراء ، والضراء ما ينال الجسم والنفس من مرض عارض أو من مرض مزمن ، أو من فقد عضو من الأعضاء أو إصابته ، والصبر في هذه الحال ألا يشكو ولا يئن ولا ييئس من رحمة الله تعالى ، روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يقول الله تعالى : أيما عبد من عبادي ابتليته في فراشه فلم يشك إلى عواده أبدلته لحما خيرا من لحمه ، ودما خيرا من دمه ، فإن قبضته فإلى رحمتي ، وإن عافيته عافيته وليس له ذنب " .

والموطن الثالث الذي يكون فيه الصبر ، وفضله كبير لأنه يحمي الجماعة ، وهو " حين البأس " ، والبأس هنا هو الحرب وقال تعالى : " حين " إشارة إلى أن الحرب تجيء وقتا بعد وقت ، وليست مستمرة ، وإن استمرت أمدا طويلا تبدل الرجال بعد الرجال ، ولا يحارب الجيش كله .

وأصل البأس الشدة ، ومنه قوله تعالى : وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس أي شديد ، وسميت الحرب بأسا لما فيها من الشدة ، وإن هؤلاء الذين كانت حالهم برا قد قرر تعالى حكمه فيهم فقال تعالى : أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون

الإشارة الأولى والثانية إلى الذين اتصفوا بالبر ، حتى كأنهم هم البر في أعمالهم المؤلفة للقلوب ، والمقربة للنفوس ، وصفاتهم المثبتة لقوة الإيمان وحسن العمل ، والإشارة إلى الأوصاف كما ذكرنا فيها إيذان بأن هذه الأوصاف هي علة الحكم وقد حكم الله تعالى الحكم وأكده بضمير الفصل " هم " ، وحكم لهم بحكمين مؤكدين : أولهما : أنهم صدقوا ، والثاني : أنهم المتقون .

[ ص: 530 ] وهم صدقوا في إيمانهم بأن كان إيمانا ساكنا في القلب ، والنفس مذعنة خاشعة ، وصدقوا في العمل ، فكان عملهم منبعثا من إيمانهم ، وصدقوا ما عاهدوا الله تعالى عليه ، وصدقوا في عهودهم إذا عاهدوا ، وصدقوا في الصبر من غير أنين ولا ضجر ، ولا تململ ولا امتعاض ، وصدقوا في الحرب فلم يفروا يوم الزحف وكانوا الصابرين من غير هلع وفزع ، وطلبوا إحدى الحسنيين النصر أو الاستشهاد ، فكانوا بهذه الأعمال هم الصادقون .

والوصف الثاني هو التقوى ، فهم المتقون الذين وضعوا وقاية بينهم وبين العذاب ، وادرعوا بطاعته فيما أمر ونهى ، وهو العزيز الحكيم .

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية