صفحة جزء
[ ص: 31 ] ( وإذا حلق ربع رأسه أو ربع لحيته فصاعدا فعليه دم ، فإن كان أقل من الربع فعليه صدقة ) وقال مالك رحمه الله : لا يجب إلا بحلق الكل : وقال الشافعي رحمه الله يجب بحلق القليل اعتبارا بنبات الحرم . ولنا أن حلق بعض الرأس ارتفاق كامل ; لأنه معتاد فتتكامل به الجناية وتتقاصر فيما دونه بخلاف تطيب ربع العضو ; لأنه غير مقصود ، وكذا حلق بعض اللحية معتاد بالعراق وأرض العرب [ ص: 32 ] ( وإن حلق الرقبة كلها فعليه دم ) ; لأنه عضو مقصود بالحلق . ( وإن حلق الإبطين أو أحدهما فعليه دم ) ; لأن كل واحد منهما مقصود بالحلق لدفع الأذى ونيل الراحة فأشبه العانة .

ذكر في الإبطين الحلق هاهنا وفي الأصل النتف وهو السنة ( وقال أبو يوسف ومحمد ) رحمهما الله : ( إذا حلق عضوا فعليه دم ، وإن كان أقل فطعام ) [ ص: 33 ] أراد به الصدر والساق وما أشبه ذلك ; لأنه مقصود بطريق التنور فتتكامل بحلق كله وتتقاصر عند حلق بعضه ( وإن أخذ من شاربه فعليه ) طعام ( حكومة عدل ) ومعناه أنه ينظر أن هذا المأخوذ كم يكون من ربع اللحية [ ص: 34 ] فيجب عليه الطعام بحسب ذلك ، حتى لو كان مثلا مثل ربع الربع لزمه قيمة ربع الشاة ، ولفظة الأخذ من الشارب تدل على أنه هو السنة فيه دون الحلق ، والسنة أن يقص حتى يوازي الإطار . قال : ( وإن حلق موضع المحاجم فعليه دم عند أبي حنيفة ) رحمه الله ( وقالا : عليه صدقة ) ; لأنه إنما يحلق الحجامة وهي ليست من المحظورات فكذا ما يكون وسيلة إليها ، وإلا أن فيه إزالة شيء من التفث فتجب الصدقة . ولأبي حنيفة رحمه الله أن حلقه مقصود ; لأنه لا يتوسل إلى المقصود إلا به ، [ ص: 35 ] وقد وجد إزالة التفث عن عضو كامل فيجب الدم .


( قوله : ولنا أن حلق بعض الرأس إلخ ) هذا هو الفرق الموعود بين حلق الربع وتطييب الربع . وقوله : لأنه معتاد صريح في أن الحكم بحصول كمال الارتفاق بذلك البعض مستدل عليه بالقصد إليه على وجه الاعتياد ، وقدمنا ما يغني فيه ، وممن يفعله بعض الأتراك والعلوية فإنهم يحلقون نواصيهم فقط ، وكذا حلق بعض اللحية معتاد بأرض العراق والعرب وبعض أهل المغرب ، إلا أن في هذا احتمال أن فعلهم للراحة أو الزينة فتعتبر فيه الكفارة احتياطا ; لأن هذه الكفارة مما يحتاط في إثباتها بدليل لزومها مع الأعذار . وقوله : لأنه غير مقصود ، يعني العادة أن كل من مس طيبا لقصد التطيب كماء ورد أو طيب عمم به يديه مسحا بل ويمسح بفضله وجهه أيضا ، بخلاف الاقتصار على بعضه فإنما يكون غالبا عند قصد مجرد إمساكه للحفظ أو للملاقاة من غير قصد أو لغاية القلة في الطيب نفسه ، فتتقاصر الجناية فيما دون العضو فتجب الصدقة . ثم ما ذكر من أن في حلق ربع الرأس أو اللحية دما من غير خلاف موافق لعامة الكتب وهو المصحح لا ما في جامعي شمس الأئمة وقاضي خان أن على قولهما في الجميع الدم وفي [ ص: 32 ] الأقل منه الطعام . وعن أبي يوسف أن في حلق الأكثر الدم .

وعن محمد رحمه الله يجب الدم بحلق العشر ; لأنه يقدر به الأشياء الشرعية فيقام مقام الكل احتياطا . هذا فلو كان أصلع على ناصيته أقل من ربع شعرها فإنما فيه صدقة ، وكذا لو حلق كل رأسه وما عليه أقل من ربع شعره ، وإن كان عليه قدر ربع شعره لو كان شعر رأسه كاملا ففيه دم ، وعلى هذا يجيء مثله فيمن بلغت لحيته الغاية في الخفة . وفي المرغيناني : حلق رأسه وأراق دما ثم حلق لحيته وهو في مقام واحد فعليه دم آخر ، ولو حلق رأسه ولحيته وإبطيه وكل بدنه في مجلس واحد فدم واحد ، وإن اختلفت المجالس فلكل مجلس موجب جنايته فيه عندهما . وعند محمد دم واحد وإن اختلفت المجالس ما لم يكفر للأول ، وتقدم في الطيب مثله .

اعتبره بما لو حلق في مجلس ربع رأسه ، وفي آخر ربعا آخر حتى أتمها في أربعة مجالس يلزمه دم واحد اتفاقا ما لم يكفر للأول . والفرق لهما أن هذه جناية واحدة وإن تعددت المجالس ; لاتحاد محلها ، وهو الرأس . هذا فأما ما في مناسك الفارسي من قوله : وما سقط من شعرات رأسه ولحيته عند الوضوء لزمه كف من طعام إلا أن تزيد على ثلاث شعرات ، فإن بلغ عشرا لزمه دم . وكذا إذا خبز فاحترق ذلك غير صحيح لما علمت من أن القدر الذي يجب فيه الدم هو الربع من كل منهما .

نعم في الثلاث كف من طعام عن محمد ، وهو خلاف ما في فتاوى قاضي خان قال : وإن نتف من رأسه أو أنفه أو لحيته شعرات ففي كل شعرة كف من طعام ، وفي خزانة الأكمل في خصلة نصف صاع ( قوله : لأنها عضو مقصود بالحلق ) يفعل ذلك كثير من الناس للراحة والزينة . ( قوله : وإن حلق الإبطين أو أحدهما فعليه دم ) المعروف هذا الإطلاق . وفي فتاوى قاضي خان في الإبط إن كان كثير الشعر يعتبر فيه الربع ; لوجوب الدم وإلا فالأكثر . ( قوله : وقال أبو يوسف ومحمد ) تخصيص قولهما ليس [ ص: 33 ] لخلاف أبي حنيفة بل ; لأن الرواية في ذلك محفوظة عنها .

وقوله : أراد به الساق والصدر وما أشبه ذلك تفسير المراد بما هو أخص من مؤدى اللفظ ليخرج بذلك الرأس واللحية فإن في الربع من كل منهما الدم ، بخلاف هذه الأعضاء والفارق العادة ، ثم جعله الصدر والساق مقصودين بالحلق موافق لجامع فخر الإسلام مخالف ; لما في المبسوط ففيه متى حلق عضوا مقصودا بالحلق فعليه دم ، وإن حلق ما ليس بمقصود فصدقة ، ثم قال : ومما ليس بمقصود حلق شعر الصدر والساق ، ومما هو مقصود حلق الرأس والإبطين وهذا أوجه . وقوله ; لأنه مقصود بطريق التنور مدفوع بأن القصد إلى حلقهما إنما هو في ضمن غيرهما إذ ليست العادة تنوير الساق وحده بل تنوير المجموع من الصلب إلى القدم فكان بعض المقصود بالحلق . نعم كثيرا ما يعتادون تنوير الفخذ مع ما فوقه دون الساق وقد يقتصر على العانة أو مع الصلب ، وإنما يفعل هذا للحاجة ، أما الساق وحده فلا ; فالحلق أن يجب في كل منهما الصدقة .

واعلم أنه يجمع المتفرق في الحلق كما في الطيب ( قوله : فإن أخذ من شاربه ) أو أخذه كله أو حلقه ( فعليه طعام هو حكومة عدل ) بأن ينظر إلى المأخوذ ما نسبته من ربع اللحية فيجب بحسابه ، فإن كان مثل ربع ربعها لزمه قيمة ربع الشاة أو ثمنها فثمنها وهكذا ، وفي المبسوط خلاف هذا قال : ولم يذكر في الكتاب ما إذا حلق شاربه ، وإنما ذكر إذا أخذ من شاربه فعليه الصدقة ، فمن أصحابنا من يقول : إذا حلق شاربه يلزمه الدم ; لأنه مقصود بالحلق تفعله الصوفية وغيرهم ، والأصح أنه لا يلزمه الدم ; لأنه طرف من اللحية وهو مع اللحية كعضو واحد ، وإذا كان الكل عضوا واحدا لا يجب بما دون الربع منه الدم والشارب دون الربع من اللحية فتكفيه الصدقة في حلقه ا هـ .

