صفحة جزء
باب إضافة الإحرام إلى الإحرام ( قال أبو حنيفة رحمه الله : إذا أحرم المكي بعمرة وطاف لها شوطا ثم أحرم بالحج فإنه يرفض الحج ، وعليه لرفضه دم ، وعليه حجة وعمرة ) . [ ص: 115 ] ( وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله : رفض العمرة أحب إلينا وقضاؤها ، وعليه دم ) ; لأنه لا بد من رفض أحدهما ; لأن الجمع بينهما في حق المكي غير مشروع ، والعمرة أولى بالرفض ; لأنها أدنى حالا وأقل أعمالا وأيسر قضاء لكونها غير مؤقتة ، وكذا إذا أحرم بالعمرة ثم بالحج ولم يأت بشيء من أفعال العمرة لما قلنا . فإن طاف للعمرة أربعة أشواط ثم أحرم بالحج رفض الحج بلا خلاف ; لأن للأكثر حكم الكل فتعذر رفضها كما إذا فرغ منها ، ولا كذلك إذا طاف للعمرة أقل من ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله ، [ ص: 116 ] وله أن إحرام العمرة قد تأكد بأداء شيء من أعمالها ، وإحرام الحج لم يتأكد ، ورفض غير المتأكد أيسر ; ولأن في رفض العمرة ، والحالة هذه إبطال العمل .

وفي رفض الحج امتناع عنه وعليه دم بالرفض أيهما رفضه ; لأنه تحلل قبل أوانه ; لتعذر المضي فيه فكان في معنى المحصر إلا أن في رفض العمرة قضاءها لا غير ، وفي رفض الحج قضاؤه وعمرة ; لأنه في معنى فائت الحج ( وإن مضى عليهما أجزأه ) ; لأنه أدى أفعالهما كما التزمهما ، غير أنه منهي عنهما والنهي لا يمنع تحقق الفعل على ما عرف من أصلنا ( وعليه دم ; لجمعه بينهما ) ; لأنه تمكن النقصان في عمله لارتكابه المنهي عنه ، وهذا في حق المكي دم جبر ، وفي حق الآفاقي دم شكر ( ومن أحرم بالحج ثم أحرم يوم النحر بحجة أخرى ، [ ص: 117 ] فإن حلق في الأولى لزمته الأخرى ولا شيء عليه ، وإن لم يحلق في الأولى لزمته الأخرى وعليه دم قصر أو لم يقصر [ ص: 118 ] عند أبي حنيفة ) رحمه الله ( وقالا : إن لم يقصر فلا شيء عليه ) ; لأن الجمع بين إحرامي الحج أو إحرامي العمرة بدعة ، فإذا حلق فهو وإن كان نسكا في الإحرام الأول فهو جناية على الثاني ; لأنه في غير أوانه فلزمه الدم بالإجماع ، وإن لم يحلق حتى حج في العام القابل فقد أخر الحلق عن وقته في الإحرام الأول وذلك يوجب الدم عند أبي حنيفة رحمه الله ، وعندهما لا يلزمه شيء على ما ذكرنا ، فلهذا سوى بين التقصير وعدمه عنده وشرط التقصير عندهما .


( باب إضافة الإحرام إلى الإحرام ) . ( قوله : قال أبو حنيفة إلخ ) حاصل وجوه ما إذا أحرم المكي بعمرة فأدخل عليها إحرام حجة ثلاثة : إما أن يدخله قبل أن يطوف فترتفض عمرته اتفاقا ، ولو فعل هذا آفاقي كان قارنا على ما أسلفناه في باب القران ، أو يدخله بعد أن يطوف أكثر الأشواط فترتفض حجته اتفاقا ، ولو فعل هذا آفاقي كان متمتعا إن كان الطواف في أشهر الحج على ما قدمناه ، أو بعد أن طاف الأقل فهي الخلافية عنده يرفض الحج ; لما يلزم رفض العمرة من إبطال العمل . وعندهما العمرة ; لأنها أدنى حالا إذ ليس من جنسها فرض ، بخلاف الحج ، وأقل أعمالا وهو ظاهر وأيسر قضاء ; لعدم توقيتها وقلة أعمالها . ولو فعل هذا آفاقي كان قارنا على ما استوفيناه في صدر باب القران ، وكل من رفض نسكا فعليه دم ; لما روى أبو حنيفة عن عبد الملك بن عمير عن عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 115 ] أمر لرفضها العمرة بدم } ، ولو مضى المكي عليهما ، ولم يرفض شيئا أجزأه ; لأنه أدى أفعالهما كما التزمهما ، غير أنه منهي عنه بقوله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } يعني التمتع .

وقد قدمنا أن القران داخل في مفهومه ، وسماه المصنف نهيا باعتبار المعنى وهو عن فعل شرعي فلا يمنع تحقق الفعل على وجه الشروعية بأصله غير أنه يتحمل إثمه كصيام يوم النحر بعد أن يكون نذره ، ثم عليه دم ; لتمكن النقصان في نسكه بارتكاب المنهي عنه فيه فهو دم جبر فلا يتناول منه شيئا ، أما إن كان المضي عليهما بعد أن أدخل الحج على العمرة قبل الطواف ; للعمرة أو بعد طواف الأقل فظهر ; لأنه قارن ، وإن كان بعد فعل الأكثر في أشهر الحج فكذلك ; لأنه متمتع ، وليس ; لأهل مكة تمتع ولا قران ، فلو كان طواف الأكثر منه للعمرة في غير أشهر الحج ففي المبسوط أن عليه الدم أيضا . قال : لأنه أحرم بالحج قبل أن يفرغ من العمرة ، وليس للمكي أن يجمع بينهما ، فإذا صار جامعا من [ ص: 116 ] وجه كان عليه الدم .

( قوله : وله ) أورد وجهين : الثاني منهما دافع لما يتوهم مما أورده بعض الطلبة على الأول . وهو أنه لما كان الأكثر كالكل في اعتبار الشرع لزمه أن الأقل ليس له حكم الوجود في اعتباره بل حكم العدم ; وهذا لأنه ليس معنى الكل إلا نفس الشيء ، فعدم اعتبار الأقل كالكل هو عدم اعتباره ذلك الشيء موجودا فيكون معتبرا عدما ، فيلزم اعتبار هذا البعض عدما إذ لا عبرة به إلا إذا كان في ضمن الكل إذ لا تصح العبادة ما لم [ ص: 117 ] تتم فصار فعل البعض كعدم فعل شيء ، وإذا لم يفعل شيئا ثم أحرم بالحج يرفض العمرة فكذا إذا فعل الأقل . وجوابه منع كون الأقل إذا لم يعتبر تمام الشيء فإنه يعتبر عدما ; لجواز أن لا يعتبر عدما ولا كالكل بل يعتبر بمجرد وجوده عبادة منتهضا سببا ; للثواب بنفسه إن كان البعض يصلح عبادة بالاستقلال ، وبواسطة إتمامه إن لم يصلح مع إيجاب الإتمام ، وحينئذ هذا البعض إن كان من الأول فلا إشكال .

وإن كان من الثاني فقد ثبت بمجرد وجوده اعتباره وتعليق خطاب الإتمام به وهو قوله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم } وفي رفض العمرة إبطاله فوجب إتمامه . ولنذكر تقسيما ضابطا لفروع الباب ثم ننتقل في كلام المصنف فنقول : الجمع إما بين إحرامي حجتين فصاعدا كعشرين أو عمرتين كذلك أو حجة وعمرة الأول إما أن يجمع بينهما معا أو على التعاقب أو على التراخي ، فإما بعد الحلق في الأول أو قبله ، وفي هذا إما أن يفوته الحج من عامه أو لا ، ففيما إذا أحرم بهما معا أو على التعاقب لزماه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ، وعند محمد في المعية يلزمه إحداهما ، وفي التعاقب الأولى فقط ، وإذا لزماه عندهما ارتفضت إحداهما باتفاقهما ويثبت حكم الرفض . واختلفا في وقت الرفض ، فعند أبي يوسف [ ص: 118 ] عقيب صيرورته محرما بلا مهلة . وعند أبي حنيفة : إذا شرع في الأعمال ، وقيل إذا توجه سائرا ، ونص في المبسوط على أنه ظاهر الرواية . وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا جنى قبل الشروع فعليه دمان ; للجناية على إحرامين ودم عند أبي يوسف رحمه الله ; لارتفاض إحداهما قبلها . ا هـ .

