صفحة جزء
قال ( وإذا التعنا لا تقع الفرقة حتى يفرق الحاكم بينهما )

[ ص: 286 ] وقال زفر : تقع بتلاعنهما لأنه تثبت الحرمة المؤبدة بالحديث . ولنا أن ثبوت الحرمة يفوت الإمساك بالمعروف فيلزمه التسريح بالإحسان ، فإذا امتنع ناب القاضي منابه دفعا للظلم ، دل عليه قول ذلك الملاعن عند النبي صلى الله عليه وسلم : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، هي طالق ثلاثا ، قاله بعد اللعان ( وتكون الفرقة تطليقة بائنة عند أبي حنيفة ومحمد ) رحمهما الله لأن فعل القاضي انتسب إليه كما في العنين

[ ص: 287 - 288 ] ( وهو خاطب إذا أكذب نفسه ) عندهما . وقال أبو يوسف : هو تحريم مؤبد لقوله عليه الصلاة والسلام { المتلاعنان لا يجتمعان أبدا } نص على التأبيد . ولهما أن الإكذاب رجوع والشهادة بعد الرجوع لا حكم لها ، لا يجتمعان ما داما متلاعنين ، ولم يبق التلاعن ولا حكمه بعد الإكذاب فيجتمعان


( قوله لا تقع الفرقة ) حتى لو مات أحدهما قبل تفريق القاضي ورثه [ ص: 286 ] الآخر ، ولو زالت أهلية اللعان في هذه الحالة بما لا يرجى زواله بأن أكذب نفسه أو قذف أحدهما إنسانا فحد للقذف ، أو وطئت هي وطئا حراما أو خرس أحدهما لم يفرق بينهما ، بخلاف ما إذا جن قبل التفريق حيث يفرق بينهما لأنه يرجى عود الإحصان ، ولو ظاهر منها في هذه الحالة أو طلقها أو آلى منها صح لبقاء النكاح غير أن وطأها محرم كما ستعلم ، ولو فرق القاضي بينهما بعد التعانهما ثلاثا خطأ نفذ تفريقه عندنا .

وعند زفر وبقية الأئمة لا ينفذ ( قوله بالحديث ) يشير به إلى حديث { المتلاعنان لا يجتمعان أبدا } فإنه يفيد تعلق عدم الاجتماع باللعان كما هو المعروف من أن ترتيب الحكم على مشتق يفيد أن مبدأ اشتقاقه علة له ، وسيأتي الكلام على هذا الحديث . وقال الشافعي رحمه الله : بمجرد لعان الزوج تثبت الفرقة بينهما ، ولا نعلم له في ذلك دليلا مستلزما لوقوع الفرقة بمجرد لعانه .

قيل وينبغي على هذا أن لا تلاعن المرأة أصلا لأنها ليست زوجة ، والتمسك بمروي زفر إنما يفيد حرمتها بلعانهما لا بلعان أحدهما ، وهذا لأن حقيقته حال اشتغالهما باللعان وهو لا يدخل في الوجود جملة بل على [ ص: 287 ] التعاقب فتعذر إرادتها ، وأقرب الأوقات إلى حقيقة ما يعقب فراغهما من غير مهلة فاعتبرناه وبه نقول ، وليس بلازم من حرمتها وقوع الفرقة ، وما ذكروه من المعنى وهو أنهما لا يأتلفان بعد اللعن فليس بقطعي في ذلك بل ولا ظاهر ، بل يجوز حدوث الألفة بعد غاية العداوة كما يجوز بقاء العداوة ، ولو كان ظاهرا لم يقتض وقوع الفرقة بل يوجب عليه التسريح بإحسان ، فإنه بثبوت الحرمة فات الإمساك بمعروف فيؤمر بالتسريح بإحسان ، كما فيما إذا ثبتت الحرمة بالظهار فإنها إذا طالبته أمره القاضي بالتسريح أو التكفير إلا أن الظلم هنا لا ينتهي بكل من الأمرين بل بأمر واحد هو الطلاق فينحصر أمره فيه ، فإذا امتنع ناب منابه لأنه نصب لدفع الظلم ، ويدل على هذا ما في الصحيحين عن ابن عمر { أن رجلا لاعن امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بأمه } .

وما أخرجاه أيضا في حديث عويمر العجلاني { لما فرغا من لعانهما قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها عويمر ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم } . وهو الذي عنى المصنف بقوله يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لذلك الملاعن إلى آخره ، لكن الصواب ما علمت أن القائل هو الرجل نفسه وكذبت بضم التاء على المتكلم . قال ابن شهاب : فكانت سنة المتلاعنين .

