صفحة جزء
( وإن أراد المتمتع أن يسوق الهدي أحرم وساق هديه ) وهذا أفضل { ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم ساق الهدايا مع نفسه } ; ولأن فيه استعدادا ومسارعة ( فإن كانت بدنة قلدها بمزادة أو نعل ) لحديث عائشة رضي الله عنها على ما رويناه . والتقليد أولى من التجليل ; لأن له ذكرا في الكتاب ولأنه للإعلام والتجليل للزينة ، ويلبي ثم يقلد ; لأنه يصير محرما بتقليد الهدي والتوجه معه على ما سبق . والأولى أن يعقد الإحرام بالتلبية ويسوق الهدي . وهو أفضل من أن يقودها { ; لأنه صلى الله عليه وسلم [ ص: 8 ] أحرم بذي الحليفة وهداياه تساق بين يديه } ; ولأنه أبلغ في التشهير إلا إذا كانت لا تنقاد فحينئذ يقودها . قال ( وأشعر البدنة عند أبي يوسف ومحمد ) رحمهما الله ( ولا يشعر عند أبي حنيفة ) رحمه الله ( ويكره ) والإشعار هو الإدماء بالجرح لغة ( وصفته أن يشق سنامها ) بأن يطعن في أسفل السنام ( من الجانب الأيمن أو الأيسر ) قالوا : والأشبه هو الأيسر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم طعن في جانب اليسار مقصودا وفي جانب الأيمن اتفاقا ، ويلطخ سنامها بالدم إعلاما ، وهذا الصنع مكروه عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما حسن ، وعند الشافعي رحمه الله سنة ; لأنه مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم .

ولهما أن المقصود من التقليد أن لا يهاج إذا ورد ماء أو كلأ أو يرد إذا ضل وإنه في الإشعار أتم ; لأنه ألزم ، فمن هذا الوجه يكون سنة ، إلا أنه [ ص: 9 ] عارضه جهة كونه مثلة فقلنا بحسنه ولأبي حنيفة أنه مثلة وأنه منهي عنه .

ولو وقع التعارض فالترجيح للمحرم وإشعار النبي صلى الله عليه وسلم كان لصيانة الهدي ; لأن المشركين لا يمتنعون عن تعرضه إلا به . وقيل : إن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه لمبالغتهم فيه على وجه يخاف منه السراية ، وقيل : إنما كره إيثاره على التقليد .


( قوله : إلا إذا كانت لا تنقاد ) أي للسوق ، وفي بعض النسخ لا تنساق ( قوله : لأن النبي صلى الله عليه وسلم طعن إلخ ) قالوا : لأنها كانت تساق إليه وهو يستقبلها فيدخل من قبل رءوسها ، والحربة بيمينه لا محالة ، والطعن حينئذ إلى جهة اليسار أمكن وهو طبع هذه الحركة فيقع الطعن كذلك مقصودا ثم يعطف طاعنا إلى جهة يمينه بيمينه وهو متكلف بخلافه إلى الجهة الأولى ، وهذا بناء على أنه عليه الصلاة والسلام أشعر من جهة اليمين واليسار ، وعلى أن صفته حالة الإشعار كان ما ذكر .

فأما الأول فالذي في مسلم عن أبي حسان عن ابن عباس رضي الله عنهما { أنه عليه الصلاة والسلام صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا ببدنة فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن } وروى البخاري الإشعار ، فلم يذكر فيه الأيمن ولا الأيسر إلا أن ابن عبد البر ذكر أنه رأى في كتاب ابن علية بسنده إلى أبي حسان عن ابن عباس رضي الله عنهما { أنه عليه الصلاة والسلام أشعر بدنه من الجانب الأيسر ثم سلت الدم عنها وقلدها نعلين } قال ابن عبد البر : هذا منكر من حديث ابن عباس ، بل المعروف ما رواه مسلم وغيره عنه في الجانب الأيمن ، وصحح ابن القطان كلامه ، لكن قد أسند أبو يعلى إلى أبي حسان عن ابن عباس بطريق آخر { أنه عليه الصلاة والسلام أشعر بدنه في شقها الأيسر ثم سلت الدم بأصبعه } الحديث .

وفي موطإ مالك عن نافع " أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا أهدى هديا من المدينة يقلده بنعلين ويشعره في الشق الأيسر " فهذا يعارض ما في مسلم من حديث ابن عباس إذ لم يكن أحد أشد اقتفاء لظواهر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عمر ، فلولا علمه وقوع ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم لم يستمر عليه . فوجه التوفيق حينئذ هو ما صرنا إليه من الإشعار فيهما حملا للروايتين على رؤية كل راء الإشعار من جانب وهو واجب ما أمكن . وأما الثاني فلا نعلم صريحا في وصفه كيف كان لكنه حمل على ما هو الظاهر ، إذ الظاهر من قاصدها لإثبات فعل فيها ، وهي تساق إليه ذلك ، والله أعلم بجلية كل حال .

( قوله : لأنه ألزم ) [ ص: 9 ] لأن القلادة قد تنحل أو تنقطع فتسقط ( قوله : ولو وقع التعارض فالترجيح للمحرم ) قد يقال : لا تعارض فإن النهى عنه كان بأثر قصة العرنيين عقيب غزوة أحد ومعلوم أن الإشعار كان بعده ، فعلم أنه إما مخصوص من نص نسخ المثلة ما كان هديا أو أنه ليس بمثلة أصلا ، وهو الحق ، إذ ليس كل جرح مثلة بل هو ما يكون تشويها كقطع الأنف والأذنين وسمل العيون ، فلا يقال لكل من جرح مثل به ، والأولى ما حمل عليه الطحاوي من أن أبا حنيفة إنما كره إشعار أهل زمانه ; لأنهم لا يهتدون إلى إحسانه ، وهو شق مجرد الجلد ليدمي ، بل يبالغون في اللحم حتى يكثر الألم ويخاف منه السراية .

( قوله : لأن المشركين لا يمتنعون إلا به ) قد يقال : هذا يتم في إشعار عام الحديبية وهو مفرد بالعمرة لا في إشعاره هدايا حجة الوداع { ; لأن المشركين كانوا قد أجلوا قبل ذلك في فتح مكة في الثامنة ، ثم بعث عليا رضي الله عنه في التاسعة يتلو عليهم سورة براءة وينادي : لا يطوف بهذا البيت مشرك ولا عريان } . والجواب أن يراد تعرضهم للطريق حال السفر لتسامعهم بمال لسيد المسلمين

التالي السابق


الخدمات العلمية