( ومن الفروع ) لو جامع قبل أن يسير أو يشرع على الخلاف لزمه دمان ; للجماع ودم ثالث ; للرفض ، فإنه يرفض إحداهما ويمضي في الأخرى ويقضي التي مضى فيها وحجة وعمرة مكان التي رفضها . ولو قتل صيدا فعليه قيمتان أو أحصر فدمان ، هذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى . وعند أبي يوسف دم سوى دم الرفض . وإذا تراخى فأدخل بعد الحلق في الأولى لزمته الثانية ، ولا يلزم رفض شيء ولا دم عليه ثم يتم أفعال الأولى ويستمر محرما إلى قابل فيفعل الثانية ، وإن أحرم بها قبل الحلق ولا فوات لزمه ، ثم إن وقف يوم عرفة أو ليلة المزدلفة بالمزدلفة رفضها وعليه دم الرفض وحجة وعمرة مكانها ويمضي فيما هو فيها ، وهذا قولهما . أما عند محمد فإحرامه باطل ، وإنما يرفضها ; لأنه لو لم يرفضها ووقف لها كان مؤديا حجتين في سنة واحدة ، وكذا في ليلة المزدلفة لو لم يرفضها وعاد إلى عرفات فوقف يصير مؤديا ; لحجتين في سنة واحدة . وإن كان بعد طلوع فجر النحر لم يرفض شيئا ; لأن وقت الوقوف قد فات فلا يكون باستدامة الإحرام مؤديا حجتين في سنة فيتم أعمال الحجة الأولى ويقيم حراما ، ثم إن حلق في الأولى لزمه دم الجناية على إحرام الثانية اتفاقا ، وإن لم يحلق بل استمر حتى حل من قابل لزمه دم ; لتأخير الحلق عنده خلافا لهما ، وهل يلزم دم آخر ; للجمع ؟ . قيل : فيه روايتان ، وقيل ليس إلا رواية الوجوب ، وهو الأوجه .

وإن أحرم بالثانية بعدما فاته الحج وجب رفضها ودم وقضاؤها وقضاء عمرة ; لأن فائت الحج ، وإن تحلل بأفعال عمرة هو محرم بالحج فيصير جامعا بين إحرام حجتين فيرفض الثانية . وأما الثاني وهو بعمرتين ففي المعية والتعاقب : أعني بلا فصل عمل ما في الحجتين والخلاف فيما يلزم ووقت الرفض إذا لزم ، وفيما إذا طاف ; للأولى شوطا رفض الثانية وعليه دم الرفض والقضاء ، وكذا هذا ما لم يفرغ من السعي ، فإن كان فرغ منه إلا الحلق لم يرفض شيئا وعليه دم ; للجمع ، وهذه تؤيد رواية لزومه في الجمع بين الحجتين على الوجه الذي ذكرناه ، فإن حلق للأولى لزمه دم واحد ; للجناية على الثانية ، ولو كان جامع في الأولى قبل أن يطوف فأفسدها ثم أدخل الثانية يرفضها [ ص: 119 ] ويمضي في الأولى حتى يتمها ; لأن الفاسد معتبر بالصحيح في وجوب الإتمام ، ولو كانت الأولى صحيحة كان عليه أن يمضي فيها ويرفض الثانية فكذا بعد فسادها .

وإن نوى رفض الأولى والعمل في الثانية لم يكن عليه إلا الأولى ، ومن أحرم ولا ينوي شيئا فطاف ثلاثة أو أقل ثم أحرم بعمرة رفضها ; لأن الأولى تعينت عمرة حيث أخذ في الطواف ; لما أسلفناه ، فحين أهل بعمرة أخرى صار جامعا بين عمرتين فلهذا يرفض الثانية . وأما الثالث وهو بحجة وعمرة ، فإما أن يجمع بينهما المكي ومن بمعناه كأهل المواقيت ومن دونهم أو الآفاقي ، فإن كان الأولين ففي الكافي ; للحاكم أنه لا يقرن بينهما ولا يضيف العمرة إلى الحج ولا الحج إلى العمرة ، فإن قرن بينهما رفض العمرة ومضى في الحج ، وكذا أهل المواقيت ومن دونهم إلى مكة . قال : وكذلك إن أحرم المكي أولا بالعمرة من وقتها ثم أحرم بالحج رفض عمرته ، فإن مضى عليهما حتى يقضيهما أجزأه وعليه ; لجمعه بينهما دم ، فإن طاف للعمرة شوطا أو ثلاثة ثم أحرم بالحج رفض الحج في قول أبي حنيفة ، وقالا : يرفض العمرة . وإن كان طاف أربعة أشواط ثم أهل الحج قال : هذا يفرغ مما بقي من عمرته ويفرغ من حجته وعليه دم ; لأنه أهل بالحج قبل أن يحل عن العمرة وهو مكي ولا ينبغي ; لأهل مكة أن يجمعوا بينهما ، ولو كان كوفيا لم يكن عليه هذا الدم ا هـ .

