صفحة جزء
( ولو قال : لله علي صوم هذه السنة [ ص: 385 ] أفطر يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق وقضاها ) لأن النذر بالسنة المعينة نذر بهذه الأيام ، وكذا إذا لم يعين لكنه شرط التتابع ، لأن المتابعة لا تعرى عنها لكن يقضيها في هذا الفصل موصولة تحقيقا للتتابع بقدر الإمكان ، [ ص: 386 ] ويتأتى في هذا خلاف زفر والشافعي رحمهما الله للنهي عن الصوم فيها ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام { ألا لا تصوموا في هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وبعال } وقد بينا الوجه فيه والعذر عنه ، ولو لم يشترط التتابع [ ص: 387 ] لم يجزه صوم هذه الأيام ، لأن الأصل فيما يلتزمه الكمال ، والمؤدى ناقص لمكان النهي ، بخلاف ما إذا عينها لأنه التزم بوصف النقصان فيكون الأداء بالوصف الملتزم . قال ( وعليه كفارة يمين إن أراد به يمينا ) وقد سبقت وجوهه .


( قوله ولو قال لله علي صوم هذه السنة ) سواء أراده أو أراد أن يقول صوم يوم فجرى على لسانه سنة ، وكذلك إذ أراد أن يقول كلاما فجرى [ ص: 385 ] على لسانه النذر لزمه لأن هذه النذر جد كالطلاق ( أفطر يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق وقضاها ) ولو كانت المرأة قالته قضت مع هذه الأيام أيام حيضها ، لأن تلك السنة قد تخلو عن الحيض فصح الإيجاب . ويمكن أن يجري فيه خلاف زفر فإنه منصوص عنه في قولها أن أصوم غدا فوافق حيضها لا تقضي .

وعند أبي يوسف تقضيه لأنها لم تضفه نذرا إلى يوم حيضها ، بل إلى المحل غير أنه اتفق عروض المانع ، فلا يقدح في صحة الإيجاب حال صدوره فتقضي ، وكذا إذا نذرت صوم الغد وهي حائض ، بخلاف ما لو قالت : يوم حيضي لا قضاء لعدم صحته لإضافته إلى غير محله ، فصار كالإضافة إلى الليل ، ثم عبارة الكتاب تفيد الوجوب لما عرف .

وقوله في النهاية الأفضل فطرها ، حتى لو صامها خرج عن العهدة تساهل ، بل الفطر واجب لاستلزام صومها المعصية ، ولتعليل المصنف فيما تقدم الفطر بها ، فإن صامها أثم ولا قضاء عليه لأنه أداها كما التزمها ناقصة ، لكن قارن هذا الالتزام واجبا آخر وهو لزوم الفطر تركه فتحمل إثمه ثم .

هذا إذا قال ذلك قبل يوم الفطر فإن قاله في شوال فليس عليه قضاء يوم الفطر ، وكذا لو قال : لله علي صيام هذه السنة بعد أيام التشريق لا يلزمه قضاء يومي العيدين وأيام التشريق بل صيام ما بقي من هذه السنة ذكره في الغاية .

وقال في شرح الكنز : هذا سهو ، لأن قوله هذه السنة عبارة عن اثني عشر شهرا من وقت النذر إلى وقت النذر ، وهذه المدة لا تخلو عن هذه الأيام فيكون نذرا بها ا هـ وهذا سهو ، بل المسألة كما هي في الغاية منقولة في الخلاصة ، وفي فتاوى قاضي خان في هذه السنة وهذا الشهر ، ولأن كل سنة عربية معينة عبارة عن مدة معينة لها مبدأ ومختم خاصان عند العرب ، مبدؤها المحرم وآخرها ذو الحجة ، فإذا قال : هذه فإنما يفيد الإشارة إلى التي هو فيها ، فحقيقة كلامه أنه نذر بالمدة المستقبلة إلى آخر ذي الحجة ، والمدة الماضية التي مبدؤها المحرم إلى وقت التكلم فيلغو في حق الماضي كما يلغو في قوله لله علي صوم أمس ، وهذا فرع يناسب هذا ، لو قال : لله علي صوم أمس اليوم أو اليوم أمس لزم صوم اليوم ، ولو قال : غدا هذا اليوم أو هذا اليوم غدا لزمه صوم أول الوقتين تفوه به .

ولو قال : شهرا لزمه شهر كامل ، ولو قال : الشهر وجبت بقية الشهر الذي هو فيه ، لأنه ذكر الشهر معينا فينصرف إلى المعهود بالحضور ، فإن نوى شهرا فهو على ما نوى لأنه محتمل كلامه ذكره في التجنيس ، وفيه تأييد لما في الغاية أيضا ، ولو قال : صوم يومين في هذا اليوم ليس عليه إلا صوم يومه ، بخلاف عشر حجات في هذه السنة على ما سنبينه في الحج إن شاء الله تعالى .

( قوله : في هذا الفصل ) احتراز من الفصل الذي قبله ، وهو ما إذا عين السنة فإنه لا تجب موصولة لأن التتابع هناك غير منصوص عليه ولا ملتزم قصدا ، بل إنما يلزم ضرورة فعل صومها ، فإذا قطعها بإذن الشرع انتفى التتابع الضروري بخلاف التتابع هنا ، فإنه التزمه قصدا ، فإذا وجب القطع شرعا وجب توفيره بالقدر الممكن ولهذا إذا أفسد يوما من الواجب المتتابع قصدا كصوم الكفارات والمنذور متتابعا لزمه الاستقبال ، وفي المتتابع ضرورة كما إذا نذر صوم هذه السنة أو رجب لا يلزمه سوى ما أفسده ، غير أنه يأثم بذلك الإفساد ، كما إذا أفسد يوما من رمضان وهو واجب التتابع ضرورة لا يلزمه قضاء غيره مع المأثم ، ولا يجب عليه قضاء شهر [ ص: 386 ] رمضان في الفصلين ، أي هذه السنة أو سنة متتابعة ، لأن هذه السنة والسنة المتتابعة لا تخلو عنه ، فإيجابها إيجابه وغيره ، فيصح في غيره ويبطل فيه لوجوبه بإيجاب الله تعالى ابتداء .

( قوله وهو قوله صلى الله عليه وسلم ) روى الطبراني بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أيام منى صائحا يصيح : أن لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وبعال } أي وقاع .

ورواه الدارقطني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث هذيل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى . ألا إن الذكاة في الحلق واللبة ، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق ، وأيام منى أيام أكل وشرب وبعال } وفي مسنده سعيد بن سلام كذبه أحمد .

وأخرج أيضا عن { عبد الله بن حذاقة السهمي قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلة أيام منى أنادي : أيها الناس إنها أيام أكل وشرب وبعال } وضعفه بالواقدي ، وفي الواقدي ما قدمناه أول الكتاب في مباحث المياه . وأخرج ابن أبي شيبة في الحج وإسحاق بن راهويه في مسنده قالا : حدثنا وكيع عن موسى بن عبيدة عن منذر بن جهم عن عمر بن خلدة عن أمه قالت { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ينادي : أيام منى أيام أكل وشرب وبعال } وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام قال { أيام التشريق أيام أكل وشرب وبعال } زاد في طريق آخر { وذكر الله تعالى } .

( قوله ولو لم يشترط التتابع ) أي في غير المعينة بأن قال : لله علي صوم سنة فعليه صوم سنة بالأهلة ولم يجزه صوم هذه الأيام ، لأن المنكرة اسم لاثني عشر شهرا لا بقيد كون رمضان وشوال وذي الحجة منها ، فلم يكن النذر بها نذرا بها فيجب عليه أن يقضي خمسة وثلاثين يوما ، ثلاثين لرمضان ، ويومي العيد وأيام التشريق ، وهل يجب وصلها بما مضى ؟ قيل نعم .

قال المصنف رحمه الله في التجنيس : هذا غلط بل ينبغي أن يجزيه ، ولو قال : شهرا لزمه كاملا أو رجب لزمه هو بهلاله ، ولو قال : جمعة إن أراد أيامها لزمه سبعة أيام أو يومها لزمه يوم الجمعة فقط ، وإن لم يكن له نية تلزمه سبعة أيام لأنها تذكر لكل من الأمرين ، وفي الأيام السبعة أغلب في الاستعمال فينصرف المطلق إليه .

وفي كل موضع عين كما قدمنا ، ولو قال : كل يوم خميس أو اثنين فلم يصمه وجب عليه قضاؤه ، فإن نوى اليمين فقط وجب عليه الكفارة أو اليمين والنذر وجب عليه القضاء والكفارة في إفطار الخميس الأول أو الاثنين ، وما أفطر منهما بعد ففيه القضاء ليس غير لانحلال اليمين بالحنث الأول ، وبقاء النذر على الخلاف ، ولو أخر القضاء حتى صار شيخا فانيا أو كان نذر بصيام الأبد فعجز لذلك أو باشتغاله بالمعيشة لكون صناعته شاقة له أن يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا على ما تقدم ، وإذا لم يقدر على ذلك لعسرته يستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم الغني الكريم ، ولو لم يقدر لشدة الزمان كالحر له أن يفطر وينتظر الشتاء فيقضي ، هذا .

ويصح تعليق النذر كأن يقول : إذا جاء زيد أو شفي فعلي صوم شهر ، فلو صام شهرا عن ذلك قبل الشرط لا يجوز عنه ، ولو أضافه إلى وقت جاز تقديمه على ذلك الوقت ، لأن [ ص: 387 ] المعلق لا ينعقد سببا في الحال بل عند الشرط فالصوم قبله صوم قبل السبب فلا يجوز ، والمضاف ينعقد في الحال ، فالصوم قبل الوقت صوم بعد السبب فيجوز ، ومنه : أن يقول : لله علي صوم رجب فصام قبله عنه خرج عن عهدة نذره ، وأصل هذا ما قدمنا في أول الصوم أن التعجيل بعد السبب جائز أصله الزكاة خلافا لمحمد وزفر رحمهما الله ، غير أن زفر لم يجزه فيما إذا كان الزمان المعجل فيه أقل فضيلة من المنذور ، ومحمدا رحمه الله للتعجيل .

وعندنا يجوز ذلك بناء على أن لزوم المنذور بما هو قربة فقط ، وجواز التعجيل بعد السبب بدليل الزكاة فابتنى على هذا إلغاء تعيين الزمان والمكان والمتصدق والمتصدق عليه ، فلو نذر أن يصوم رجبا فصام عنه قبله شهرا أحط فضيلة منه جاز خلافا لهما ، وكذا إذا نذر صلاة في زمان فضيل فصلاها قبله في أحط منه جاز ، أو نذر ركعتين بمكة فصلاهما في غيرها جاز ، أو أن يتصدق بهذا الدرهم غدا على فلان الفقير فتصدق بغيره في اليوم على غيره أجزأه ، خلافا لزفر في الكل ، ولو قال : لله علي صوم اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم فلان بعدما أكل أو بعدما حاضت لا يجب عليه شيء عند محمد ، وعند أبي يوسف يلزمه القضاء ، ولو قدم بعد الزوال لا يلزمه شيء عند محمد ولا رواية فيه عن غيره .

ولو قال : لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان شكرا لله تعالى ، وأراد به اليمين فقدم فلان في يوم من رمضان كان عليه كفارة يمين ، ولا قضاء عليه لأنه لم يوجد شرط البر وهو الصوم بنية الشكر ، ولو قدم قبل أن ينوي فنوى به الشكر لا عن رمضان بر بالنية وأجزأه عن رمضان ولا قضاء عليه ، وإذا نذر المريض صوم شهر فمات قبل الصحة لا شيء عليه ، وإن صح يوما ، تقدمت هذه المسألة وتحقيقها ومن نذر صوم هذا اليوم أو يوم كذا شهرا أو سنة لزمه ما تكرر منه في الشهر والسنة .

ولو نذر صوم الاثنين والخميس فصام ذلك مرة كفاه إلا أن ينوي الأبد ، ولو قال : لله علي صوم يومين متتابعين من أول الشهر وآخره لزمه صيام الخامس عشر والسادس عشر ، وكل صوم أوجبه ونص على تفريقه فصامه متتابعا خرج عن عهدته وعلى القلب لا يجزيه ، ولو قال : بضعة عشر يوما فهو على ثلاثة عشر ، أو دهرا فعلى ستة أشهر ، أو الدهر فعلى العمر .

ولو قال : لله علي صوم مثل شهر رمضان إن أراد مثله في الوجوب له أن يفرق أو في التتابع فعليه أن يتابع ، وإن لم تكن له نية فله أن يفرق . رجل قال : لله علي صوم عشرة أيام متتابعات فصام خمسة عشر يوما وقد أفطر يوما ولا يدري أي يوم هو قضى خمسة أيام ، ووجهه ظاهر بتأمل يسير .

التالي السابق


الخدمات العلمية