صفحة جزء
قال ( ويكثر من التلبية عقيب الصلوات وكلما علا شرفا أو هبط واديا أو لقي ركبا وبالأسحار ) لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يلبون [ ص: 446 ] في هذه الأحوال ، والتلبية في الإحرام على مثال التكبير في الصلاة ، فيؤتي بها عند الانتقال من حال إلى حال ( ويرفع صوته بالتلبية ) لقوله عليه الصلاة والسلام { أفضل الحج العج والثج } فالعج رفع الصوت بالتلبية ، والثج إسالة الدم .


( قوله كانوا يلبون إلخ ) في مصنف ابن أبي شيبة : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن خيثمة قال : كانوا يستحبون التلبية عند ست : دبر الصلاة ، وإذا استقلت بالرجل راحلته ، وإذا صعد شرفا أو هبط واديا ، وإذا لقي بعضهم بعضا ، وبالأسحار . ثم المذكور في ظاهر الرواية في أدبار الصلوات من غير تخصيص كما هو النص وعليه مشى في البدائع فقال : فرائض كانت أو نوافل ، وخصه الطحاوي بالمكتوبات دون النوافل والفوائت فأجراها مجرى التكبير في أيام التشريق ، وعزى إلى ابن ناجية في فوائد عن جابر قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر إذا لقي ركبا وذكر الكل سوى استقلال الراحلة } وذكره الشيخ تقي الدين في الإمام ولم يعزه .

وذكر [ ص: 446 ] في النهاية حديث خيثمة ، هذا وذكر مكان استقلت راحلته إذا استعطف الرجل راحلته . والحاصل أنا عقلنا من الآثار اعتبار التلبية في الحج على مثال التكبير في الصلاة ، فقلنا : السنة أن يأتي بها عند الانتقال من حال إلى حال . والحاصل أنها مرة واحدة شرط والزيادة سنة ، قال في المحيط : حتى تلزمه الإساءة بتركها .

وروى الإمام أحمد رحمه الله عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : { من أضحى يوما محرما ملبيا حتى غربت الشمس غربت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه } وعن سهل بن سعد عنه عليه الصلاة والسلام { ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وعن شماله } صححه الحاكم ، وهذا دليل ندب الإكثار منها غير مقيد بتغير الحال ، فظهر أن التلبية فرض وسنة ومندوب . ويستحب أن يكررها كلما أخذ فيها ثلاث مرات ويأتي بها على الولاء ولا يقطعها بكلام ، ولو رد السلام في خلالها جاز ولكن يكره لغيره السلام عليه في حالة التلبية ، وإذا رأى شيئا يعجبه قال : لبيك إن العيش عيش الآخرة كما قدمناه عنه عليه الصلاة والسلام ( قوله ويرفع صوته بالتلبية ) وهو سنة فإن تركه كان مسيئا ولا شيء عليه ولا يبالغ فيه فيجهد نفسه كي لا يتضرر على أنه ذكر ما يفيد بعض ذلك .

قال أبو حازم : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية ، إلا أنه يحمل على الكثرة مع قلة المسافة ، أو هو عن زيادة وجدهم ، وشوقهم بحيث يغلب الإنسان عن الاقتصاد في نفسه . وكذا العج في الحديث الذي رواه فإنه ليس مجرد رفع الصوت بل بشدة .

وهو ما أخرج الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال { قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من الحاج ، قال : الشعث التفل ، فقام آخر فقال : أي الحج أفضل يا رسول الله ؟ قال : العج والثج ، فقام آخر فقال : ما السبيل يا رسول الله ؟ قال : الزاد والراحلة } قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الجوزي المكي ، وقد تكلم فيه من قبل حفظه . وأخرجا أيضا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الحج أفضل ؟ قال : العج والثج } ورواه الحاكم وصححه .

وقال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان . ومحمد بن المنكدر وهو الذي روى عنه الضحاك لم يسمع من عبد الرحمن بن يربوع .

وفي مسند ابن أبي شيبة : حدثنا أبو أسامة عن أبي حنيفة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أفضل الحج العج والثج } والعج : العجيج بالتلبية ، والثج : نحر الدماء . وفي الكتب الستة { أنه عليه الصلاة والسلام قال : أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال ، أو قال : بالتلبية } وفي صحيح البخاري عن أنس قال { صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، وسمعتهم يصرخون بهما جميعا بالحج والعمرة في التلبية } " وعن ابن عباس رضي الله عنهما رفع الصوت بالتلبية زينة الحج " وعنه { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة فمررنا بواد فقال : أي واد هذا ؟ قالوا : وادي الأزرق ، قال : كأني أنظر إلى موسى بن عمران واضعا إصبعه في أذنه له جؤار إلى الله بالتلبية مارا بهذا الوادي ، ثم سرنا الوادي حتى أتينا على ثنية فقال : أي ثنية هذه ؟ قالوا : هرشى أو لفت ، فقال : كأني أنظر [ ص: 447 ] إلى يونس على ناقة حمراء خطام ناقته ليف خلبة وعليه جبة له من صوف مارا بهذا الوادي ملبيا } أخرجه مسلم ولا يخفى أنه لا منافاة بين قولنا لا يجهد نفسه بشدة رفع صوته وبين الأدلة الدالة على استحباب رفع الصوت بشدة إذ لا تلازم بين ذلك وبين الإجهاد ، إذ قد يكون الرجل جهوري الصوت عاليه طبعا فيحصل الرفع العالي مع عدم تعبه به .

والمعنى فيه أنها من شعائر الحج والسبيل فيما هو كذلك الإظهار والإشهار كالأذان ونحوه . ويستحب أن يصلي على النبي المعلم للخير صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من التلبية ، ويخفض صوته بذلك

التالي السابق


الخدمات العلمية