صفحة جزء
[ ص: 68 ] مقدمة

في ترتيب السور

مدخل

...

مقدمة في ترتيب السور:

اختلف العلماء في ترتيب السور، هل هو بتوقيف من النبي -صلى الله عليه وسلم- أو باجتهاد من الصحابة؟ بعد الإجماع على أن ترتيب الآيات توقيفي، والقطع بذلك.

فذهب جماعة إلى الثاني; منهم: مالك، والقاضي أبو بكر في أحد قوليه، وجزم به ابن فارس.

ومما استدل به لذلك: اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور، فمنهم من رتبها على النزول، وهو مصحف علي، كان أوله: "اقرأ" ثم البواقي على ترتيب نزول المكي، ثم المدني، ثم كان أول مصحف ابن مسعود "البقرة" ثم "النساء" ثم "آل عمران" على اختلاف شديد، وكذا مصحف أبي بن كعب وغيره، على ما بينته في الإتقان.

وفي المصاحف لابن أشتة بسنده عن عثمان أنه أمرهم أن يتابعوا الطول. وذهب جماعة إلى الأول; منهم: القاضي أبو بكر في أحد قوليه وخلائق، قال أبو بكر بن الأنباري: أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا، ثم فرقه في بضع [ ص: 69 ] وعشرين سنة، فكانت السورة تنزل لأمر ينزل، والآية جوابا لمستخبر، ويوقف جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- على موضع الآية والسورة، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف كله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن.

وقال الكرماني في البرهان: ترتيب السور هكذا هو عند الله تعالى في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب، وكان يعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- على جبريل ما اجتمع لديه منه، وعرضه -صلى الله عليه وسلم- في السنة التي توفي فيها مرتين، وكذلك قال الطيبي. وقال ابن الحصار: [ترتيب السور] 2 ووضع الآيات موضعها إنما كان بالوحي.

وقال البيهقي في المدخل: كان القرآن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم -مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب، إلا الأنفال وبراءة للحديث الآتي فيها.

ومال ابن عطية إلى أن كثيرا من السور كان قد علم ترتيبها في حياته -صلى الله عليه وسلم- كالسبع الطوال، والحواميم، والمفصل، وأن ما سوى ذلك يمكن أن يكون قد فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده.

وقال أبو جعفر بن الزبير: الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية، ويبقى منها القليل يمكن أن يجرى فيه الخلاف; لقوله صلى الله عليه وسلم: "اقرءوا [ ص: 70 ] الزهراوين: البقرة وآل عمران"، "رواه مسلم "6، وكحديث سعيد بن خالد أنه -صلى الله عليه وسلم- "صلى بالسبع الطوال في ركعة، وأنه كان يجمع المفصل في ركعة" "أخرجه ابن أبي شيبة "1. وأنه -صلى الله عليه وسلم- "كان إذا أوى إلى فراشه قرأ قل هو الله أحد، والمعوذتين" "أخرجه البخاري "2. وفيه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: "إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي"3.

وقال أبو جعفر النحاس: المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحديث: "أعطيت مكان التوراة السبع الطوال، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل"، "أخرجه أحمد وغيره"5. قال: فهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه من هذا الوقت هكذا. وقال الحافظ ابن حجر: ترتيب معظم السور توقيفي; لحديث أحمد وأبي داود عن أوس الثقفي قال: كنت في وفد ثقيف، فقال [لنا] رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طرأ علي حزبي من القرآن، فأردت ألا أخرج حتى أقضيه". قال أوس: فسألنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور، [ ص: 71 ] وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل، من "ق" حتى نختم.

قال: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو عليه في المصحف الآن كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال بعضهم: لترتيب وضع السور في المصحف أسباب تطلع على أنه توقيفي صادر من حكيم:

الأول: بحسب الحروف; كما في الحواميم، وذوات " الر " .

الثاني: لموافقة آخر السورة لأول ما بعدها; كآخر الحمد في المعنى وأول البقرة.