وما في الهداية إنما يظهر تفريعه على قول محمد في تطييب بعض العضو حيث قال : يجب بقدره من الدم ، أما على ما عرف من جادة ظاهر المذهب وهو أن ما لم يجب فيه الدم تجب فيه الصدقة مقدرة بنصف صاع إلا فيما يستثنى فلا . ثم على تقدير التفريع على قول محمد فالواجب أن ينظر إلى نسبة المأخوذ من [ ص: 34 ] ربع اللحية معتبرا معها الشارب كما يفيده ما في المبسوط من كون الشارب طرفا من اللحية هو معها عضو واحد لا أنه ينسب إلى ربع اللحية غير معتبر الشارب معها ، فعلى هذا إنما يجب ربع قيمة الشاة إذا بلغ المأخوذ من الشارب ربع المجموع من اللحية مع الشارب لا دونه ، وإذا أخذ المحرم من شارب حال أطعم ما شاء ( قوله : ولفظة الأخذ تدل على أنه هو السنة فيه دون الحلق ) يشير إلى خلاف ما ذكر الطحاوي في شرح الآثار حيث قال : القص حسن ، وتفسيره أن يقص حتى ينتقص عن الإطار وهو بكسر الهمزة ملتقى الجلدة واللحم من الشفة ، وكلام المصنف على أن يحاذيه . ثم قال الطحاوي : والحلق أحسن ، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد والمذهب عند بعض المتأخرين من مشايخنا أن السنة القص ا هـ .

فالمصنف إن حكم بكون المذهب القص أخذا من لفظ الأخذ في الجامع الصغير فهو أعم من الحلق ; لأن الحلق أخذ ، والذي ليس أخذ هو النتف ، فإن ادعى أنه المتبادر لكثرة استعماله فيه منعناه ، وإن سلم فليس المقصود في الجمع هنا بيان أن السنة هو القص أو لا بل بيان ما في إزالة الشعر على المحرم ، ألا ترى أنه ذكر في الإبط الحلق ولم يذكر كون المذهب فيه استنان الحلق ، فعلم أن المقصود ذكر ما يفيد الإزالة بأي طريق حصلت لتعيين حكمه ، وأما الحديث وهو قوله : عليه الصلاة والسلام { خمس من الفطرة : الختان ، والاستحداد وقص الشارب ، وتقليم الأظفار ، ونتف الآباط } فلا ينافي ما يريده بلفظ الحلق ، فإن المراد منه المبالغة في الاستئصال عملا بقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين { أحفوا الشوارب } وهو المبالغة في القطع ، وبأي شيء حصل حصل المقصود غير أنه بالحلق بالموسى أيسر منه بالمقصة ، وقد يكون بالمقصة أيضا مثله ، وذلك بخاص منها يضع للشارب فقط .

فقول الطحاوي : الحلق أحسن من القص يريد القص الذي لم يبلغ ذلك المبلغ في المبالغة ، فإن عند أهل الصناعة قصا يسمونه قص حلاقة . ( قوله : لأنه لا يتوسل إلى المقصود إلا به ) يفيد أنه إذا لم تترتب الحجامة على حلق موضع المحاجم لا يجب الدم ; لأنه أفاد أن كونه مقصودا إنما هو للتوسل به إلى الحجامة ، فإذا لم تعقبه الحجامة لم يقع وسيلة فلم يكن مقصودا فلا يجب إلا الصدقة . وعبارة [ ص: 35 ] شرح الكنز واضحة في ذلك حيث قال في دليلها : ولأنه قليل فلا يوجب الدم ، كما إذا حلقه لغير الحجامة ، وفي دليله أن حلقه لمن يحتجم مقصود وهو المعتبر بخلاف الحلق لغيرها ، فظهر لك أن التركيب الصالح في وجه قولهما . عبارة شرح الكنز ، بخلاف تركيب الكتاب حيث قال : الحجامة ليست بمحظورة ، فكذا ما يكون وسيلة إليها فإنه نفي حظر هذا الحلق للحجامة إذ لا تفعل الحجامة إلا للحاجة إلى تنقيص الدم فلا يكون الحلق محظورا ، ولازم هذا ليس إلا عدم وجوب الصدقة عينا بل يتخير بين ذلك والصوم ، وليس المقصود هذا بل لزوم الصدقة عينا بمعنى عدم دخول الدم في كفارة هذا الحلق خلافا لأبي حنيفة ، وعدم الحظر لا يستلزمه . وقوله في وجه قول أبي حنيفة رحمه الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية