صفحة جزء
ذكر الآية العشرين: قوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله اختلف المفسرون في المراد بإتمامها على خمسة أقوال: [ ص: 261 ] أحدها: أن يحرم بهما من دويرة أهله ، قاله علي ، وسعيد بن جبير ، وطاؤس .

والثاني: الإتيان بما أمر الله به فيهما ، قاله مجاهد .

والثالث: إفراد كل واحد عن الآخر ، قاله الحسن ، وعطاء .

والرابع: أن لا يفسخهما بعد الشروع فيهما ، رواه عطاء ، عن ابن عباس .

والخامس أن يخرج قاصدا لهما لا يقصد شيئا آخر من تجارة أو غيرها ، وهذا القول فيه بعد ، وقد ادعى بعض العلماء على قائله ، أنه [ ص: 262 ] يزعم أن الآية نسخت ، بقوله تعالى: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ، والصحيح في تفسير الآية ما قاله ابن عباس ، وهو محمول على النهي عن فسخهما لغير عذر أو قصد صحيح ، وليست هذه الآية بداخلة في المنسوخ أصلا .

ذكر الآية الحادية والعشرين: قوله تعالى: ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ذكر بعض المفسرين أن هذا الكلام اقتضى تحريم حلق الشعر ، سواء وجد به أذى أو لم يوجد ، ولم يزل الأمر على ذلك حتى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة ، والقمل يتناثر على وجهه ، فقال: " أتجد شاة " ؟ ، فقال: [ ص: 263 ] لا ، فنزلت: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك والمعنى: فحلق ففدية ، فاقتضى هذا الكلام إباحة حلق الشعر عند الأذى مع الفدية ، وصار ناسخا لتحريمه المتقدم .

قلت: وفي هذا بعد من وجهين: أحدهما: أنه يحتاج أن يثبت أن نزول قوله: فمن كان منكم مريضا ، تأخر عن نزول أول الآية ولا يثبت هذا ، والظاهر نزول الآية في مرة ، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم أتجد شاة ، والشاة هي النسك المذكور في قوله: أو نسك .

والثاني: إنا لو قدرنا نزوله متأخرا فلا يكون نسخا ، لأنه قد بان بذكر العذر ، أن الكلام الأول لمن لا عذر له ، فصار التقدير: ولا تحلقوا رءوسكم إلا أن يكون منكم مريضا أو من يؤذيه هوامه ، فلا ناسخ ولا منسوخ .

[ ص: 264 ] ذكر الآية الثانية والعشرين: قوله تعالى: يسألونك ماذا ينفقون اختلفوا: هل هذه منسوخة أم محكمة ؟ روى السدي ، عن أشياخه ، أنه يوم نزلت هذه لم تكن زكاة ، وإنما هي نفقة الرجل على أهله ، والصدقة يتصدقون بها فنسختها الزكاة .

وروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: نسخت هذه بآية الصدقات في براءة .

وروى أبو صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: نسخ منها الصدقة على الوالدين وصارت الصدقة لغيرهم الذين لا يرثون من الفقراء والمساكين والأقربين ، وقد قال الحسن البصري ، والمراد بها التطوع على من لا يجوز إعطاؤه الزكاة ، كالوالدين والمولودين وهي غير منسوخة ، وقال ابن زيد هي في النوافل وهم أحق بفضلك .

[ ص: 265 ] قلت: من قال بنسخها ادعى أنه وجب عليهم أن ينفقوا فسألوا عن وجوه الإنفاق ، فدلوا على ذلك وهذا يحتاج إلى نقل ، والتحقيق أن الآية عامة في الفرض والتطوع ، فحكمها ثابت غير منسوخ ، لأن ما يجب من النفقة على الوالدين والأقربين إذا كانوا فقراء لم ينسخ بالزكاة ، وما يتطوع به لم ينسخ بالزكاة وقد قامت الدلالة على أن الزكاة لا تصرف إلى الوالدين والولد ، وهذه الآية بالتطوع أشبه ، لأن ظاهرها أنهم طلبوا بيان الفضل في إخراج الفضل فبينت لهم وجوه الفضل .