ورواه أبو داود { وقال : فطلقها ثلاث تطليقات فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ما صنع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة } . { قال سهل : حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا } . قال البيهقي : قال الشافعي : إن عويمرا حين طلقها ثلاثا كان جاهلا بأن اللعان فرقة فصار كمن شرط الضمان في السلف وهو يلزمه شرط أو لم يشرط ، وتفريق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر تفريق حكم لا لفرقة الزوج . وقول الزهري وسهل : فكانت سنة المتلاعنين : أي الفرقة .

قال البيهقي : والذي يدل على ذلك ما أخرجه أبو داود في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة هلال بن أمية ولعانه قال : { وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ليس لها عليه قوت ولا سكنى من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق ولا متوفى عنها } وأجيب بأنه لو وقعت الفرقة بمجرد اللعان لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم تطليقه ، وقوله صلى الله عليه وسلم { لا سبيل لك عليها } إنما هو إنكار طلب ماله منها على ما يدل عليه تمام الحديث وهو قوله { يا رسول الله مالي ، قال : لا مال لك ، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها } فدل تفريقه صلى الله عليه وسلم على وقوع الطلاق ، فلا يعارضه قول ابن عباس رضي الله عنهما من أجل أنهما يفترقان بغير طلاق فإنه من قوله .

وقد يقال ليس هذا مما يكون ترك الإنكار فيه حجة لأنا لم ندع فيه أنه محرم حتى يكون ترك الإنكار فيه حجة علينا ، إنما ادعينا أنه وقع لغوا فالسكوت عدم الالتفات إليه . ويجاب بأنه يستلزم مفسدة حينئذ لأن السكوت يفيد تقريره وأنه الواقع ، فلو كان الواقع ، وقوع الفرقة قبله كان السكوت مفضيا إلى المفاسد لأنه يفيد تقرير وقوعه الآن فيستلزم فيما لو فرض عدم طلاقه أو تأخيره الطلاق حتى اعترض موت أحدهما أو تكذيبه نفسه قبل طلاقه وطلاق القاضي حتى ظن حلها فيجامعها قبل تجديد النكاح وتوريث الآخر ، والواقع أن الفرقة وقعت قبله فلا يجوز السكوت مع الإفضاء إلى مثل هذا ، فإن دفع بأن المدة التي يتوهم فيها وقوع الموت يسيرة جدا إذ الفرض أن بمجرد الفراغ عندنا يأمره القاضي أن يطلق ، فإن أبى طلق هو والموت في مثلها أندر نادر .

قلنا : ولو كان لا يجوز لأنه ترك هو علامة حكم وليس هو مشروعا ، وأيضا فحديث ابن عمر فإنه قال فيه فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعني أمضى ذلك الطلاق ، وهو حجة على من قال : إن الطلاق الثلاث لا يقع أو تقع واحدة ; ثم هو أولى من حديث ابن عباس لأنه رفض إمضاءه [ ص: 288 ] صلى الله عليه وسلم الطلاق ، وذلك إنما يكون بمفهم اعتبار ذلك منه صلى الله عليه وسلم ( قوله وهو خاطب إلخ ) يعني إذا أكذب نفسه بعد اللعان والتفريق وحد أو لم يحد صار خاطبا من الخطبة يحل له تزوجها خلافا لأبي يوسف ، ولو أكذب نفسه بعد اللعان قبل التفريق حلت له من غير تجديد عقد النكاح كذا في الغاية .

ولو أكذب نفسه قبل اللعان نظر ، فإن لم يطلقها قبل الإكذاب حد أيضا ، وإن أبانها ثم أكذب نفسه فلا حد عليه ولا لعان لأن اللعان أثره التفريق بينهما وهو لا يتأتى بعد البينونة ، ولا يجب الحد لأن قذفه وقع موجبا للعان فلا ينقلب موجبا للحد لأن القذف الواحد لا يوجب حدين ، بخلاف إكذاب نفسه بعد اللعان لأن حده حينئذ للقذف الذي تضمنه كلمات اللعان لا القذف الأول لأنه أخذ حكمه من اللعان ، ولذا يحد شهود الزنا إذا رجعوا لتضمن شهادتهم نسبته إلى الزنا ، وعلى هذا لو قال يا زانية أنت طالق ثلاثا لا يجب عليه الحد ولا اللعان لأنه قذفها وهي زوجة ثم بانت ، ولو قال أنت طالق ثلاثا يا زانية حد ، وكما تحل له بإكذاب نفسه بعد اللعان كذلك تحل له لو قذفت شخصا أجنبيا بعده فحدت أو قذف هو أجنبيا فحد أو زنت أو ارتد أحدهما حتى خرج بذلك أحدهما من أن يكون أهلا للشهادة لارتفاع السبب الذي لأجله افترق المتلاعنان ، وهو على ما قالوا أنه كي لا يتكرر اللعان بأن يقذفها مرة أخرى وهو لم يشرع بين الزوجين إلا مرة في العمر أو بخلو القذف عن الموجب في الدنيا ، فبخروج أحدهما عن الأهلية وقع الأمن من ذلك .

وقال أبو يوسف رحمه الله : إذا افترق المتلاعنان فلا يجتمعان أبدا ، فيثبت بينهما حرمة مؤبدة كحرمة الرضاع . وبه قالت الأئمة الثلاثة . وإذا كانت حرمة مؤبدة لا تكون طلاقا بل فسخا ، ويلزم على قول أبي يوسف أنه لا يتوقف على تفريق القاضي لأن الحرمة ثابتة قبله اتفاقا ، وكذا الخلاف في كون الزوجية قائمة معها كما تكون بالظهار أو زالت ، فإذا فرض أن هذه الحرمة من حين تثبت تثبت مؤبدة لم يتصور توقفها على تفريق القاضي . واستدلوا بالحديث المذكور في الكتاب .

وروى الدارقطني بسنده من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان أبدا } وقد طعن الشيخ أبو بكر الرازي في ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن قال صاحب التنقيح : إسناده جيد . ومفهوم شرطه يستلزم أنهما لا يفترقان بمجرد اللعان للمتأمل ، فهو حجة على الشافعي على مقتضى رأيه .

وأخرجه الدارقطني أيضا موقوفا عن علي وابن مسعود قالا : { مضت السنة المتلاعنان لا يجتمعان أبدا } . وروى عبد الرزاق عن عمر [ ص: 289 ] وابن مسعود : { المتلاعنان لا يجتمعان أبدا } .

ورواه ابن أبي شيبة موقوفا على عمر وابن عمر وابن مسعود . أجاب المصنف بقوله : ولا يجتمعان ما داما متلاعنين ، ولم يبق التلاعن ولا حكمه : يعني أن الحكم في هذه القضية بعدم الاجتماع بشرط وصفية الموضوع فهي القضية المسماة بالمشروطة ، ولم يبقيا بمجرد الفراغ من اللعان متلاعنين فلم يبق اللعان حقيقة ولا حكما بالإكذاب لنفسه لثبوت النسب إن كان القذف بنفي الولد ولزوم الحد .

وحكمه عدمه فقد انتفت اللوازم الشرعية ، وذلك يستلزم انتفاء ملزومها شرعا فينتفي الحكم المذكور وهو عدم حل الاجتماع فثبت نقيضه وهو حل الاجتماع ، وهذا بناء على أن المراد بلفظ المتلاعنين من بينهما تلاعن قائم حكما لما قدمناه من أن إرادتهما باعتبار قيام التلاعن حقيقة متعذر ، ولا شك أنه يثبت قيام التلاعن حكما بتقدير أن يراد من وجد بينهما تلاعن في الخارج ، وعلى هذا التقدير لا يجتمعان بعد الإكذاب إذ ارتفاع حكمه وقطع اعتباره قائما شرعا عند الإكذاب لا يوجب ارتفاع كونه قد تحقق له وجود في الخارج ، ولكن بقي النظر في أي الاحتمالين أرجح ، وأظن أن الثاني أسرع إلى الفهم ، والله أعلم .

وأما ما استدل به من المعنى وهو لزوم العداوة والضغينة بحيث يمتنع حصول الانتظام فقدمنا منعه ، وما ذكره بعضهم من أنه سبب تأبد الحرمة كون أحدهما صار ملعونا أو مغضوبا عليه فما أبعده عن الفقه ، إذ لا شك في بقاء إسلام كل منهما غير أنه صنع كبيرة تصح منها التوبة بفضل ذي الفضل جل جلاله ، وهذا القدر لا يمنع التناكح

التالي السابق


الخدمات العلمية