صفحة جزء
( والعمرة لا تفوت وهي جائزة في جميع السنة إلا خمسة أيام يكره فيها فعلها ، [ ص: 137 ] وهي يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق ) لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تكره العمرة في هذه الأيام الخمسة ; ولأن هذه الأيام أيام الحج فكانت متعينة له . وعن أبي يوسف رحمه الله : أنها لا تكره في يوم عرفة قبل الزوال ; لأن دخول وقت ركن الحج بعد الزوال لا قبله ، والأظهر من المذهب ما ذكرناه ، ولكن مع هذا لو أداها في هذه الأيام صح ويبقى محرما بها فيها ; لأن الكراهة لغيرها وهو تعظيم أمر الحج وتخليص وقته له [ ص: 138 - 139 ] فيصح الشروع .


. ( قوله : لما روي عن عائشة ) أخرج البيهقي عن شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة عن عائشة قالت . حلت العمرة في السنة كلها إلا أربعة أيام : يوم عرفة ، ويوم النحر ، ويومان بعد ذلك ا هـ .

وهو يشير إلى أن الكراهة كراهة تحريم وفي كلام المصنف ما يفيده . وقال الشيخ تقي الدين في الإمام : روى إسماعيل بن عياش عن إبراهيم ونافع عن طاوس قال : قال البحر يعني ابن عباس : خمسة أيام : يوم عرفة ، ويوم النحر ، والثلاثة أيام التشريق اعتمر قبلها أو بعدها ما شئت . ا هـ . هذا وأما أفضل أوقاتها فرمضان . وعن ابن عباس رضي الله عنهما عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال { عمرة في رمضان تعدل حجة } وفي طريق ; لمسلم { تقضى حجة أو حجة معي } وفي رواية ; لأبي داود { تعدل حجة معي } من غير شك . وكان السلف رحمهم الله يسمونها الحج الأصغر .

هذا وقد قدمنا في أوائل كتاب الحج الوعد بعدد عمراته عليه الصلاة والسلام فنقول : قد { اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمرات كلهن بعد الهجرة } ، ولم يعتمر مدة مقامه بمكة بعد النبوة شيئا ، وذلك ثلاث عشرة سنة وعن هذا ادعى من ادعى أن السنة في العمرة أن تفعل داخلا إلى مكة لا خارجا ، بأن يخرج المقيم بمكة إلى الحل فيعتمر كما يفعل اليوم ، وإن لم يكن ذلك ممنوعا ; ثم المراد بالأربعة ، إحرامه بهن ، فأما ما تم له منها فثلاث ، ولهذا قال البراء بن عازب : { اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرتين قبل أن يحج فلم يحتسب بعمرة الحديبية } ، كذا في الصحيحين وكلهن في ذي القعدة على ما هو الحق .

[ الأولى ] عمرة الحديبية سنة ست فصد بها فنحر الهدي بها وحلق هو وأصحابه ورجع إلى المدينة . [ الثانية ] عمرة القضاء في العام المقبل ، وهي قضاء عن الحديبية ، هذا مذهب أبي حنيفة ، وذهب مالك إلى [ ص: 138 ] أنها مستأنفة لا قضاء عنها ، وتسمية الصحابة وجميع السلف إياها بعمرة القضاء ظاهر في خلافه ، وتسمية بعضهم إياها عمرة القضية لا ينفيه ، فإنه اتفق في الأولى مقاضاة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة على أن يأتي من العام المقبل فيدخل مكة بعمرة ويقيم بها ثلاثا ، وهذا الأمر قضية تصح إضافة هذه العمرة إليها ، فإنها عمرة كانت عن تلك القضية فهي قضاء عن تلك القضية فتصح إضافتها إلى كل منهما فلا تستلزم الإضافة إلى القضية نفي القضاء ، والإضافة إلى القضاء يفيد ثبوته فيثبت مفيد ثبوته بلا معارض .

وأيضا فالحكم الثابت فيمن شرع في إحرام بنسك فلم يتمه لإحصار فحل أن يقضي وهذه تحتمل القضاء فوجب حملها عليه ، وعدم نقل أنه عليه الصلاة والسلام أمر الذين كانوا معه بالقضاء لا يفيد ذلك ، بل المفيد له نقل العدم لا عدم النقل . نعم هو مما يؤنس به في عدم الوقوع ; لأن الظاهر أنه لو كان لنقل ، لكن ذلك إنما يعتبر لو لم يكن من الثابت ما يوجب القضاء في مثله على العموم فيجب الحكم بعلمهم به وقضائها من غير تعيين طريق علمهم . [ الثالثة ] عمرته التي قرنها مع حجته على ما أسلفنا إثباته من أنه صلى الله عليه وسلم حج قارنا أو التي تمتع بها إلى الحج على قول القائلين بأنه حج متمتعا ، أو التي اعتمرها في سفره ذلك على قول القائلين بأنه أفرد واعتمر ، ولا عبرة بقول الرابع .