ذكر الآية الثالثة والعشرين: قوله تعالى: كتب عليكم القتال [ ص: 266 ] اختلفوا في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة ؟ ، فقال قوم: هي منسوخة لأنها تقتضي وجوب القتال على الكل ، لأن الكل خوطبوا بها ، وكتب: بمعنى فرض ، قال ابن جريج : سألت عطاء ، أواجب الغزو على الناس من أجل هذه الآية ؟ ، فقال: لا، إنما كتب على أولئك حينئذ ، وقال ابن أبي نجيح سألت مجاهدا ، هل الغزو واجب على الناس ؟ ، فقال: لا ، إنما كتب عليهم يومئذ ، وقد اختلف أرباب هذا القول في ناسخها على قولين: أحدهما: أنه قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها قاله عكرمة .

[ ص: 267 ] الثاني: قوله: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وقد زعم بعضهم أنها ناسخة من وجه ، ومنسوخة من وجه ، وذلك أن الجهاد كان على ثلاث طبقات: الأولى: المنع من القتال ، وذلك مفهوم من قوله تعالى: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم ، فنسخت بهذه الآية ووجب بها التعين على الكل ، وساعدها قوله تعالى: انفروا خفافا وثقالا ثم استقر الأمر على أنه إذا قام بالجهاد قوم ، سقط على الباقين بقوله تعالى: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة والصحيح أن قوله: كتب عليكم القتال محكم ، وأن فرض الجهاد لازم للكل ، إلا أنه من فروض الكفايات ، إذا قام به قوم سقط عن الباقين فلا وجه للنسخ .

[ ص: 268 ] ذكر الآية الرابعة والعشرين: قوله تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير سبب سؤالهم عن هذا ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فقتلوا عمرو بن الحضرمي في أول ليلة من رجب ، فعيرهم المشركون بذلك فنزلت هذه الآية ، وهي تقتضي تحريم القتال في الشهر الحرام ، لقوله: قل قتال فيه كبير ، قال ابن مسعود ، وابن عباس رضي الله عنهما لا يحل ، وفي رواية أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما عظم العقوبة ، وهذا إقرار لهم على ما كانوا عليه في الجاهلية ، فإنهم كانوا يحرمون القتال في الأشهر الحرم .

[ ص: 269 ] " أخبرنا أبو الحسن الأنصاري ، قال: أبنا عبد الله بن علي الأبنوسي ، قال: أخبرني عبد الملك بن عمر الرزار ، قال: أبنا ابن شاهين ، قال: أبنا يحيى بن محمد بن صاعد ، قال: أبنا محمد بن توبة العنبري ، قال: أبنا أزهر بن سعد ، قال: أبنا ابن عون ، قال: قال أبو رجاء العطاردي : " كان إذا دخل شهر رجب ، قالوا: قد جاء منصل الأسنة ، فيعمد أحدهم إلى سنان رمحه فيخلعه ويدفعه إلى النساء ، فيقول: أشدن هذا في عكومكن فلو مر أحدنا على قاتل أبيه لم يوقظه قلت: واختلف العلماء هل هذا التحريم باق أم نسخ .

[ ص: 270 ] وأخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله البقال ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا الكاذي ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال: قلت لعطاء : " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ما لهم إذ ذاك لا يحل لهم أن يغزو أهل الشرك في الشهر الحرام ، ثم غزوهم فيه بعد ، فحلف لي بالله ، ما يحل للناس الآن أن يغزو في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه ، أو يغزو وما نسخت .