ولفظه أظهر في عدم رفض الحج منه في الرفض ، وصرح بذلك صاحب المبسوط شمس الأئمة فقال : لا يرفض واحدا منهما ; لأن للأكثر حكم الكل ، فكأنه أحرم به بعد التحلل من العمرة ، واختار صاحب الهداية وقوم أنه يرفض الحج إن تعذر رفض العمرة ، ولو كان المكي أهل أولا بالحج فطاف شوطا ثم أهل بالعمرة رفض العمرة ، وإن لم يرفضها وطاف لها وسعى وفرغ منها أجزأه وعليه دم ; لأنه أهل بها قبل أن يفرغ من حجته . وفي الكافي : إذا خرج المكي إلى الكوفة لحاجة فاعتمر فيها وحج من عامه لم يكن متمتعا ، وإن قرن من الكوفة كان قارنا ; ألا ترى أن كوفيا لو قرن وطاف لعمرته في أشهر الحج ثم رجع إلى أهله ثم وافى الحج فحج كان قارنا ولم يبطل عنه دم القران ; لرجوعه إلى أهله كما يبطل عنه دم المتعة . ا هـ .

وحاصله أن عدم الإلمام بالأهل شرط التمتع المشروع دون القران على ما أسلفنا نقله وقررناه بالبحث في باب التمتع من أن النظر يقتضي اشتراط عدم الإلمام ; للقران كالمتعة . وإن كان الثاني وهو الآفاقي ، فإن جمع بينهما أو أدخل إحرام الحج على إحرام العمرة قبل أن يطوف لها أربعة أشواط ، أو إن لم يطف شيئا فهو قارن وعليه دم شكر . وهل يشترط في كون الجامع على أحد هذه الوجوه قارنا أن يؤدي طواف عمرته أو أكثره في أشهر الحج تقدم ما نقلناه من عدم اشتراط ذلك وتقدم معه ما أوردناه عليه . وإن أدخل فيه بعد أربعة ، فإن كان فعلها في أشهر الحج من غير إلمام صحيح على ما تقدم في باب التمتع فهو متمتع إن حج من عامه ، وإلا فهو مفرد بهما . وإن أدخل إحرام العمرة على إحرام الحج ، فإن كان قبل أن يطوف شيئا من طواف القدوم فهو قارن مسيء وعليه دم شكر ، وإن كان بعدما شرع فيه ولو قليلا فهو أكثر إساءة وعليه دم ، اختلف فيه ، فعند صاحب الهداية وفخر الإسلام أنه دم جبر فلا يأكل منه ، وعند شمس الأئمة دم [ ص: 120 ] شكر ، وقولهم رفض العمرة في هذه الصورة مستحب يؤنس به في أنه دم شكر .

وكذا إن أهل بالعمرة بعرفة وإن أهل بها يوم النحر وجب رفضها إن كان قبل الحلق اتفاقا والدم والقضاء ، وإن كان بعده اختلف فيه ، والأصح وجوب الرفض ، ولو لم يرفض في الصورتين أجزأه ويجب عليه دم ; للمضي ، وكذا إذا أحرم بها بعد ما فاته الحج قبل أن يتحلل بأفعال العمرة يجب رفض العمرة ، وكل شيء رفضه يجب ; لرفضه دم وقضاؤه ، فإن كان عمرة لم يلزمه في قضائها سوى عمرة ، وإن كان حجة لزمه حج وعمرة ، أما الحجة فللقضاء ، وأما العمرة فلأنه في معنى فائت الحج ، وهو يتحلل بها ثم يقضي الحج شرعا ، ولذا قلنا : لو أحرم بالحجة في سنته لا عمرة عليه ، والله سبحانه وتعالى أعلم . ولنرجع ; لنحل كلام المصنف رحمه الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية