صفحة جزء
( ويجوز تزويج الكتابيات ) لقوله تعالى { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } أي العفائف ، [ ص: 229 ] ولا فرق بين الكتابية الحرة والأمة على ما نبين من بعد إن شاء الله تعالى


( قوله ويجوز تزويج الكتابيات ) والأولى أن لا يفعل ولا يأكل ذبيحتهم إلا للضرورة . وتكره الكتابية الحربية إجماعا لانفتاح [ ص: 229 ] باب الفتنة من إمكان التعلق المستدعي للمقام معها في دار الحرب ، وتعريض الولد على التخلق بأخلاق أهل الكفر وعلى الرق بأن تسبى وهي حبلى فيولد رقيقا وإن كان مسلما . والكتابي من يؤمن بنبي ويقر بكتاب . والسامرية من اليهود . أما من آمن بزبور داود وصحف إبراهيم وشيث فهم أهل كتاب تحل مناكحتهم عندنا .

ثم قال في المستصفى : قالوا هذا يعني الحل إذا لم يعتقدوا المسيح إلها ، أما إذا اعتقدوه فلا . وفي مبسوط شيخ الإسلام : ويجب أن لا يأكلوا ذبائح أهل الكتاب إذا اعتقدوا أن المسيح إله وأن عزيرا إله . ولا يتزوجوا نساءهم . وقيل عليه الفتوى ، ولكن بالنظر إلى الدلائل ينبغي أن يجوز الأكل والتزوج ا هـ وهو موافق لما في رضاع مبسوط شمس الأئمة في الذبيحة قال : ذبيحة النصراني حلال مطلقا سواء قال بثالث ثلاثة أو لا وموافق لإطلاق الكتاب هنا . والدليل وهو قوله تعالى { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } فسره بالعفائف احترازا عن تفسير ابن عمر بالمسلمات ، ولذلك امتنع ابن عمر رضي الله عنه من تزوج الكتابية مطلقا لاندراجها في المشركة ، قال تعالى { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } إلى أن قال { سبحانه عما يشركون } قلنا : وقد قيل إن القائل بذلك طائفتان من اليهود والنصارى انقرضوا لا كلهم ، ويهود ديارنا يصرحون بالتنزيه عن ذلك والتوحيد .

وأما النصارى فلم أر إلا من يصرح بالابنية قبحهم الله ، لكن هذا يوجب نصرة المذهب المفصل في أهل الكتاب ، فأما من أطلق حلهم فيقول مطلق لفظ المشرك إذا ذكر في لسان الشارع فلا ينصرف إلى أهل الكتاب وإن صح لغة في طائفة بل وطوائف ، وأطلق لفظ الفعل : أعني يشركون على فعلهم ، كما أن من راءى بعمله من المسلمين فلم يعمل إلا لأجل زيد يصح في حقه أنه مشرك لغة ، ولا يتبادر عند إطلاق الشارع لفظ المشرك إرادته لما عهد من إرادته به من عبد مع الله غيره ممن لا يدعي اتباع نبي ولا كتاب ، ولذلك عطفهم عليه في قوله تعالى { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين } ونصص على حلهم لقوله تعالى { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } أي العفائف منهن . وتفسير المحصنات بالمسلمات يفيد أن المعنى ، أحل لكم المسلمات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، فإن كن قد انقرضن فلا فائدة ، إذ لا يتصور الخطاب بحل الأموات للمخاطبين الأحياء ، وإن كن أحياء ودخلن في دين سيدنا ونبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فالحل حينئذ معلوم من حكم المسلمات المعلوم بالضرورة من الدين ، بل ويدخل في المحصنات المعطوف عليه وهو قوله تعالى { والمحصنات من المؤمنات } ثم يصير المعنى فيه والمسلمات من المؤمنات وهو بعيد في عرف استعمالهم بخلاف تفسيره بالعفائف .

ثم المراد من ذكره حث الإنسان على التخير لنطفته ; ألا ترى أن العفة ليست شرطا في المؤمنات اتفاقا وإن لم يدخلن فهو عين الدليل حيث أبيح نكاح الكتابيات الباقيات على ملتهن ، ولو سلم فهي منسوخة ، أعني { ولا تنكحوا المشركات } نسخت في حق أهل الكتاب المثلثين وغيرهم بآية المائدة وبقي من سواهم تحت المنع ، ذكره جماعة من أهل التفسير لأن سورة المائدة كلها لم ينسخ منها شيء قط ، على أن تفسير المحصنات [ ص: 230 ] بالمسلمات ليس من اللغة بل هو تفسير إرادة لا لغة . ويدل على الحل تزوج بعض الصحابة منهم وخطبة بعضهم ، فمن المتزوجين حذيفة وطلحة وكعب بن مالك وغضب عمر فقالوا نطلق يا أمير المؤمنين ، وإنما كان غضبه لخلطة الكافرة بالمؤمن وخوف الفتنة على الولد لأنه في صغره ألزم لأمه ، ومثله قول مالك تصير تشرب الخمر وهو يقبل ويضاجع لا لعدم الحل ; ألا ترى إلى قولهم نطلق يا أمير المؤمنين ولم ينكر عليهم ذلك هو ولا غيره ، ولو لم يصح لم يتصور طلاق حقيقة ولا وقف إلى زمنه .

وخطب المغيرة بن شعبة هندا بنت النعمان بن المنذر وكانت تنصرت وديرها باق إلى اليوم بظاهر الكوفة وكانت قد عميت فأبت وقالت : أي رغبة لشيخ أعور في عجوز عمياء ؟ ولكن أردت أن تفتخر بنكاحي فتقول تزوجت بنت النعمان بن المنذر ، فقال : صدقت ، وأنشأ يقول :

أدركت ما منيت نفسي خاليا لله درك يا ابنة النعمان     فلقد رددت على المغيرة ذهنه
إن الملوك ذكية الأذهان

وكانت بعد ذلك تدخل عليه فيكرمها ويسألها عن حالها ، فقالت في أبيات :

فبينما نسوس الناس والأمر أمرنا     إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها     تقلب تارات بنا وتصرف

قولها نتنصف : أي نستخدم ، والمنصف الخادم ، فإذا كان الأمر على ما قررناه فلا جرم أن ذهب عامة المفسرين إلى تفسير المحصنات بالعفائف ، ثم ليست العفة شرطا بل هو للعادة أو لندب أن لا يتزوجوا غيرهن كما أشرنا إليه آنفا .

والأئمة الأربعة على حل الكتابية الحرة ، وأما الأمة الكتابية فكذلك عندنا وسيأتي الخلاف فيها

التالي السابق


الخدمات العلمية