وروى عبد خير ، عن علي عليه السلام في قوله: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ، قال: نسختها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ ص: 271 ] ، وقال سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار وسائر علماء الأمصار: إن القتال في الشهر الحرام جائز ، فإن هذه الآية منسوخة بقوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقوله: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا أبو الفضل البقال ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق الكاذي ، قال أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا عبد الرزاق ، عن معمر ، قال: قال الزهري : " كان النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرم القتال في الشهر الحرام ثم أحل له بعد [ ص: 272 ] ذكر الآية الخامسة والعشرين: قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس اختلف العلماء في هذه الآية: فقال قوم: إنها تضمنت ذم الخمر لا تحريمها ، وهو مذهب ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، وقال آخرون: بل تضمنت تحريمها ، وهو مذهب الحسن ، وعطاء فأما قوله تعالى: وإثمهما أكبر من نفعهما ، فيتجاذبه أرباب القولين ، فأما أصحاب القول الأول: فإنهم قالوا إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبله ، [ ص: 273 ] وقال أصحاب القول الثاني: إثمهما قبل التحريم أكبر من نفعهما حينئذ أيضا ، لأن الإثم الحادث عن شربها من ترك الصلاة والإفساد الواقع ، عن السكر لا يوازي منفعتها الحاصلة من لذة أو بيع ، ولما كان الأمر محتملا للتأويل ، قال عمر بن الخطاب بعد نزول هذه الآية: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، وعلى القول الأول يتوجه النسخ بقوله تعالى: فاجتنبوه .

[ ص: 274 ] ذكر الآية السادسة والعشرين: قوله تعالى: ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ، فالمراد بهذا الإنفاق ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الصدقة والعفو ما يفضل عن الإنسان .

" أخبرنا عبد الوهاب الحافظ ، قال: أبنا أبو الفضل بن خيرون ، وأبو طاهر الباقلاوي ، قال: أبنا أبو علي بن شاذان ، قال: أبنا أحمد بن كامل ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن سعد ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثني عمي ، قال: حدثني أبي ، عن جدي ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " قل العفو ، قال: ما أتوك به من شيء قليل أو كثير ، فاقبله منهم لم يفرض [ ص: 275 ] فيه فريضة معلومة ، ثم نزلت بعد ذلك الفرائض مسماة ، وقد قيل: إن المراد بهذه الصدقة الزكاة أخبرنا محمد بن عبد الله بن حبيب ، قال: أبنا علي بن الفضل ، قال: أبنا عبد الصمد ، قال: أبنا عبد الله بن حموية ، قال: أبنا إبراهيم بن خريم ، قال: أبنا عبد الحميد ، قال: أبنا شبابة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال: " العفو الصدقة المفروضة .

والقول الثاني: أنه كان فرض عليهم قبل الزكاة أن ينفقوا ما يفضل عنهم ، فكان أهل المكاسب يأخذون قدر ما يكفيهم من نصيبهم ، ويتصدقون بالباقي ، وأهل الذهب والفضة يأخذون قدر ما يكفيهم في تجارتهم ويتصدقون بالباقي ، ذكره بعض المفسرين .

[ ص: 276 ] والثالث: أنها نفقة التطوع ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حثهم على الصدقة ورغبهم بها ، قالوا: ماذا ننفق ؟ ، وعلى من ننفق ؟ ، فنزلت هذه الآية ، قال مقاتل بن حيان في قوله: يسألونك ماذا ينفقون ، قال: هي النفقة في التطوع ، فكان الرجل يمسك من ماله ما يكفيه سنة ويتصدق بسائره ، وإن كان ممن يعمل بيديه أمسك ما يكفيه يوما ويتصدق بسائره ، وإن كان من أصحاب الحقل والزرع أمسك ما يكفيه سنة وتصدق بسائره ، فاشتد ذلك على المسلمين فنسختها آية الزكاة .

قلت: فعلى هذا القول ، معنى قوله: اشتد ذلك على المسلمين ، أي: صعب ما ألزموا نفوسهم به ، فإن قلنا إن هذه النفقة نافلة أو هي الزكاة فالآية محكمة ، وإن قلنا إنها نفقة فرضت قبل الزكاة فهي منسوخة بآية الزكاة ، والأظهر أنها في الإنفاق، في المندوب إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية