صفحة جزء
( فصل في الطلاق قبل الدخول ) ( وإذا طلق رجل امرأته ثلاثا قبل الدخول بها وقعن عليها ) لأن الواقع مصدر محذوف لأن معناه طلاقا ثلاثا [ ص: 55 ] على ما بيناه ، فلم يكن قوله أنت طالق إيقاعا على حدة فيقعن جملة : ( فإن فرق الطلاق بانت بالأولى ولم تقع الثانية والثالثة ) وذلك مثل أن يقول : أنت طالق طالق طالق لأن كل واحدة إيقاع على حدة إذا لم يذكر في آخر كلامه ما يغير صدره حتى يتوقف عليه فتقع الأولى في الحال فتصادفها الثانية وهي مبانة ( وكذا إذا قال لها : أنت طالق [ ص: 56 ] واحدة وواحدة وقعت واحدة ) لما ذكرنا أنها بانت بالأولى ( ولو قال لها : أنت طالق واحدة فماتت قبل قوله واحدة كان باطلا ) لأنه قرن الوصف بالعدد فكان الواقع هو العدد ، فإذا ماتت قبل ذكر العدد فات المحل قبل الإيقاع فبطل ( وكذا لو قال : أنت طالق ثنتين أو ثلاثا ) لما بينا وهذه تجانس ما قبلها من حيث المعنى ( ولو قال : أنت طالق واحدة قبل واحدة أو بعدها واحدة وقعت واحدة ) والأصل أنه متى ذكر شيئين وأدخل بينهما حرف الظرف إن قرنها بهاء الكناية كان صفة للمذكور آخرا كقوله : جاءني زيد قبله عمرو ، وإن لم يقرنها بهاء الكناية كان [ ص: 57 ] صفة للمذكور أولا كقوله : جاءني زيد قبل عمرو ، وإيقاع الطلاق في الماضي إيقاع في الحال لأن الإسناد ليس في وسعه فالقبلية في قوله : أنت طالق واحدة قبل واحدة صفة للأولى فتبين بالأولى فلا تقع الثانية ، والبعدية في قوله بعدها واحدة صفة للأخيرة فحصلت الإبانة بالأولى ( ولو قال : أنت طالق واحدة قبلها واحدة تقع ثنتان ) لأن القبلية صفة للثانية لاتصالها بحرف الكناية فاقتضى إيقاعها في الماضي وإيقاع الأولى في الحال ، غير أن الإيقاع في الماضي إيقاع في الحال أيضا فيقترنان فيقعان ، وكذا إذا قال : أنت طالق واحدة بعد واحدة لأن البعدية صفة للأولى فاقتضى إيقاع الواحدة في الحال وإيقاع الأخرى قبل هذه فتقترنان ( ولو قال : أنت طالق واحدة مع واحدة أو معها واحدة تقع ثنتان ) لأن كلمة مع للقران . وعن أبي يوسف في قوله : معها واحدة أنه تقع واحدة [ ص: 58 ] لأن الكناية تقتضي سبق المكنى عنه لا محالة ، وفي المدخول بها تقع ثنتان في الوجوه كلها لقيام المحلية بعد وقوع الأولى


لما كان النكاح للدخول كان الطلاق بعده على الأصل لأن الأصل حصول غرض الشيء بعد وجوده وقبله بالعوارض فقدم ما بالأصل على ما بالعوارض ( قوله : وإذا طلق الرجل امرأته ثلاثا قبل الدخول وقعن عليها لأن الواقع مصدر محذوف لأن معناه طلاقا ) أي تطليقا ثلاثا على ما بيناه في الفصل ، وفي باب إيقاع الطلاق أن [ ص: 55 ] الواقع عند أنت طالق مصدر هو تطليق يثبت مقتضى وهو الموصوف بالعدد وطلاقها أثره ، وبه دفع قول الحسن البصري وعطاء وجابر بن زيد أنه لا يقع عليها واحدة لبينونتها بطالق ولا يؤثر العدد شيئا . ونص محمد قال : إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا جميعا فقد خالف السنة وأثم بربه وإن دخل بها أو لم يدخل سواء ، ثم قال : بلغنا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وعن علي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين ، ولا ينافي قول الإنشاء أن يكون عند ذكر العدد يتوقف الوقوع على ذكر العدد وكونه وصفا لمحذوف ، أما لو قال : أوقعت عليك ثلاث تطليقات فإنه يقع الثلاث عند الكل .

( قوله : وإن فرق الطلاق بانت بالأولى ولم تقع الثانية ) وذلك كقوله : أنت طالق طالق طالق لأنه ليس في آخر الكلام ما يغير أوله ليتوقف أوله فلم يقع بطالق الأول شيء . فإن قيل : لو قال بالواو طالق وطالق وطالق أو طالق واحدة وواحدة وواحدة فالحكم كذلك مع أن الواو للجمع وهو يغير حكم التفريق إذ الحاصل به كالحاصل بطالق ثلاثا ، وحكمهما مختلف لأن في التفريق تبين بواحدة فينبغي أن يتوقف الصدر فيقع الثلاث كما قال مالك وأحمد .

قلنا : الجمع الذي يباين التفريق حكما هو الجمع بمعنى المعية المغير له كلفظ ثلاثا ونحوه ، وليس الواو للجمع بهذا المعنى بل لجمع المتعاطفات في معنى العامل أعم من كونه على وجه المعية وعلى تقدم بعض المتعاطفات بها في تعلق معنى العامل به وتأخره وكل من الجمع بمعنى المعية ومن الجمع بمعنى ترتب المتعاطفات على الترتب اللفظي ، وعكسه أفراده ، ولا دلالة للأعم على الأخص فليس للواو دلالة على الجمع بمعنى المعية بل تصدق معه كما تصدق مع التعاقب في التعلق فلم يكن ذكرها بالضرورة ذكر مغير لعدم الدلالة على ما يوجب التغيير وهو المعية ، ولأن الحكم بتوقف الصدر يتوقف على الحكم بأنها في التركيب للمعية . وإذا علمت أنها لا تتعرض إلا للقدر المشترك لم يجب اعتبارها للفرد الذي هو المعية بعينه ، وليس هو بأولى من اعتبارها للفرد الذي هو التعاقب في معنى العامل ، وبعدم اعتبارها للمعية يعمل كل لفظ عمله فتبين بالأولى فلا يقع ما بعدها غير متوقف ذلك على اعتبارها للترتيب . فاندفع ما قيل : لو لم يتوقف لعدم اعتبارها للمعية لزم اعتبارها للترتيب .

وأما وقوع الثلاث على غير المدخول بها إذا قال : أنت طالق إحدى وعشرين ووقوع الثنتين في قوله لها : أنت طالق واحدة ونصف واحدة فليس للتوقف بسبب إيجاب الواو المعية بل لأنه أخصر ما يلفظ به إذا أراد الإيقاع بهذه [ ص: 56 ] الطريقة ، وهو مختار في التعبير لغة وإن لم يكن مختارا في إحدى وعشرين شرعا إلا أن الشرع لم ينف حكمه إذا تكلم به . وذكر شمس الأئمة في المسألة خلاف زفر فلا يقع عنده إلا واحدة لوجود العطف فيسبق الواقع الأول ، أما لو قال : أنت طالق إحدى عشر فإنه يقع الثلاث بالاتفاق لعدم العاطف ووقوع الثلاث عليها إذا قال لها : أنت طالق ثلاثا إن شئت فقالت : شئت واحدة وواحدة وواحدة لأن تمام الشرط بآخر كلامها ، وما لم يتم الشرط لا يقع الجزاء .

واعلم أن شمس الأئمة حكى بين أبي يوسف ومحمد خلافا في نحو أنت طالق وطالق وطالق أن عند أبي يوسف تبين قبل أن يفرغ من الكلام الثاني ، وعند محمد بعد فراغه منه لجواز أن يلحق بكلامه شرطا أو استثناء ورجح في أصوله قول أبي يوسف أنه ما لم يقع الطلاق لا يفوت المحل ، فلو توقف وقوع الأولى على التكلم بالثانية لوقعا جميعا لوجود المحل للثلاث حال التكلم بها . ولا يخفى أن النظر إلى تعليل محمد بتجويز أن يلحقه مغير يفيد أن المراد تأخر ظهور وقت الوقوع فإن مقتضاه إنما هو أنه إذا ألحق تبين عدم الوقوع ، وإذا لم يلحق تبين الوقوع من حين تلفظ بالأول ، وهذا لا ينفيه أبو يوسف فلا خلاف في المعنى بينهما ( قوله : وهذه ) أي المسائل الثلاث ( تجانس ما قبلها من حيث المعنى ) وهو فوات المحل عند الإيقاع فلا يقع شيء غير أن فواته في هذه بالموت فلا يقع شيء كما لو قال : أنت طالق إن شاء الله فماتت قبل أن يقول إن شاء الله لا يقع عليها شيء وفيما قبلها بالطلاق فيقع الأول دون ما بعده ( قوله : ولو قال : أنت طالق واحدة قبل واحدة أو بعدها واحدة وقعت واحدة ، والأصل فيه أنه إذا ذكر شيئين وأدخل بينهما ظرفا إن قرنها بهاء الكناية ) أي أضيفت كلمة الظرف إلى ضمير [ ص: 57 ] الأول كانت صفة للمذكور آخرا كجاءني زيد قبله عمرو ، وإن لم يقرنها بها بل أضيفت إلى ظاهر كجاء زيد قبل عمرو كان صفة للأول بالضرورة ولأنها حينئذ خبر عنه .

أما إذا قرن بها ارتفع عمرو المتأخر بالابتداء ويكون الظرف خبره والخبر وصف للمبتدإ ، وحينئذ القبلية في واحدة قبل واحدة صفة للأولى فتطلق واحدة تقع قبل الثانية المذكورة في اللفظ : أعني المضاف إليها لفظة " قبل " قد يلحقها الثانية ، وفي قبلها واحدة صفة للأخيرة لأنها المبتدأ المخبر بالظرف عنه والجملة موصوف بمضمونها واحدة الأولى فقد أوقع واحدة موصوفة بقبلية أخرى لها ، ولا يقدر عليه إذ لم يكن في الواقع لها وجود سابق على الموقعة فيحكم أن الإيقاع في الماضي إيقاع في الحال فيقترنان فيقعان .

وإذا كان الظرف لفظة بعد ففي واحدة بعد واحدة يكون صفة للأولى فقد أوقع واحدة موصوفة بأنها بعد أخرى وهو معنى قبلية أخرى لها ، ولا قدرة على تقديم ما لم يسبق للوجود على الموجود فيقترنان بحكم أن الإيقاع في الماضي إيقاع في الحال فيقعان ، وفي واحدة بعدها واحدة أوقع واحدة موصوفة ببعدية أخرى لها فوقعت الأولى قبلها فلا تلحق الثانية غير المدخول بها . وأما إذا قال واحدة معها واحدة أو مع واحدة فلا فرق في الحاصل لأن مع للقران فيتوقف الأول على الثاني تحقيقا لمعناها . وعن أبي يوسف في قوله معها واحدة تقع واحدة لأن الكناية تستدعي سبق المكنى عنه .

قلنا : وقد وجد وهي واحدة التي هو مرجع الضمير إذ قد سبق لفظها غير أنه يجب التوقف لاتصال المغير وهو المعية المانعة من انفراد السابق الحكم الذي هو مقتضاه من حيث هو منفرد لفظا وإن عنى سبق وجوده فممنوع ، ومن مسائل قبل وبعد ما قيل منظوما :

في فتى علق الطلاق بشهر قبل ما بعد قبله رمضان

[ ص: 58 ] وصوره ثلاث : لأنه إما أن يكون جميع ما ذكر بلفظ " قبل " أو جميعه بلفظ بعد أو جمع بينهما ، ففي الجمع كالبيت يلغي قبل ببعد فيبقى شهر قبله رمضان فيقع في شوال ، وفي نحوه ثلاث صور أخرى وذلك لأنه لا يخلو من أنه إذا كرر لفظة قبل مرة واحدة أن يتخلل بينهما بعد كما في البيت وقد عرفت حكمه . أو لا يتخلل بل يكون المذكور محض قبل نحو في شهر قبل ما قبل قبله رمضان فيقع في ذي الحجة ، ومن أنه إذا كرر لفظة بعد مرة واحدة أن يتخلل بينهما قبل قلب البيت . وحكمه أنه يلغي بعد بقبل فيبقى شهر بعد رمضان فيقع في شعبان ، أو لا يتخلل بل المذكور محض بعد نحو في شهر بعد ما بعد بعده رمضان فيقع في جمادى الآخرة ( قوله : وفي المدخول بها ) يعني أن ما ذكرناه من التفصيل في : قبل واحدة وقبلها واحدة وبعد واحدة وبعدها واحدة هو في غير المدخول بها . أما في المدخول بها فيقع ثنتان في الوجوه كلها : أي في قبل واحدة وقبلها واحدة وبعد واحدة وبعدها واحدة . واستشكل في واحدة قبل واحدة لأن كون الشيء قبل غيره لا يقتضي وجود ذلك الغير على ما ذكر محمد في الزيادات نحو قوله تعالى { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } { لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي } وقول النبي صلى الله عليه وسلم { خللوا أصابعكم قبل أن يتخللها نار جهنم } وأجيب بأن اللفظ أشعر بالوقوع وكون الشيء قبل غيره يقتضي وجود ذلك الغير ظاهرا وإن لم يستدعه لا محالة ، والعمل بالظاهر واجب ما أمكن .

التالي السابق


الخدمات العلمية