صفحة جزء
[ ص: 323 ] 2- باب: ذكر الآيات اللواتي ادعي عليهن النسخ ، في سورة آل عمران

ذكر الآية الأولى: قوله تعالى: وإن تولوا فإنما عليك البلاغ قد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الكلام اقتضى الاقتصار على التبليغ دون القتال ، ثم نسخ بآية السيف ، وقال بعضهم لما كان صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمانهم ، مزعجا نفسه في الاجتهاد في ذلك سكن جأشه ، بقوله: إنما أنت نذير و فإنما عليك البلاغ والمعنى: لا تقدر على سوق قلوبهم إلى الصلاح ، فعلى هذا لا نسخ .

[ ص: 324 ] ذكر الآية الثانية: قوله تعالى: إلا أن تتقوا منهم تقاة قد ذهب قوم إلى أن المراد بالآية اتقاء المشركين أن يوقعوا فتنة أو ما يوجب القتل والفرقة ، ثم نسخ ذلك بآية السيف ، وليس هذا بشيء وإنما المراد من الآية جواز اتقائهم إذا أكرهوا المؤمن على الكفر بالقول الذي لا يعتقده ، وهذا الحكم باق غير منسوخ ، وهو المراد بقوله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان .

" أخبرنا عبد الوهاب الحافظ ، قال: أبنا ابن خيرون ، وأبو طاهر الباقلاوي ، قالا: أبنا ابن شاذان ، قال: أبنا أحمد بن كامل ، قال: حدثني محمد بن سعد العوفي ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس " إلا أن تتقوا منهم تقاة والتقية باللسان: من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية الله ، فتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإيمان ، فإن ذلك لا يضره وأخبرنا عبد الوهاب ، قال: أبنا أبو طاهر الباقلاوي ، قال: أبنا ابن شاذان ، قال: أبنا عبد الرحمن بن الحسن ، قال: أبنا إبراهيم بن الحسين ، قال: أبنا آدم ، قال أبنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " إلا أن تتقوا منهم تقاة [ ص: 325 ] ، قال: إلا مصانعة في الدين وقد زعم إسماعيل السدي ، أن قوله: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء منسوخة بقوله: إلا أن تتقوا منهم تقاة ، ومثل هذا ينبغي تنزيه الكتب عن ذكره فضلا عن رده ، فإنه قول من لا يفهم ما يقول .

ذكر الآية الثالثة والرابعة والخامسة: قوله تعالى: كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم إلى قوله: ينظرون اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآيات على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في الحارث بن سويد كان قد أسلم ، ثم ارتد ولحق بقومه ، فنزلت فيه هذه الآيات فحملها إليه رجل من قومه ، فقرأهن عليه فرجع وأسلم ، قاله مجاهد .

[ ص: 326 ] والثاني: أنها نزلت في عشرة آمنوا ثم ارتدوا ، ومنهم طعمة ، ووحوح ، والحارث بن سويد ، فندم منهم الحارث وعاد إلى الإسلام ، رواه أبو صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما .

والثالث: أنها نزلت في أهل الكتاب آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ثم كفروا به رواه عطية ، عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقوله: كيف يهدي الله قوما كفروا استفهام في معنى الجحد ، أي: لا يهديهم الله ، وفيه طرف من التوبيخ ، كما يقول الرجل لعبده: كيف أحسن إلى من لا يطيعني ، أي: لست أفعل ذلك والمعنى أنه لا يهدي من عاند بعد أن بان له الصواب ، وهذا محكم لا وجه لدخول النسخ عليه ، وقد زعم قوم منهم السدي أن هذه الآيات منسوخات ، بقوله: إلا الذين تابوا من بعد ذلك .

" أخبرنا المبارك بن علي ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن عباس ، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود ، قال: أبنا محمد بن الحسين ، قال: أبنا أحمد بن المفضل ، قال: أبنا أسباط ، عن السدي : " كيف يهدي الله قوما كفروا ، قال: [ ص: 327 ] نزلت في الحارث ثم أسلم فنسخها الله عز وجل ، فقال: إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا قلت: وقد بينا فيما تقدم أن الاستثناء ليس بنسخ وإنما هو مبين ، أن اللفظ الأول لم يرد به العموم ، وإنما المراد به من عاند ولم يرجع إلى الحق بعد وضوحه ، ويؤكد هذا أن الآيات خبر ، والنسخ لا يدخل في الأخبار بحال .