الثالث: الوزن في اللفظة كآخر " تبت " وأول "الإخلاص".

الرابع: لمشابهة جملة السورة لجملة الأخرى; كـ"الضحى" و ألم نشرح 5. وقال بعضهم: إذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدت في غاية المناسبة لما ختمت به السورة التي قبلها، ثم [هو] 1 يخفى تارة، ويظهر أخرى.

وأخرج ابن أشتة عن ربيعة أنه سئل: لم قدمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة، وإنما نزلتا بالمدينة؟ فقال: قدمتا، وألف القرآن على علم ممن ألفه [به ومن كان معه فيه واجتماعهم] 3 على علمهم بذلك، فهذا مما ينتهى إليه، ولا يسأل عنه.

فإن قلت: فما عندك في ذلك؟

قلت: الذي عندي أولا: تحديد محل الخلاف، وأنه خاص بترتيب سور [ ص: 72 ] الأقسام الأربعة، وأما نفس الأقسام الأربعة; من تقديم الطوال، ثم المئين، ثم المثاني، ثم المفصل، فهذا ينبغي أن يقطع بأنه توقيفي، وأن يدعى فيه الإجماع، وإن لم أر من سبقني إلى ذلك; وإنما دعاني إلى هذا أمران:

أحدهما: ما تقدم من الأحاديث قريبا، وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- الآتي في الأنفال.

والثاني: أن المصاحف التي وقع فيها الاختلاف في الترتيب اتفقت على ذلك; فإن مصحف أبي بن كعب وابن مسعود كلاهما قدم فيه الطوال، ثم المثاني، ثم المفصل; كمصحف عثمان; وإنما اختلفا في ترتيب سور كل قسم كما بينت [ذلك] 1 في الإتقان.

[وهذا دليل قوي في دعوى القطع بأن ذلك توقيفي] 3.

فإذا تحرر ذلك، ونظرنا إلى محل الخلاف، فالمختار عندي في ذلك: ما قاله البيهقي; وهو: أن ترتيب كل السور توقيفي، سوى الأنفال وبراءة.

ومما يدل على ذلك ويؤيده: توالي الحواميم، وذوات " الر " 4 والفصل بين المسبحات، وتقديم طس على القصص، مفصولا بها بين النظيرتين [طسم الشعراء، وطسم القصص] في المطلع والطول، وكذلك الفصل بين الانفطار والانشقاق بالمطففين، وهما نظيرتان في المطلع والمقصد، وهما أطول منها، فلولا أنه توقيفي لحكمة لتوالت المسبحات، وأخرت "طس" عن القصص، وأخرت "المطففين" أو قدمت، ولم يفصل بين " الر " و " الر ".

وليس هنا شيء أعارض به سوى اختلاف مصحف أبي وابن مسعود -رضي الله عنهما- ولو كان توقيفيا لم يقع فيهما اختلاف، كما لم يقع في [ترتيب] الآيات. [ ص: 73 ] وقد من الله علي بجواب لذلك نفيس; وهو: أن القرآن وقع فيه النسخ كثيرا للرسم، حتى لسور كاملة، وآيات كثيرة، فلا بدع أن يكون الترتيب العثماني هو الذي استقر في العرضة الأخيرة; كالقراءات التي في مصحفه، ولم يبلغ ذلك أبيا وابن مسعود -رضي الله عنهما- كما لم يبلغهما نسخ ما وضعاه في مصاحفهما من القراءات التي تخالف المصحف العثماني; ولذلك كتب أبي في مصحفه سورة الحفد، والخلع، وهما منسوختان.

فالحاصل أني أقول: ترتيب كل [من] 2 المصاحف بتوقيف، واستقر التوقيف في العرضة الأخيرة على [الترتيب العثماني، كما أن جميع القراءات والمنسوخات] 3 المثبتة في مصاحفهم بتوقيف، واستقر التوقيف في العرضة الأخيرة على القراءات [العثمانية، ورتب أولئك ما كان عندهم] 4 ولم يبلغهم النسخ.

التالي السابق


الخدمات العلمية