صفحة جزء
( ولا يجوز للولي إجبار البكر البالغة على النكاح ) خلافا للشافعي رحمه الله . له الاعتبار بالصغيرة وهذا لأنها جاهلة بأمر النكاح لعدم التجربة [ ص: 261 ] ولهذا يقبض الأب صداقها بغير أمرها . ولنا أنها حرة مخاطبة فلا يكون للغير عليها ولاية ، والولاية على الصغيرة لقصور عقلها وقد كمل بالبلوغ بدليل توجه الخطاب فصار كالغلام وكالتصرف في المال ، [ ص: 262 - 263 ] وإنما يملك الأب قبض الصداق برضاها دلالة [ ص: 264 ] ولهذا لا يملك مع نهيها .


( قوله ولا يجوز للولي إجبار البكر البالغة على النكاح ) معنى الإجبار أن يباشر العقد فينفذ عليها شاءت أو أبت ، ومبنى الخلاف أن علة ثبوت ولاية الإجبار أهو الصغر أو البكارة ؟ فعندنا الصغر ، وعند الشافعي البكارة ، فانبنى على هذه ما إذا زوج الأب الصغيرة فدخل بها وطلقت قبل البلوغ [ ص: 261 ] لم يجز للأب تزويجها عنده حتى تبلغ فتشاور لعدم البكارة . وعندنا له تزويجها لوجود الصغر . وحاصل وجه قوله أنه ألحق البكر الكبيرة بالبكر الصغيرة في ثبوت ولاية إجبارها في النكاح بجامع الجهل بأمر النكاح وعاقبته ، ونحن نمنع أن الجهل بأمر النكاح هو العلة في الأصل بل هو معلوم الإلغاء للقطع بجوازه عند البيع والشراء ممن جهله لعدم الممارسة ، مع أن الجهل منتف ; لأنه قلما تجهل بالغة معنى عقد النكاح وحكمه وبهذا يسقط ما يمكن أن يقال ليكن الجهل حكمة تعليق الحكم بالصغر كما ذكرتم ، لكن يجوز تعدية الحكم باعتبار الحكمة المجردة إن وجدت على المختار ، بل تعليق الحكم في الأصل بالصغر المتضمن لقصور العقل المخرج له عن أهلية أن يرجع إليه في رأي أو يلتفت إليه في أمر ونهي ، وهذا الذي ظهر أثره في التصرفات من البيع والشراء والإجارة والاقتضاء وغيرها من سائر التصرفات اتفاقا ، على أن الخلاف في الحكمة المجردة الظاهرة المنضبطة ، وظاهر كلام الفريقين هناك أن ذلك لم يتحقق في الشرع بعد . ثم لا يخفى أن الجهل غير منضبط بل يختلف باختلاف الأشخاص فلا يعتبر أصلا ، بل المظنة والكلام فيها أهي البكارة أو الصغر فقلنا الصغر . أما البكارة فمعلوم إلغاؤها من الصريح والدلالة ونوع من الاقتضاء ومقصود الشرع .

أما الصريح ففي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه ومسند الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما { أن جارية بكرا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم } وهذا حديث صحيح ، فإنه عن حسين : حدثنا جرير عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس ، وحسين هو ابن محمد المروزي أحد المخرج لهم في الصحيحين . وقول البيهقي إنه مرسل لرواية أبي داود إياه من حديث محمد بن عبيد عن حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة مرسلا ، ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه تخطئة الوصل لرواية حماد هذه ، وابن علية عن أيوب عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، ونسبة الوهم في الوصل إلى حسين لأنه لم يروه عن جرير غيره مردود . أما أولا فبحجية المرسل الصحيح . وأما ثانيا فقد تابع حسينا على الوصل عن جرير سليمان بن حرب ، كما نقله صاحب التنقيح عن الخطيب البغدادي قال : فبرئت عهدته ، يعني حسينا وزالت تبعته ثم أسنده عنه ، قال : ورواه أيوب عن سويد هكذا عن الثوري عن أيوب موصولا ، وكذلك رواه معمر بن سليمان عن زيد بن حبان عن أيوب فزال الريب وصار الحاصل أن عكرمة قال مرة : إن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل ، وذكر مرة أو مرارا الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ولا بدع في ذلك . قال ابن القطان : حديث ابن عباس هذا صحيح ، وليست هذه { خنساء بنت خذام التي زوجها أبوها وهي ثيب فكرهته فرد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحه } ، فإن هذه بكر وتلك ثيب ا هـ .

على أنه روي أن خنساء أيضا كانت بكرا ، أخرج النسائي في سننه حديثها وفيه أنها كانت بكرا . ورواه عن عبد الله بن يزيد { عن خنساء قالت : أنكحني أبي وأنا كارهة وأنا بكر ، فشكوت ذلك إلى النبي [ ص: 262 ] صلى الله عليه وسلم } . الحديث ، لكن رواية البخاري تترجح . قال ابن القطان : والدليل على أنهما ثنتان ما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم رد نكاح ثيب وبكر أنكحهما أبوهما وهما كارهتان } . قال ابن القطان : وتزوجت خنساء بمن هويته وهو أبو لبابة بن عبد المنذر ، صرح به في سنن ابن ماجه فولدت له السائب بن أبي لبابة ا هـ .

وهذا الحديث وإن كان فيه إسحاق بن إبراهيم بن جرير الطبري وهو ضعيف لكن لم يتفرد به عن الذماري فقد رواه عنه أيضا أبو سلمة مسلم بن محمد بن عمار الصنعاني . ووهم الدارقطني الذماري نفسه عن الثوري وصوب إرساله عن يحيى عن المهاجر عن عكرمة مرسلا ، وعلى كل حال يتم به المقصود الذي سقناه له . وأخرج الدارقطني عن شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي عن عطاء عن جابر { أن رجلا زوج ابنته وهي بكر من غير أمرها ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ففرق بينهما } فهذا عن جابر ، ووهم شعيبا في رفعه قال : والصحيح أنه مرسل ، وبه يتم مقصودنا إما لأنه حجة وإما لأنا ذكرناه للاستشهاد والتقوية . وأحاديث أخر رويت عن ابن عمر وعائشة وإن تكلم فيها .

وأما ما استدلوا به من قوله صلى الله عليه وسلم { الثيب أحق بنفسها من وليها ، والبكر يستأمرها أبوها في نفسها } باعتبار أنه خص الثيب بأنها أحق ، فأفاد أن البكر ليست أحق بنفسها منه فاستفادة ذلك بالمفهوم وهو ليس حجة عندنا ، ولو سلم فلا يعارض المفهوم الصريح الذي ذكرناه من رده ، ولو سلم فنفس نظم باقي الحديث يخالف المفهوم وهو قوله صلى الله عليه وسلم { والبكر يستأمرها } إلخ ، إذ وجوب الاستئمار على ما يفيده لفظ الخبر مناف للإجبار ; لأنه طلب الأمر أو الإذن ، وفائدته الظاهرة ليست إلا ليستعلم رضاها أو عدمه فيعمل على وفقه ، هذا هو الظاهر من طلب الاستئذان فيجب البقاء معه وتقديمه على المفهوم لو عارضه .

