صفحة جزء
[ ص: 340 ] فصل وعلى هذه الأقوال الآية محكمة ، وقد ذهب قوم إلى نسخها ، فقالوا: كان هذا في أول الأمر ثم نسخت بقوله تعالى: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وقد حكي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد الكاذي ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ، قال: نسخ من ذلك الظلم والاعتداء فنسخها: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما أخبرنا المبارك بن علي ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا أبو إسحاق البرمكي ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود ، قال: بنا محمد بن سعد ، قال: حدثني أبي ، عن الحسين بن الحسن بن عطية ، عن أبيه عن عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما ، في قوله: " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف نسختها الآية التي تليها إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية .

[ ص: 341 ] قال أبو بكر بن أبي داود ، وبنا يعقوب بن سفيان قال: بنا عبد الله بن عثمان قال: بنا عيسى بن عبيد الكندي قال: بنا عبيد الله مولى عمر بن مسلم أن الضحاك بن مزاحم أخبره قال: من كان غنيا فليستعفف الآية، نسخت، فقال إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية.

قلت: وهذا مقتضى قول أبي حنيفة ، أعني النسخ ، لأن المشهور عنه أنه لا يجوز للوصي الأخذ من مال اليتيم عند الحاجة على وجه القرض ، وإن أخذ ضمن ، وقال قوم: لو أدركته ضرورة جاز له أكل الميتة ، ولا يأخذ من مال اليتيم شيئا .

[ ص: 342 ] ذكر الآية الثانية: قوله تعالى: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون قد زعم بعض من قل علمه وعزب فهمه من المتكلمين في الناسخ والمنسوخ ، أن هذه الآية نزلت في إثبات نصيب النساء مطلقا من غير تحديد ، لأنهم كانوا لا يورثون النساء ، ثم نسخ ذلك بآية المواريث ، وهذا قول مردود في الغاية ، وإنما أثبتت هذه الآية ميراث النساء في الجملة وأثبتت آية المواريث مقداره ، ولا وجه للنسخ بحال .

ذكر الآية الثالثة: قوله تعالى: وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه اختلف العلماء في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها محكمة فروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال: إن الناس يزعمون أن هذه الآية قد نسخت ، والله ما نسخت ولكنها مما تهاون الناس به .

[ ص: 343 ] وأخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله البقال ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد الكاذي ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا يحيى بن آدم ، قال: أبنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما: وإذا حضر القسمة أولو القربى ، قال: هي محكمة وليست بمنسوخة ، قال: وكان ابن عباس إذا ولي رضخ ، وإذا كان المال فيه قلة اعتذر إليهم وذلك القول المعروف " قال أحمد : وبنا عبد الصمد ، قال: أبنا همام ، قال: أبنا قتادة ، قال الأشعري : ليست بمنسوخة ، وقال أحمد : وبنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن مطر ، عن الحسن ، قال: " والله ما هي بمنسوخة ، وإنها الثابتة ، ولكن الناس بخلوا وشحوا ، وكان الناس إذا قسم الميراث حضر الجار والفقير واليتيم والمسكين ، فيعطونهم من ذلك " [ ص: 344 ] قال أحمد : وأبنا هشيم ، قال: أبنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال: وأبنا مغيرة ، عن إبراهيم ، قالا: " هي محكمة وليست بمنسوخة قال أحمد : وأبنا يزيد ، قال: أبنا سفيان بن حسين ، قال: سمعت الحسن ومحمدا ، يقولان في هذه الآية ، : " وإذا حضر القسمة أولو القربى ، هي مثبتة لم تنسخ ، وكانت القسمة إذا حضرت حضر هؤلاء فرضخ لهم منها ، وأعطوا قال أحمد : وأبنا يحيى بن آدم ، قال: أبنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، والشعبي " وإذا حضر القسمة أولو القربى ، قالا: هي محكمة وليست بمنسوخة " قال أحمد : وأبنا عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري : " إنها محكمة لم تنسخ [ ص: 345 ] ، وممن ذهب إلى إحكامها عطاء ، وأبو العالية ، ويحيى بن يعمر ، ثم اختلف من قال بإحكامها في الأمر المذكور فيها .

فذهب أكثرهم: إلى أنه على سبيل الاستحباب والندب وهو الصحيح ، وذهب بعضهم: إلى أنه على الوجوب .