ذكر الآية السادسة: قوله تعالى: ولله على الناس حج البيت .

قال السدي : هذا الكلام تضمن وجوب الحج على جميع الخلق: الغني ، والفقير ، والقادر ، والعاجز ، ثم نسخ في حق عادم الاستطاعة ، بقوله: من استطاع إليه سبيلا .

[ ص: 328 ] قلت: وهذا قوله قبيح ، وإقدام بالرأي الذي لا يستند إلى معرفة اللغة العربية التي نزل بها القرآن على الحكم بنسخ القرآن ، وإنما الصحيح ما قاله النحويون كافة في هذه الآية ، فإنهم قالوا: من ، بدل من الناس ، وهذا بدل البعض كما يقول ضربت زيدا برأسه ، فيصير تقدير الآية: ولله على من استطاع من الناس الحج أن يحج .

ذكر الآية السابعة: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته اختلف العلماء هل هذا محكم أو منسوخ على قولين: أحدهما: أنه منسوب .

" أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري ، قال: أبنا علي بن الفضل ، قال: أبنا ابن عبد الصمد ، قال: أبنا عبد الله بن حموية ، قال: أبنا إبراهيم بن خريم ، قال: أبنا عبد الحميد ، قال: أبنا إبراهيم ، عن أبيه ، عن عكرمة " اتقوا الله حق تقاته ، قال ابن عباس : فشق ذلك على المسلمين ، فأنزل الله عز وجل بعد ذلك فاتقوا الله ما استطعتم قال عبد الحميد : وأبنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : اتقوا الله حق تقاته ، قال: نسختها فاتقوا الله ما استطعتم [ ص: 329 ] أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد الكاذي ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا عبد الرزاق ، قال: أبنا معمر ، عن قتادة ، في قوله تعالى: " اتقوا الله حق تقاته ، قال: أن يطاع فلا يعصى ، ثم نسخها قوله: فاتقوا الله ما استطعتم أخبرنا المبارك بن علي ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا أبو إسحاق البرمكي ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال أبنا أبو بكر بن أبي داود ، قال: أبنا يعقوب بن سفيان ، قال: أبنا ابن بكير ، قال: أبنا ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، قال: لما نزلت " اتقوا الله حق تقاته اشتد على القوم العمل ، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم ، فأنزل الله تخفيفا عن المسلمين فاتقوا الله ما استطعتم ، فنسخت الآية الأولى .

وعن ابن لهيعة ، عن أبي صخر ، عن محمد بن كعب : اتقوا الله حق تقاته ، قال: نسختها فاتقوا الله ما استطعتم .

" قال أبو بكر : وحدثنا محمد بن الحسين بن أبي حنيف ، قال: أبنا أحمد بن المفضل ، قال: أبنا أسباط ، عن السدي ، قال: " أما حق تقاته ، أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، فلم يطق الناس هذا فنسخها الله عنهم ، فقال: فاتقوا الله ما استطعتم .

[ ص: 330 ] وإلى هنا ذهب الربيع بن أنس ، وابن زيد ، ومقاتل بن سليمان ومن نص هذا القول ، قال: حق تقاته هو القيام له بجميع ما يستحقه من طاعة واجتناب معصية ، قالوا: هذا أمر تعجز الخلائق عنه ، فكيف بالواحد منهم ، فوجب أن تكون منسوخة وأن تعلق الأمر بالاستطاعة ، ويوضح هذا ما أخبرنا به يحيى بن علي المدير .

" قال: أبنا أبو الحسين بن المنصور ، قال: أبنا أحمد بن محمد الحرزي ، قال: أبنا البغوي ، قال: أبنا محمد بن بكار ، قال: أبنا محمد بن طلحة ، عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود رضي الله عنه: " اتقوا الله حق تقاته ، قال: أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر .

والقول الثاني: أنها محكمة .

" أخبرنا المبارك بن علي ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا إسحاق البرمكي ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال: أبنا أبو [ ص: 331 ] بكر بن أبي داود ، قال: أبنا يعقوب بن سفيان ، قال: أبنا أبو صالح ، قال: حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " اتقوا الله حق تقاته ، قال: لم تنسخ .

ولكن حق تقاته : أن تجاهدوا في الله حق جهاده ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم ، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم ، وهذا مذهب طاوس وهو الصحيح ، لأن التقوى: هي اجتناب ما نهى الله عنه ، ولم ينه عن شيء ولا أمر به إلا وهو داخل تحت الطاقة ، كما قال عز وجل: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، فالآيتان متوافقتان ، والتقدير: اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم ، فقد فهم الأولون من الآية تكليف ما لا يستطاع ، فحكموا بالنسخ وقد رد عليهم ذلك قوله: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وإنما قوله: حق تقاته كقوله: حق جهاده ، الحق هاهنا بمعنى الحقيقة ، ثم إن هفوة المذنب [ ص: 332 ] لا تنافي أن يكون مكلفا للتحفظ ، وإنما شرع الاستغفار والتوبة بوقوع الهفوات .

وقال أبو جعفر النحاس : معنى قول الأولين نسخت هذه الآية ، أي أنزلت الأخرى بنسختها وهما واحد ، وإلا فهذا لا يجوز أن ينسخ ، لأن الناسخ هو المخالف للمنسوخ من جميع جهاته ، الرافع له المزيل حكمه .

وقال ابن عقيل : ليست منسوخة ، لأن قوله: ما استطعتم بيان لحق تقاته وأنه تحت الطاقة فمن سمى بيان القرآن نسخا فقد أخطأ ، وهذا في تحقيق الفقهاء يسمى: تفسير مجمل أو بيان مشكل ، وذلك أن القوم ظنوا أن ذلك تكليف ما لا يطاق ، فأزال الله إشكالهم ، فلو قال: لا تتقوه حق تقاته كان نسخا ، وإنما بين: أني لم أرد بحق التقاة ما ليس في الطاقة .

[ ص: 333 ] ذكر الآية الثامنة: قوله تعالى: لن يضروكم إلا أذى ، قال جمهور المفسرين: معنى الكلام: لن يضروكم ضرا باقيا في جسد أو مال ، إنما هو شيء يسير سريع الزوال ، وتثابون عليه .

وهذا لا ينافي الأمر بقتالهم فالآية محكمة على هذا ، ويؤكده أنها خبر ، والأخبار لا تنسخ ، وقال السدي : الإشارة إلى أهل الكتاب ، وذلك قبل أن يؤمر بقتالهم فنسخت بقوله: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر والأول أصح .

ذكر الآية التاسعة: قوله تعالى: ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها .

جمهور العلماء على أن هذا الكلام محكم واستدلوا عليه بشيئين: أحدهما: أنه خبر ، والخبر لا يدخله النسخ .

[ ص: 334 ] والثاني: أنهم قالوا: ما أحد إلا وله من الدنيا نصيب مقدر ، ولا يفوته ما قسم له فمن كانت همته ثواب الدنيا ، أعطاه الله منها ما قدر له وذلك هو الذي يشاؤه الله ، وهو المراد بقوله: عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ، ولم يقل يؤته منها ما يشاء هو ، ويمكن أن يكون المعنى: لمن يريد أن يفتنه أو يعاقبه ، وذهب السدي إلى أنه منسوخ بقوله: من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد وليس هذا بقول من يفهم الناسخ والمنسوخ ، فلا يعول عليه .

ذكر الآية العاشرة: قوله تعالى: وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور الجمهور على إحكام هذه الآية ، لأنها تضمنت الأمر بالصبر والتقوى ولا بد للمؤمن من ذلك ، وقد ذهب قوم إلى أن الصبر المذكور هاهنا منسوخ بآية السيف .

التالي السابق


الخدمات العلمية