[ الرابعة ] عمرته من الجعرانة لما خرج صلى الله عليه وسلم إلى حنين ودخل بهذه العمرة إلى مكة ليلا وخرج منها ليلا إلى الجعرانة فبات بها ، فلما أصبح وزالت الشمس خرج في بطن سرف حتى جامع في الطريق ، ومن ثمة خفيت هذه العمرة على كثير من الناس . وأما أنهن كلهن في ذي القعدة فلما ثبت عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم { لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة } . وأما ما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال : { اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة ، إلا التي مع حجته } : عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعدة ، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة ، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة ، وعمرة مع حجته فلا ينافيه ; لأن مبدأ عمرة القران كان في ذي القعدة وفعلها كان في ذي الحجة فصح طريقا الإثبات والنفي .

وأما قول ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعا إحداهن في رجب ، فقد قالت عائشة لما بلغها ذلك : يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة قط إلا وهو شاهد ، وما اعتمر في رجب قط . وأما ما رواه الدارقطني عن عائشة { خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان } فقد حكم الحفاظ بغلط هذا الحديث ، إذ لا خلاف أن عمره كلها لم تزد عن أربع ، وقد عينها أنس وعدها وليس فيما ذكر شيء منها في غير ذي القعدة سوى التي مع حجته ، وقد جمع بما ذكرناه من الوجه الصحيح ، فلو كانت له عمرة في رجب وأخرى في رمضان لكانت ستا ، ولو كانت أخرى في شوال كما هو في سنن أبي داود عن عائشة { أنه عليه الصلاة والسلام اعتمر في شوال كانت سبعا } . والحق في ذلك أن ما أمكن الجمع فيه وجب ارتكابه دفعا للمعارضة ، وما لم يمكن الجمع فيه حكم بمقتضى الأصح والأثبت ، وهذا أيضا يمكن فيه الجمع بإرادة عمرة الجعرانة فإنه خرج إلى حنين في شوال والإحرام بها في ذي القعدة فكان [ ص: 139 ] مجازا ; للقرب ، هذا إن صح وحفظ ، وإلا فالمعول عليه الثابت ، والله أعلم .

ولما ثبت أن عمره صلى الله عليه وسلم كانت كلها في ذي القعدة وقع تردد لبعض أهل العلم في أن أفضل أوقات العمرة أشهر الحج أو رمضان ، ففي رمضان ما قدمناه مما يدل على الأفضلية ، ولكن فعله لما لم يقع إلا في أشهر الحج كان ظاهرا أنه أفضل إذ لم يكن الله سبحانه وتعالى يختار لنبيه إلا ما هو الأفضل ، أو أن رمضان أفضل بتنصيصه صلى الله عليه وسلم على ذلك . وتركه لذلك ; لاقترانه بأمر يخصه كاشتغاله بعبادات أخرى في رمضان تبتلا وألا يشق على أمته ، فإنه لو اعتمر فيه لخرجوا معه ولقد كان بهم رحيما ، وقد أخبر في بعض العبادات أن تركه لها ; لئلا يشق عليهم مع محبته له كالقيام في رمضان بهم ومحبته لأن يسقي بنفسه مع سقاة زمزم ثم تركه كي لا يغلبهم الناس على سقايتهم ، ولم يعتمر عليه الصلاة والسلام في السنة إلا مرة . وما ظنه بعضهم من حديث في أبي داود عن عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال } وليس المراد ذكر جميع ما اعتمر عليه الصلاة والسلام ; للعلم بأنه اعتمر أكثر ، فكان المراد ذكر أنه وقع له ذلك في سنة يجب أن يحكم فيه بالغلط ، فإنه قد تظافر قول عائشة وابن عباس وأنس وغيرهم على أنها أربع ، ومعلوم أن الأولى كانت في ذي القعدة عام الحديبية سنة ست ، ثم لم يعتمر إلا من قابل سنة سبع سوى التي في ذي القعدة عمرة القضاء ، ثم لم يخرج إلى مكة حتى فتحها سنة ثمان في رمضان ولم يعتمر في دخوله في الفتح ، ثم أخرج إلى حنين في شوال من تلك السنة ثم رجع منها فأحرم بعمرة في ذي القعدة ، فمتى اعتمر في شوال ؟ والله سبحانه وتعالى أعلم ، ولا علم إلا ما علم .

التالي السابق


الخدمات العلمية