القول الثاني: أنها منسوخة .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد الكاذي ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي، قال: أبنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ، فنسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبا مما ترك مما قل منه أو كثر

[ ص: 346 ] قال أحمد : وأبنا يحيى ابن آدم ، قال: أبنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك : " وإذا حضر القسمة ، قال: نسختها آية الميراث أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ، قال: أبنا أبو الفضل بن خيرون ، وأبو طاهر الباقلاوي ، قال: أبنا ابن شاذان ، قال: أبنا أحمد بن كامل ، قال: أبنا محمد بن سعد ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا يعني عند قسمة الميراث ، وذلك قبل أن ينزل الفرائض ، وأنزل الله بعد ذلك الفرائض ، فأعطى كل ذي حق حقه .

وروى مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: نسختها يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين الآية .

وأخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، [ ص: 347 ] قال: حدثني أبي ، قال: أبنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال: قال سعيد بن المسيب : " كانت هذه قبل الفرائض وقسمة الميراث ، فلما جعل الله لأهل الميراث ميراثهم صارت منسوخة " قال أحمد : وأبنا عبد الصمد ، قال: أبنا همام ، قال: أبنا قتادة ، عن سعيد بن المسيب " أنها منسوخة ، قال: كانت قبل الفرائض ، وكان ما ترك من مال أعطي منه الفقراء ، والمساكين ، واليتامى ، وذوو القربى إذا حضروا القسمة ، ثم نسخ ذلك بعد ، نسخها المواريث فألحق الله لكل ذي حق حقه ، فصارت وصية من ماله يوصي بها لذي قرابته ، وحيث يشاء "

" أخبرنا المبارك بن علي ، قال أبنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود ، قال: أبنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب ، قال: حدثني يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك : " وإذا حضر القسمة ، قال: نسختها آية الميراث قال أبو بكر : وأبنا يعقوب بن سفيان ، قال: أبنا عبد الله بن عثمان ، قال: أبنا عيسى بن عبيد الكندي ، قال: أبنا عبيد الله مولى عمر بن مسلم ، [ ص: 348 ] أن الضحاك بن مزاحم ، قال: في قوله: " وإذا حضر القسمة أولو القربى ، قال: نسختها آية الميراث ، وقال عكرمة : نسختها آية الفرائض " .

وممن ذهب إلى هذا القول قتادة ، وأبو الشعثاء ، وأبو صالح ، وعطاء في رواية .

[ ص: 349 ] ذكر الآية الرابعة: قوله تعالى: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا في المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنه خطاب للحاضرين عند الموصي ، ثم في معنى الكلام على هذا القول قولان: أحدهما: أن المعنى وليخش الذين لو تركوا وليخش الذين يحضرون موصيا يوصي في ماله ، أن يأمروه بتفريق ماله فيمن لا يرثه ، فيفرقه ويترك ورثته ، ولكن ليأمروه أن يبقي ماله لأولاده ، كما لو كانوا هم الذين يوصون لسرهم أن يحثهم من حضرهم على حفظ الأموال للأولاد ، وهذا المعنى مروي ، عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة والضحاك ، والسدي ، ومقاتل .

[ ص: 350 ] والثاني: على الضد ، وهو أنه نهي لحاضري الموصي عند الموت أن يمنعوه عن الوصية لأقاربه ، وأن يأمروه الاقتصار على ولده ، وهذا قول مقسم ، وسليمان التميمي .

القول الثاني: أنه خطاب لأولياء اليتامى ، راجع إلى قوله تعالى: ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ، فقال تعالى: يعني أولياء اليتامى ، وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله فيمن ولوه من اليتامى وليحسنوا إليهم في أنفسهم وأموالهم ، كما يحبون أن يحسن ولاة أولادهم لو ماتوا هم إليهم ، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا .

[ ص: 351 ] والقول الثالث: أنه خطاب للأوصياء بإجراء الوصية على ما رسم الموصي ، وأن يكون الوجوه التي فيها مرعية بالمحافظة كرعي الذرية الضعاف من غير تبديل ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه ، فأمر بهذه الآية إذا وجد الوصي من الموصي في الوصية جنفا أو ميلا عن الحق فعليه الإصلاح في ذلك ، واستعمال قضية الشرع ورفع الحال الواقع في الوصية ، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله وغيره ، وعلى هذا القول تكون الآية منسوخة ، وعلى الأقوال قبلها هي محكمة ، والنسخ منها بعيد ، لأنه إذا أوصى بجور لم يجز أن يجري على ما أوصى .

[ ص: 352 ] ذكر الآية الخامسة: قوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ، قد توهم قوم لم يرزقوا فهم التفسير وفقهه أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: وإن تخالطوهم فإخوانكم وأثبتوا ذلك في كتب الناسخ والمنسوخ ، ورووه عن ابن عباس رضي الله عنهما .

" وإنما المنقول عن ابن عباس ما أخبرنا به المبارك بن علي ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا أبو إسحاق البرمكي ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود ، قال: أبنا عمرو بن علي بن بحر ، قال: أبنا عمران بن عيينة ، قال: أبنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ، قال: كان يكون في حجر الرجل اليتيم فيعزل طعامه وشرابه ، فاشتد ذلك على المسلمين ، فأنزل الله تعالى: وإن تخالطوهم فإخوانكم ، فأحل لهم طعامهم .

[ ص: 353 ] وقال سعيد بن جبير : لما نزلت: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما عزلوا أموالهم من أموال اليتامى ، وتحرجوا من مخاطبتهم ، فنزل قوله تعالى: وإن تخالطوهم فإخوانكم ، وهذا ليس على سبيل النسخ ، لأنه لا خلاف أن أكل أموال اليتامى ظلما حرام ، وقال أبو جعفر النحاس : هذه الآية لا يجوز فيها ناسخ ولا منسوخ ، لأنها خبر ووعيد ، ونهي عن الظلم والتعدي ، ومحال نسخ هذا ، فإن صح ما ذكروا عن ابن عباس فتأويله من اللغة: أن هذه الآية على نسخ تلك الآية ، وزعم بعضهم أن ناسخ هذه الآية قوله تعالى: ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ، وهذا قبيح ، لأن الأكل بالمعروف ليس بظلم فلا تنافي بين الآيتين "

[ ص: 354 ] ذكر الآية السادسة والسابعة: قوله تعالى: واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم وقوله: واللذان يأتيانها منكم فآذوهما الآيتان ، أما الآية الأولى ، فإنها دلت على أن حد الزانية كان أول الإسلام الحبس إلى أن تموت أو يجعل الله لها سبيلا ، وهو عام في البكر والثيب ، والآية الثانية اقتضت أن حد الزانيين الأذى فظهر من الآيتين أن حد المرأة كان الحبس والأذى جميعا ، وحد الرجل كان الأذى فقط ، لأن الحبس ورد خاصا في النساء ، والأذى ورد عاما في الرجل والمرأة ، وإنما خص النساء في الآية الأولى بالذكر ، لأنهن ينفردن بالحبس دون الرجال ، وجمع بينهما في الآية الثانية ، لأنهما يشتركان في الأذى ، ولا يختلف العلماء في نسخ هذين الحكمين عن الزانيين ، أعني الحبس والأذى ، وإنما اختلفوا بماذا نسخا ؟ ، فقال قوم نسخا بقوله تعالى: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة .

" أخبرنا المبارك بن علي ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا أبو إسحاق البرمكي ، قال أبنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود ، قال: أبنا يعقوب بن سفيان ، قال: أبنا أبو صالح ، [ ص: 355 ] قال: حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ، قال: كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ، وكان الرجل إذا زنى أوذي بالتعيير ، والضرب بالنعال ، فنزلت: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، وإن كانا محصنين رجما بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبنا عبد الوهاب الحافظ ، قال: أبنا أبو طاهر الباقلاوي ، قال: أبنا أبو علي بن شاذان ، قال: أبنا عبد الرحمن بن الحسين ، قال: أبنا إبراهيم بن الحسن ، قال: أبنا آدم ، قال: أبنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " فآذوهما يعني سبا ، ثم نسختها: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا عبد الرزاق ، قال: أبنا معمر ، عن قتادة " فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت ، قال: نسختها الحدود .

[ ص: 356 ] قال أحمد : وأبنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ، قال: كانت هذه الآية قبل الحدود ، ثم أنزلت: واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ، قال: كانا يؤذيان بالقول والشتم وتحبس المرأة ، ثم إن الله تعالى نسخ ذلك ، فقال: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة قال أحمد : وأبنا علي بن حفص ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ، قال: نسخته الآية التي في النور بالحد المفروض

وقال قوم: نسخ هذان الحكمان بحديث عبادة بن الصامت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: " خذوا عني خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا ، الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ، والبكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة " ، [ ص: 357 ] قالوا فنسخت الآية بهذا الحديث وهؤلاء يجيزون نسخ القرآن بالسنة ، وهذا قول مطرح ، لأنه لو جاز نسخ القرآن بالسنة لكان ينبغي أن يشترط التواتر في ذلك الحديث ، فأما أن ينسخ القرآن بأخبار الآحاد فلا يجوز ذلك ، وهذا من أخبار الآحاد ، وقال الآخرون ، السبيل الذي جعل الله لهن هو الآية: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، وقال آخرون: بل السبيل قرآن نزل ثم رفع رسمه وبقي حكمه وظاهر حديث عبادة يدل على ذلك ، لأنه قال: قد جعل الله لهن سبيلا ، فأخبر أن الله تعالى جعل لهن السبيل والظاهر أنه بوحي لم تستقر تلاوته ، وهذا يخرج على قول من لا يرى نسخ القرآن بالسنة ، وقد اختلف العلماء بماذا ثبت الرجم على قولين: [ ص: 358 ] أحدهما: أنه نزل به قرآن ثم نسخ لفظه ، وانعقد الإجماع على بقاء حكمه .

