صفحة جزء
قال ( ويستحب أن يشهد على الرجعة شاهدين ، [ ص: 162 ] فإن لم يشهد صحت الرجعة ) وقال الشافعي رحمه الله في أحد قوليه لا تصح ، وهو قول مالك رحمه الله لقوله تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } والأمر للإيجاب . ولنا إطلاق النصوص عن قيد الإشهاد ، ولأنه استدامة للنكاح ، والشهادة ليست شرطا فيه في حالة البقاء كما في الفيء في الإيلاء ، إلا أنها تستحب لزيادة الاحتياط كي لا يجري التناكر فيها ، وما تلاه محمول عليه ; ألا ترى أنه قرنها بالمفارقة وهو فيها مستحب [ ص: 163 ] ويستحب أن يعلمها كي لا تقع في المعصية ( وإذا انقضت العدة فقال كنت راجعتها في العدة فصدقته فهي رجعة ، وإن كذبته فالقول قولها ) لأنه أخبر عما لا يملك إنشاءه في الحال فكان متهما إلا أن بالتصديق ترتفع التهمة ، ولا يمين عليها عند أبي حنيفة رحمه الله ، وهي مسألة الاستحلاف في الأشياء الستة وقد مر في كتاب النكاح


ويستحب أن يشهد على الرجعة شاهدين ( قوله وهو قول مالك ) المذكور في كتبهم أنها تصح بلا إشهاد وأنه مندوب إليه ، وكذا في شرح الطحاوي كقولنا فكان ما ذكره المصنف رواية عنه ، وكذا المنسوب إلى الشافعي قول له غير معمول به عند أصحابه فإنه قال في البسيط وفي الجديد للشافعي : الإشهاد مستحب ، وفي الروضة لهم ليس بشرط على الأظهر ( قوله ولنا إطلاق النصوص في الرجعة من غير شرط الإشهاد ) كقوله تعالى { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وقوله { فأمسكوهن بمعروف } وقوله تعالى { وبعولتهن أحق بردهن } وقوله { فلا جناح عليهما أن يتراجعا } وقوله صلى الله عليه وسلم { مر ابنك فليراجعها } وهذه النصوص ساكتة عن قيد الإشهاد فاشتراطه إثبات بلا دليل وما تلي فليس بدليل عليه إذ الأمر فيه للندب بدليل أنه قرن الرجعة بالمفارقة في قوله تعالى { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } ثم أمر بالإشهاد على كل منهما فقد أمر بشيئين في جملتين ثم أمر بالإشهاد على كل منهما بلفظ واحد وهو قوله { وأشهدوا ذوي عدل منكم } واللفظ الواحد لا يراد به معناه الحقيقي كالوجوب فيما نحن فيه والمجازي كالندب ، فإذا ثبت إرادة أحدهما بالنسبة إلى أحدهما لزم أن يراد به ذلك أيضا بالنسبة إلى الآخر وإلا لزم تعميم اللفظ في الحقيقي والمجازي وهو ممنوع عندنا وقد ثبت إرادة الندب به بالنسبة إلى المفارقة فلزم إرادته أيضا بالنسبة إلى المراجعة ، فيكون الندب المراد به شاملا لهما وهذا على قولنا .

أما الشافعي فيجيز الجمع بينهما فلا ينتهض هذا عليه إلا بانتهاض الأصل المذكور ، وقد بيناه على وجه بديع فيما كتبناه في الأصول ، ومع هذا التقرير لا حاجة [ ص: 163 ] إلى إيراد أن القران في النظم لا يوجب القران في الحكم فكيف قلتم به هنا والاشتغال بجوابه للمتأمل أصلا ؟ ( قوله كي لا تقع في المعصية ) قيل عليه لا معصية بدون علمها بالرجعة .

ودفع بأنها إذا تزوجت بغير سؤال تقع في المعصية لتقصيرها في الأمر .

واستشكل من حيث إن هذا إيجاب للسؤال عليها وإثبات المعصية بالعمل بما ظهر عندها ، وليس السؤال إلا لدفع ما هو متوهم الوجود بعد تحقق عدمه فهو وزان إعلامه إياها إذ هو أيضا لمثل ذلك ، فإذا كان مستحبا لأنه تصرف في خالص حقه فكذا سؤالها يكون مستحبا لأنها في النكاح كذلك ، ولو راجعها ولم تعلم فتزوجت بآخر فهي امرأة الأول دخل بها الأول

أو لا ( قوله وإذا انقضت العدة إلخ ) هنا مسألتان : الأولى إذا لم يظهر رجعتها في العدة حتى انقضت فقال بعد العلم بانقضائها كنت راجعتك فيها .

والثانية قال قبل العلم راجعتك على سبيل الإنشاء .

أما الأولى فإما أن تكون المرأة أمة أو حرة ، وكل منهما إما أن تصدقه أو تكذبه ، [ ص: 164 ] ففي الحرة إن صدقته تثبت الرجعة لأن النكاح يثبت بتصادقهما فالرجعة أولى ، وإن كذبته لا تثبت لأنه أخبر والخبر مجرد دعوى تملك بضعها بعد ظهور انقطاع ملكه ، ومجرد دعوى ملك في وقت لا يملك إنشاءه فيه لا يجوز قبولها مع إنكار المدعى عليه إلا ببينة ، بخلاف ما إذا كان ذلك في وقت يمكنه فيه إنشاؤه كأن يقول في العدة كنت راجعتك أمس تثبت وإن كذبته لأنه ليس متهما فيه لتمكنه من أن ينشئه في الحال أو يجعل ذلك إنشاء إن كانت الصيغة تحتمله ، فصار كالوكيل إذا أخبر قبل العزل ببيع العين يصدق لملكه الإنشاء ، وبعد ما بلغه العزل لو أخبر ببيعه سابقا وكذبه المالك لا يقبل قوله إلا ببينة لأنه متهم حيث لم يخبر قبل ذلك ، ثم لا تحلف المرأة إذا كذبته بل تذهب إلى حالها بلا يمين عند أبي حنيفة ، وهي إحدى الأشياء الستة التي لا يمين فيها عنده وفي الأمة إذا كذبته وصدقه المولى فالقول لها عند أبي حنيفة خلافا لهما ، وإن صدقته وكذبه المولى فعندهما القول للمولى .

واختلف في قول أبي حنيفة ، والصحيح أنه كقولهما ، وستأتي أوجه الأقوال في الكتاب فإنه فصل بين قوله للحرة وبين قوله للأمة بالمسألة الثانية ، وهي إذا قال قبل الانقضاء فلنوافقه فنقول : وأما المسألة الثانية ، فإن قالت مجيبة انقضت عدتي مفصولا تثبت الرجعة اتفاقا لأنها متهمة في ذلك بسبب سكوتها وعدم جوابها على الفور .

ولو قيل وجب إحالته على أقرب حال التكلم وذلك حال سكوتها فيضاف إليه وهو بعد ثبوت الرجعة أمكن ، وإن قالته موصولا بكلامه لا تثبت عند أبي حنيفة .

ولا يخفى أن هذا مقيد بما إذا كانت المدة تحتمل الانقضاء ، فلو لم تحتمله تثبت الرجعة إلا إذا ادعت أنها ولدت وثبت ذلك .

وعندهما تصح الرجعة لأنه أنشأها حال قيام العدة ظاهرا لبقائها ظاهرا ما لم تقر بانقضائها فتثبت كما يثبت الطلاق لو قال طلقتك فقالت مجيبة انقضت عدتي لحقها طلقة أخرى ، وأبو حنيفة يمنع قيامها حال كلامه لأنها أمينة في الإخبار شرعا فوجب قبول إخبارها وأقرب زمان يحال عليه خبرها زمان تكلمه فتكون الرجعة مقارنة لانقضاء العدة فلا تصح ، كما لا يقع الطلاق في قوله طالق مع انقضاء عدتك ، وعلى هذا لو اتفق أن خرج كلام الرجل مع قولها انقضت عدتي ينبغي أن لا تثبت الرجعة ، ومسألة الطلاق المقيس لهما عليها ممنوعة فلا يقع عنده .

قيل والأصح أنه يقع لأنه مؤاخذ به لإقراره بالوقوع في حق نفسه ، ولا يخفى أن هذا إنشاء وليس بإخبار ليكون إقرارا ، فإذا ظهر أنه أنشأ في وقت لا يصح ينبغي أن لا يقع .

نعم لو عرف أن [ ص: 165 ] مقتضى الفقه كون إيقاعه وجد في حال الانقضاء فلج وقال لا أعتبر هذا بل وقع لزمه حينئذ لأنه مقر على نفسه والأوجه فيما إذا ادعى صحيته إن طلقتك ونحوه من أنت طالق ظاهر في الإخبار والإنشاء يحتمله لتقدم الطلاق الأول وراجعتك بالعكس .

فإن لم يسلم هذا فالتعويل على المنع ، وتستحلف المرأة هنا بالإجماع على أن عدتها كانت منقضية حال إخبارها .

والفرق لأبي حنيفة بين هذه وبين الرجعة حيث لم تستحلف عنده أنه لم يراجعها في العدة أن إلزام اليمين لفائدة النكول وهو بذل عنده وبذل الامتناع عن التزوج والاحتباس في منزل الزوج جائز ، بخلاف الرجعة وغيرها من الأشياء الستة فإن بذلها لا يجوز ، ثم إذا نكلت هنا تثبت الرجعة بناء على ثبوت العدة لنكولها ضرورة كثبوت النسب بشهادة القابلة بناء على شهادتها بالولادة .

التالي السابق


الخدمات العلمية