صفحة جزء
( ومن ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط فما دونها فعليه شاة ) [ ص: 55 ] لأن النقصان بترك الأقل يسير فأشبه النقصان بسبب الحدث فتلزمه شاة . فلو رجع إلى أهله أجزأه أن لا يعود [ ص: 56 ] ويبعث بشاة لما بينا ( ومن ترك أربعة أشواط بقي محرما أبدا حتى يطوفها ) لأن المتروك أكثر فصار كأنه لم يطف أصلا .


( قوله : يسير ) لرجحان جانب الوجود بالكثرة . وعن هذا ما ذكر من أن الركن عندنا هو الأربعة الأشواط ، والثلاثة الباقية واجبة ; لأن تركها يجبر بالدم ، وإنما يجبر به الواجب . وهذا حكم لا يعلل به ; لأنه محل النزاع إذ جبرها بالدم ممنوع عند من يخالف فيه وهم كثيرون ، بل جبرها به لإقامة الأكثر مقام الكل . وسبب اختصاص هذه العبادة به على خلاف الصلاة والصوم إذ لا يقام الأكثر منهما مقام الكل قوله عليه الصلاة والسلام { الحج عرفة } ، ومن وقف بعرفات فقد تم حجه مع العلم ببقاء ركن آخر عليه ، وحكمنا لهذا بالأمن من فساد الحج إذا تحقق بعد الوقوف ما يفسده قبله . فعلمنا أن باب الحج اعتبر فيه شرعا هذا الاعتبار والطواف منه فأجرينا فيه ذلك ، وهذا هو الأوجه في إثبات الإقامة المذكورة . وإنما قلنا : إن هذا الوجه أوجه ; لأن الوجه الآخر غير منتهض ، وهو أن المأمور به الطواف وهو يحصل بمرة ، فلما فعله عليه الصلاة والسلام سبعا احتمل كونه تقديرا للكمال ولما لا يجزي أقل منه فيثبت المتيقن من ذلك وهو أنه شرط للكمال أو للاعتداد ، ويقام الأكثر مقام الكل كإدراك الركوع يجعل شرعا إدراكا للركعة ، وكالنية في أكثر النهار للصوم تجعل شرعا في كله . ولا يخفى أن المأمور به التطوف ، وهو أخص يقتضي زيادة تكلف ، وهو يحتمل كونه من حيث الإسراع ومن حيث التكثر ، فلما فعله عليه الصلاة والسلام متكثرا كان تنصيصا على أحد المحتملين ، ثم وقوع التردد بين كونه للكمال أو للاعتداد على السواء لا يستلزم كون المتيقن كونه للكمال فإنه محض تحكم في أحد المحتملين المتساويين ، بل في مثله يجب الاحتياط فيعتبر للاعتداد ; ليقع اليقين بالخروج عن العهدة . وعلى اعتبار كونه للاعتداد يكون إقامة أكثره مقام كله منافيا له في التحقيق ، إذ كون السبع للاعتداد معناه أنه لا يجزي أقل منها .

وإقامة الأكثر لازمه حصول الإجزاء بأقل من السبع فكيف يرتب لازما على شيء وهو مناف للملزوم ، ثم بتقديره فإثباته بإلحاق مدرك الركوع والنية باطل . أما إدراك الركعة بالركوع فبالشرع على خلاف القياس ، ولذا لم يقل بإجزاء ثلاث ركعات عن الأربع قياسا . وأما النية فبعيد أنه من رد المختلف إلى المختلف فإنا نعتبر الإمساكات السابقة على وجود النية متوقفة على وجودها ، فإذا وجدت بأن ينوي أنه صائم من أول النهار تحقق [ ص: 56 ] صرف ذلك الموقوف كله لله تعالى ، فإنما تعلقت النية بالكل ; لوجودها في الأكثر لا بالأكثر ، وكان سبب تصحيح تعلقها بالكل من غير قران وجودها بالكل الحرج اللازم من اشتراط قران وجودها للكل بسبب النوم الحاكم على ما أسلفنا إيضاحه في كتاب الصوم ، وليس ما نحن فيه كذلك .

هذا وأما الوجه الأول فهو وإن كان أوجه لكنه غير سالم مما يدفع به . وذلك أن إقامة الأكثر في تمام العبادة إنما هو في حق حكم خاص وهو أمن الفساد والفوات ليس غير ، ولذا لم يحكم بأن ترك ما بقي : أعني الطواف يتم معه الحج وهو مورد ذلك النص ، فلا يلزم جواز إقامة أكثر كل جزء منه مقام تمام ذلك الجزء وترك باقيه ، كما لم يجز ذلك في نفس مورد النص : أعني الحج ، فلا ينبغي التعويل على هذا الحكم ، والله أعلم . بل الذي ندين به أن لا يجزي أقل من السبع ، ولا يجبر بعضه بشيء غير أنا نستمر معهم في التقرير على أصلهم هذا . ( قوله ويبعث بشاة ) يعني عن الباقي من طواف الزيارة وبشاة أخرى [ ص: 57 ] لترك طواف الصدر ، وهذا لأن بعث الشاة لترك بعض طواف الزيارة لا يتصور إلا إذا لم يكن طاف للصدر ، فإنه لو طاف للصدر انتقل منه إلى طواف الزيارة ما يكمله ثم ينظر في الباقي من طواف الصدر إن كان أقله لزمه صدقة له وإلا فدم ، ولو كان طاف للصدر في آخر أيام التشريق وقد ترك من طواف الزيارة أكثره كمل من الصدر ولزمه دمان في قول أبي حنيفة : دم لتأخير ذلك ، ودم آخر لتركه أكثر الصدر ، وإن كان قد ترك أقله لزمه للتأخير دم وصدقة للمتروك من الصدر مع ذلك الدم . وجملته أن عليه في ترك الأقل من طواف الزيارة دما ، وفي تأخير الأقل صدقة ، وفي ترك الأكثر من طواف الصدر دما ، وفي ترك أقله صدقة . ومبنى هذا النقل ما تقدم من أن طواف الزيارة ركن عبادة ، والنية ليست بشرط لكل ركن إلا أنه يستقل عبادة في نفسه فشرط له نية أصل الطواف دون التعيين . فلو طاف في وقته ينوي النذر أو النفل وقع عنه ، كما لو نوى بالسجدة من الظهر النفل لغت نيته ووقعت عن الركن وإن توالي الأشواط ليس بشرط لصحة الطواف ، كمن خرج من الطواف لتجديد وضوء ففعل ثم رجع بنى .

التالي السابق


الخدمات العلمية