والحاصل من لفظ إثبات الأحقية للثيب بنفسها مطلقا ، ثم أثبت مثله للبكر حيث أثبت لها حق أن تستأمر ، وغاية الأمر أنه نص على أحقية كل من الثيب والبكر بلفظ يخصها كأنه قال : الثيب أحق بنفسها والبكر أحق بنفسها أيضا ، غير أنه أفاد أحقية البكر بإخراجه في ضمن إثبات حق الاستئمار لها . وسببه أن البكر لا تخطب إلى نفسها عادة بل إلى وليها ، بخلاف الثيب ، فلما كان الحال أنها أحق بنفسها وخطبتها تقع للولي صرح بإيجاب استئماره إياها فلا يفتات عليها بتزويجها قبل أن يظهر رضاها بالخاطب ، ويعضد هذا المعنى الرواية الأخرى الثابتة في صحيح مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ومالك في الموطإ { الأيم أحق بنفسها من وليها ، والبكر تستأذن في نفسها ، وإذنها صماتها } والأيم من لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا على ما ذكرناه قريبا فإنها صريحة في إثبات الأحقية للبكر ثم تخصيصها بالاستئذان وذلك لما قلناه من السبب وبه تتفق الروايتان ، بخلاف ما مشوا عليه فإنه إثبات المعارضة بينهما وتخصيص المنطوق وهو الأيم لإعمال المفهوم ، مع أن باقي نفس رواية الثيب ظاهرة في خلاف المفهوم على ما قررناه وصريح الرد الذي صح عنه صلى الله عليه وسلم كما مر فلا يجوز العدول عما ذهبنا إليه في تقرير الحديث خصوصا وهو جمع ظاهر لا بطريق الحمل والتخصيص ولا يدفعه قاعدة لغوية ولا أصلية وفي سنن النسائي عن عائشة رضي الله عنها { أنها أخبرت أن فتاة دخلت عليها [ ص: 263 ] فقالت : إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع خسيسته وأنا كارهة ، فقالت اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فأرسل إلى أبيها فجعل الأمر إليها ، فقالت : يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي ، وإنما أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء } وهذا يفيد بعمومه أن ليس له المباشرة حقا ثابتا بل استحباب .

وفيه دليل من جهة تقريره صلى الله عليه وسلم قولها ذلك أيضا ، وهو حديث حجة ، وما قيل هو مرسل ابن أبي بردة فالمرسل حجة وبعد التسليم فليس بصحيح ، فإن سند النسائي قال : حدثنا زياد بن أيوب عن علي بن عراب عن كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة ، ورواه ابن ماجه : حدثنا هناد بن السري حدثنا وكيع عن كهمس بن الحسن عن ابن بريدة عن أبيه قال : جاءت فتاة ، وحمله على أن ذلك لعدم الكفاءة خلاف الأصل مع أن العرب إنما يعتبرون في الكفاءة النسب ، والزوج كان ابن عمها .

وأما الدلالة فلا ولاية له أن يتصرف في أقل شيء من مال البكر البالغة إلا بإذنها ، وكل المال دون النفس فكيف يملك أن يخرجها قسرا إلى من هو أبغض الخلق إليها ويملكه رقها ، ومعلوم أن ذهاب جميع مالها أهون عليها من ذلك فهذا مما ينبو عنه قواعد الشرع .

وأما الاقتضاء فجميع ما في السنة من الصحاح والحسان المصرحة باستئذان البكر ومنع التنفيذ عليها بلا إذنها كما في حديث أبي هريرة { لا تنكح البكر حتى تستأذن } الحديث ، وسيأتي لا يعقل له فائدة إلا العمل على وفقه لاستحالة أن يكون الغرض من استئذانها أن تخالف ، فلو كان الإجبار ثابتا لزم ذلك وعرى الأمر بالاستئذان عن الفائدة بل لزمت الإحالة ، ولما لم يكن الاقتضاء المصطلح قلنا فيما تقدم إنه نوع منه فظهر ظهورا لا مرد له أن إيجاب استئذانها صريح في نفي إجبارها والولاية عليها في ذلك . وأما تحقيق مقصود شرعية العقد فلأن المقصود من شرعيته انتظام المصالح بين الزوجين ليحصل النسل ويتربى بينهما ولا يتحقق هذا مع غاية المنافرة . فإذا عرف قيام سبب انتفاء المقصود الشرعي قبل الشروع وجب أن لا يجوز ; لأنه حينئذ عقد لا يترتب عليه فائدته ظاهرا ، بخلاف ما إذا لم يكن ذلك ظاهرا ثم يطرأ بعد العقد والله سبحانه أعلم .

( قوله وإنما يملك إلخ ) يعني أن العادة جرت بقبض الآباء أصدقة الأبكار ليجهزوهن بها مع أموال أنفسهم من غير معارضة البنات في ذلك لآبائهن ، ولاستحياء البنات من المطالبة والاقتضاء فكان الإذن منهن ثابتا دلالة نظرا إلى ما ذكرنا فعن ذلك يبرأ الزوج بالدفع إليه إلا أن يوجد نهيها صريحا ; لأن الدلالة لا تعتبر مع الصريح بخلاف متعلقها . ومن فروع قبض الأب صداقها أنه لا يملك إلا قبض المسمى حتى لو كانت بيضا لا يلي قبض السود وبالعكس ; لأنه استبدال ولا يملكه . قال الحلواني : هذا مذهب علمائنا ، وعن علماء بلخ أنهم جوزوا ذلك وهو أرفق بالناس . وفي الفتاوى الصغرى : وإن قبض الضياع : يعني بدل المسمى لا يجوز إلا في مكان جرت العادة فيه بذلك كما في رساتيقنا يأخذون ببعض المهر ضياعا ، هذا إذا كانت كبيرة بكرا ، فلو كانت صغيرة جاز قبض الضياع وغيرها مما يختاره ; لأنه بيع والأب يملك بيع مال بنته الصغيرة .

وفي النوازل : وإن كان في بلد يتعارفون قبض الضياع بأضعاف قيمتها جاز ; لأنه قبض المهر بحكم العرف وليس شراء في الحقيقة ، وللأب أن يطالب بالمهر وإن كانت الزوجة صغيرة لا يستمتع بها ، بخلاف النفقة ; لأنها جزاء الاحتباس ، ووجوب المهر حكم نفس العقد .

والجد عند عدم [ ص: 264 ] الأب كالأب ولا يملك غيرهما قبض المهر ولا الأم إلا بحكم الوصاية والزوجة صغيرة ، حتى لو قبضت الأم بلا وصاية فكبرت البنت لها مطالبة الزوج ويرجع هو على الأم ، كذا ذكر . وفي جوامع الفقه زاد : للقاضي قبض صداق البكر صغيرة كانت أو كبيرة إلا إذا زفت . ولو طلب الأب مهرها ، أعني البكر البالغة فقال الزوج دخلت بها : يعني فلا تملك قبضه ; لأنها خرجت عن حكم الأبكار وقال الأب بل هي بكر في منزلي فالقول قول الأب ; لأن الزوج يدعي حادثا بلا بينة ، فإن قال الزوج حلفه أنه لم يعلم أني دخلت بها قال الصدر الشهيد يحتمل أن يحلف وهو صواب ; لأن الأب لو أقر بذلك صح إقراره في حق نفسه حتى لم يكن له أن يطالب بالمهر وكانت المطالبة للبنت فكان التحليف مفيدا . قال : ورأيت في أدب الخصاف بأنه لا يحلف ، ولو طالبت الزوج فادعى دفعه للأب ولا بينة غير أن الأب أقر أنه قبضه إن كانت البنت بكرا وقت الإقرار صدق أو ثيبا فلا ; لأن إقراره حالة البكارة في حال ولاية قبضه بخلاف حال الثيوبة ، ولا يشكل عدم تصديقه حال الثيوبة إذا كانت كبيرة ، فلو كانت صغيرة صدق ، ولو تزوجها صغيرة فدخل بها ثم بلغت فطلبت المهر فقال الزوج دفعته إلى أبيك وأنت صغيرة وصدقه الأب لا يصح إقراره عليها اليوم . ولها أن تأخذ المهر من الزوج ، وليس للزوج أن يرجع على الأب ; لأنه أقر باستحقاقه القبض إلا إن قال عند القبض المهر أخذته منك على أن أبرأتك من صداق بنتي ، فحينئذ له أن يرجع عليه إذا أنكرت

التالي السابق


الخدمات العلمية