والثاني: أنه ثبت بالسنة .

ذكر الآية الثامنة والتاسعة: قوله تعالى: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ، وقوله: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن الآيتان [ ص: 359 ] إنما سمي فاعل الذنب جاهلا ، لأن فعله مع العلم بسوء مغبته ، فأشبه من جهل المغبة ، والتوبة من قريب: ما كان قبل معاينة الملك فإذا حضر الملك لسوق الروح لم تقبل توبة ، لأن الإنسان حينئذ يصير كالمضطر إلى التوبة ، فمن تاب قبل ذلك قبلت توبته ، أو أسلم عن كفر قبل إسلامه ، وهذا أمر ثابت محكم ، وقد زعم بعض من لا فهم له: أن هذا الأمر أقر على هذا في حق أرباب المعاصي من المسلمين ، ونسخ حكمه في حق الكفار بقوله: ولا الذين يموتون وهم كفار ، وهذا ليس بشيء ، فإن حكم الفريقين واحد .

[ ص: 360 ] ذكر الآية العاشرة: قوله تعالى: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف هذا كلام محكم عند عامة العلماء ومعنى قوله: إلا ما قد سلف أي ، بعدما قد سلف في الجاهلية ، فإن ذلك معفو عنه ، وزعم بعض من قل فهمه: أن الاستثناء نسخ ما قبله ، وهذا تخليط لا حاصل له ولا يجوز أن يلتفت إليه من جهتين: أحدهما: أن الاستثناء ليس بنسخ .

والثاني: أن الاستثناء عائد إلى مضمر تقديره: فإن فعلتم عوقبتم إلا ما قد سلف ، فإنكم لا تعاقبون عليه ، فلا معنى للنسخ ههنا .

ذكر الآية الحادية عشرة: قوله تعالى: وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف وهذه حكمها حكم التي قبلها ، وقد زعم الزاعم هناك: أن هذه كتلك في أن الاستثناء ناسخ لما قبله ، وقد بينا رذولة هذا القول .

[ ص: 361 ] ذكر الآية الثانية عشرة: قوله تعالى: وأحل لكم ما وراء ذلكم ، وقد ذكر في هذه الآية موضعان منسوخان:

الأول: قوله: وأحل لكم ما وراء ذلكم ، وهذا عند عموم العلماء لفظ عام دله التخصيص بنهي النبي صلى الله عليه وسلم: " أن تنكح المرأة على عمتها أو أعلى خالتها " ، وليس هذا على سبيل النسخ ، وقد ذهب قوم لا فقه لهم إلى أن التحليل المذكور في الآية منسوخ بهذا الحديث ، وهذا إنما يأتي من عدم فهم الناسخ والمنسوخ والجهل بشرائطه ، وقلة المعرفة بالفرق بين التخصيص والنسخ .

وأما الموضع الثاني: فقوله تعالى: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن [ ص: 362 ] اختلف العلماء في المراد بهذا الاستمتاع على قولين: أحدهما: أنه النكاح ، والأجور المهور ، وهذا مذهب ابن عباس ، ومجاهد ، والجمهور .

والثاني: أنه المتعة التي كانت في أول الإسلام، كان الرجل ينكح المرأة إلى أجل مسمى ، ويشهد شاهدين ، فإذا انقضت المدة ليس له عليها سبيل ، قاله قوم منهم السدي ، ثم اختلفوا هل هي محكمة أو منسوخة ، فقال قوم: هي محكمة .

" أخبرنا ابن ناصر ، قال: أبنا ابن أيوب ، قال: أبنا أبو علي بن شاذان ، قال: حدثنا أبو بكر النجاد ، قال: أبنا أبو داود السجستاني ، قال: أبنا محمد بن المثنى ، قال: أبنا محمد بن جعفر ، قال: أبنا شعبة ، عن الحكم ، قال: سألته عن هذه الآية " فما استمتعتم به منهن أمنسوخة هي ، قال: لا ، قال الحكم : وقال علي رضي الله عنه: لولا أن عمر نهى عن المتعة ، فذكر شيئا ، وقال آخرون: هي منسوخة واختلفوا بماذا نسخت على قولين: أحدهما: بإيجاب العدة .

[ ص: 363 ] " أخبرنا ابن ناصر ، قال: أبنا علي بن أيوب ، قال: أبنا أبو علي بن شاذان ، قال: أبنا أبو بكر النجاد ، قال: أبنا أبو داود السجستاني ، قال: أبنا أحمد بن محمد ، قال: أبنا هاشم بن مخلد ، عن ابن المبارك ، عن عثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة فنسختها يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن .

والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر .

والثاني: أنها نسخت بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة ، [ ص: 364 ] وهذا القول ليس بشيء لوجهين: أحدهما: أن الآية سيقت لبيان عقدة النكاح بقوله: محصنين ، أي: متزوجين ، عاقدين النكاح ، فكان معنى الآية فما استمتعتم به منهن على وجه النكاح الموصوف فآتوهن مهورهن ، وليس في الآية ما يدل على أن المراد نكاح المتعة الذي نهى عنه ، ولا حاجة إلى التكلف ، وإنما أجاز المتعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم منع منها .

والثاني: أنه لو كان ذلك لم يجز نسخه بحديث واحد .

ذكر الآية الثالثة عشرة: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل هذه الآية عامة في أكل الإنسان مال نفسه ، وأكله مال غيره بالباطل ، فأما أكله مال نفسه بالباطل فهو إنفاقه في معاصي الله عز وجل ، [ ص: 365 ] وأما أكل مال الغير بالباطل ، فهو تناوله على الوجه المنهي عنه سواء كان غصبا من مالكه ، أو كان برضاه ، إلا أنه منهي عنه شرعا ، مثل القمار والربا وهذه الآية محكمة والعمل عليها .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا أسود بن عامر ، قال: أبنا سفيان ، عن ربيع ، عن الحسن " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، قال: ما نسخها شيء قال أحمد : وحدثنا حسين بن محمد ، قال: أبنا عبيد الله ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن عمرو ، أن مسروقا ، قال في هذه الآية " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، قال: إنها لمحكمة ما نسخت .

وقد زعم بعض منتحلي التفسير ، ومدعي علم الناسخ والمنسوخ: أن هذه الآية لما نزلت تحرجوا من أن يواكلوا الأعمى والأعرج والمريض ، وقالوا: إن الأعمى لا يبصر أطايب الطعام ، والأعرج لا يتمكن من المجلس ، والمريض لا يستوفي الأكل ، فأنزل الله عز وجل: ليس على الأعمى حرج الآية ، فنسخت هذه الآية ، [ ص: 366 ] وهذا ليس بشيء ، ولأنه لا تنافي بين الآيتين ، ولا يجوز أكل المال بالباطل ، بحال ، وعلى ما قد زعم هذا القائل قد كان يجوز أكل المال بالباطل .

ذكر الآية الرابعة عشرة: قوله تعالى: والذين عقدت أيمانكم [ ص: 367 ] اختلف المفسرون في المراد بهذه المعاقدة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها المحالفة التي كانت في الجاهلية ، واختلف هؤلاء على ما كانوا يتعاقدون على ثلاثة أقوال: أحدها: على أن يتوارثوا .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " والذين عقدت أيمانكم ، قال: كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ، فيقول: ترثني وأرثك ، فنسختها هذه الآية وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض الآية أخبرنا ابن ناصر ، قال: أبنا ابن أيوب ، قال: أبنا ابن شاذان ، قال: أبنا أبو بكر النجاد ، قال: أبنا أبو داود السجستاني ، قال: أبنا أحمد بن محمد المروزي ، قال: أبنا علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة " والذين عقدت أيمانكم ، قال: كان الرجل يحالف الرجل ليس [ ص: 368 ] بينهما نسب ، فيرث أحدهما الآخر ، فنسخ ذلك قوله: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وقال الحسن : كان الرجل يعاقد الرجل ، على أنهما إذا مات أحدهما ورثه الآخر ، فنسختها آية المواريث .

والثاني: أنهم كانوا يتعاقدون على أن يتناصروا ، ويتعاقلوا في الجناية .

والثالث: أنهم كانوا يتعاقدون على جميع ذلك .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا عبد الرزاق ، قال: أبنا معمر ، عن قتادة ، في قوله: " والذين عقدت أيمانكم ، قال: كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل ، فيقول: دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، فلما جاء الإسلام بقي منهم ناس فأمروا أن يؤتوهم نصيبهم من الميراث ، وهو السدس ثم نسخ ذلك بالميراث ، فقال: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله

التالي السابق


الخدمات العلمية