صفحة جزء
باب العبد يعتق بعضه ( وإذا أعتق المولى بعض عبده ) عتق ذلك القدر ويسعى في بقية قيمته لمولاه عند أبي حنيفة رحمه الله ، وقالا : [ ص: 458 ] ( يعتق كله ) وأصله أن الإعتاق يتجزأ عنده فيقتصر على ما أعتق وعندهما لا يتجزأ وهو قول الشافعي رحمه الله ، فإضافته إلى البعض كإضافته إلى الكل فلهذا يعتق كله . لهم أن الإعتاق إثبات العتق وهو قوة حكمية ، وإثباتها بإزالة ضدها وهو الرق الذي هو ضعف حكمي وهما لا يتجزآن فصار كالطلاق والعفو عن القصاص والاستيلاد . ولأبي حنيفة رحمه الله أن الإعتاق إثبات العتق بإزالة الملك ، أو هو إزالة الملك لأن الملك حقه والرق حق الشرع أو حق العامة . وحكم التصرف ما يدخل تحت ولاية المتصرف وهو إزالة حقه لا حق غيره . والأصل أن التصرف [ ص: 459 ] يقتصر على موضع الإضافة والتعدي إلى ما وراءه ضرورة عدم التجزيء ، والملك متجزئ كما في البيع والهبة فيبقى على الأصل ، وتجب السعاية لاحتباس مالية البعض عند العبد ، والمستسعى بمنزلة المكاتب عنده لأن الإضافة إلى البعض توجب ثبوت الملكية في كله ، وبقاء الملك في بعضه يمنعه ، فعملنا بالدليلين بإنزاله مكاتبا إذ هو مالك يد إلا رقبة ، والسعاية كبدل الكتابة ، فله أن يستسعيه . وله خيار أن يعتقه لأن المكاتب قابل للإعتاق ، غير أنه إذا عجز لا يرد إلى الرق لأنه إسقاط لا إلى أحد فلا يقبل الفسخ ، بخلاف الكتابة المقصودة لأنه عقد يقال [ ص: 460 ] ويفسخ ، وليس في الطلاق والعفو عن القصاص حالة متوسطة ، فأثبتناه في الكل ترجيحا للمحرم ، والاستيلاد متجزئ عنده ، حتى لو استولد نصيبه من مدبرة يقتصر عليه . وفي القنة لما ضمن نصيب صاحبه بالإفساد ملكه [ ص: 461 - 462 ] بالضمان فكمل الاستيلاد .


( باب العبد يعتق بعضه )

لا شك في كثرة وقوع عتق الكل وندرة عتق البعض ، وفي أن ما كثر وجوده فالحاجة إلى بيان أحكامه أمس منها إلى ما يندر وجوده ، وأن دفع الحاجة الماسة مقدم على النادرة فلذا أخر هذا عما قبله .

( قوله وإذا أعتق المولى بعض عبده عتق ذلك القدر ويسعى في بقية قيمته لمولاه عند أبي حنيفة ) وتعتبر قيمته في الحال ، والاستسعاء أن [ ص: 458 ] يؤاجره فيأخذ نصف قيمته من الأجرة . ذكره في جوامع الفقه ، وسيجيء أنه إذا امتنع عن السعاية فعل ذلك إذا [ ص: 459 ] كان له عمل معروف ، وهو يفيد أن معنى الاستسعاء غير هذا ، وإنما يصار إليه عند امتناعه فتكون الإجازة تنفذ عليه جبرا ، وظاهر أن هذا إذا عين مقدارا كربعك حر ونحوه ، فلو قال بعضك حر أو جزء منك أو شقص أمر بالبيان ، ولو قال : سهم منك حر فقياسه في قول أبي حنيفة أن يعتق سدسه كما في الوصية بالسهم من عبده فيسعى في خمسة أسداسه .

وقوله : عتق ذلك القدر تعبير بالعتق عن زوال الملك لا عن زوال الرق فإنه عند أبي حنيفة رقيق كله بخلافه في قول المصنف ، وقالا : يعتق كله فإنه عن زوال الرق : أي وقالا يزول الرق عنه كله .

ثم قال المصنف رحمه الله بعد : وأصله أن الإعتاق يتجزأ عنده فيقتصر على ما أعتق : وعندهما لا يتجزأ وهو قول [ ص: 460 ] الشافعي : يعني فيما إذا كان المولى واحدا أو كان لشريكين والمعتق موسر ، أما إذا كان لشريكين والمعتق معسر فيبقى ملك الساكت كما كان حتى جاز له بيعه عنده والمراد من تجزيء الإعتاق تجزيء المحل في قبول حكمه فيثبت في البعض دون البعض .

والذي يقتضيه النظر أن هذا غلط في تحرير محل النزاع ، فإنهم لم يتواردوا على محل واحد في التجزيء وعدمه ، فإن القائل العتق أو الإعتاق يتجزأ لم يرده بالمعنى الذي يريده به قائل إنه لا يتجزأ وهو زوال الرق أو إزالته إذ لا خلاف بينهم في عدم تجزيئه بل زوال الملك أو إزالته ، ولا خلاف في تجزيئه فلا ينبغي أن يقال : اختلف في تجزيء العتق وعدمه أو الإعتاق ، بل الخلاف في التحقيق ليس إلا فيما يوجبه الإعتاق أولا وبالذات ، فعنده زوال الملك ويتبعه زوال الرق فلزم تجزيء موجبه ، غير أن زوال الرق لا يثبت إلا عند زوال الملك عن الكل شرعا كحكم الحدث لا يزول إلا عند غسل كل الأعضاء وغسلها متجزئ ، وهذا لضرورة أن العتق قوة شرعية هي قدرة على تصرفات شرعية من الولايات كالشهادة والقضاء والبيع والنكاح بنيته ونفسه ولا يتصور ثبوت هذه في بعضه شائعا فقطع بعدم تجزيئه والملك متجزئ قطعا .

فلزم ما قلنا من زوال الملك عن البعض ، وتوقف زوال الرق على زوال الملك عن الباقي ، وحينئذ فينبغي أن يقام الدليل من الجانبين على أن الثابت به أولا زوال الملك أو الرق ; لأنه محل النزاع ، والوجه منتهض لأبي حنيفة . أما المعنى فلأن تصرف الإنسان يقتصر على حقه وحقه الملك ، أما الرق فحق الله أو حق العامة على ما تقدم فيلزم أن الثابت بالإعتاق زوال الملك أولا ثم يزول الرق شرعا اتفاقا إذا زال لا إلى مالك ، وبهذا يندفع ما قيل زوال الملك لا يسمى إعتاقا وإلا لكان البيع والهبة إعتاقا ، فإنه إنما يلزم لو كان البيع والهبة إزالة الملك لا إلى مالك ، لأن ذلك هو المسمى بالعتق لا إزالة الملك كيفما كان .

وأما السمع فما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق العبد عليه ، وإلا فقد عتق منه ما عتق } أفاد تصور عتق البعض فقط . وقول أيوب : لا ندري أشيء قاله نافع أو هو شيء في الحديث لا يضر ، إذ الظاهر بل الواجب أنه منه ، إذ لا يجوز إدراج مثل هذه من غير نص قاطع في إفادة أنه [ ص: 461 ] ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يوجب في الحديث علة قادحة ، وكذا ما رواه البخاري أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من أعتق شقصا في مملوك فخلاصه عليه في ماله إن كان له مال ، وإلا قوم عليه فاستسعى به غير مشقوق عليه } ، أي لا يغلي عليه الثمن ، أفاد عدم سراية العتق إلى الكل بمجرد عتق البعض وإلا لكان قد خلص قبل تخليص المعتق هذا هو الظاهر .

وأما ما روي لهما من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم { من أعتق نصيبا له في مملوك أو شركا له في عبد فكان له من المال ما يبلغ قيمته بقيمة عدل فهو عتيق } وفي لفظ { فقد عتق كله } فإنما يقتضي عتق كله إذا كان له مال يبلغ قيمته ، وليس مدعاهما ذلك بل إنه يعتق كله بمجرد إعتاق بعضه كان له مال أو لا ، فقد أفادت الأحاديث أن العتق مما يقتصر ولا يستلزم وجوده السراية وإن وردت في العبد المشترك .

واستدل أيضا بدلالة الإجماع وهو أن المعتق إذا كان معسرا لا يضمن بالإجماع ، ولو كان إعتاق البعض إعتاقا للكل وإتلافا له لضمن مطلقا ، كما إذا أتلفه بالسيف أو بالشهادة به لإنسان ثم رجع بعد القضاء فإنه يضمن موسرا كان أو معسرا ، لكن قد يقال في هذا : إن السعاية تقوم مقامه فلا يتعين ، وحيث ثبت الاقتصار لزم أن يكون المراد بالعتق في قوله عليه الصلاة والسلام { فقد عتق منه ما عتق } زوال الملك ، وكذا يلزم في قول كل من نقل عنه القول بتجزيئه كالحسن ، وهو مروي عن علي وعمر ، بخلاف ما قيل : إن قول عمر قولهما فقد أسند الطحاوي إلى عبد الرحمن بن يزيد قال : كان لنا غلام شهد القادسية فأبلى فيها ، وكان بيني وبين أمي وأخي الأسود فأرادوا عتقه وكنت يومئذ صغيرا ، فذكر الأسود ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : أعتقوا أنتم ، فإذا بلغ عبد الرحمن ورغب فيما رغبتم فيه أعتق وإلا ضمنكم .

أثبت لعبد الرحمن الإعتاق بعد بلوغه بعد أن ثبت في العبد إعتاقهما وإنما قلنا ذلك لأن الرق لا يتجزأ زوالا عند أحد فلزم المطلوب ، وهو أن النازل بالإعتاق بالذات زوال الملك ، وإذا ثبت ذلك لزم في إعتاق بعض العبد الخاص به أن يعتق ذلك القدر : أي يزول ملكه عنه ويبقى كمال الرق فيه كله وهو المسألة المتكلم فيها ، وإذا ظهر أن ما زال بالإعتاق هو الملك والرق ثابت في كله ولازمه شرعا أن لا يبقى في الرق لزم أن يسعى العبد في باقي قيمته لاحتباس مالية الباقي عنده ، وما لم يؤد السعاية فهو كالمكاتب حيث يتوقف عتق كله على أداء البدل ، وكونه أحق بمكاسبه ولا يد للسيد عليه ولا استخدام وكونه رقيقا كله إلا أنه يخالفه في أنه لو عجز لا يرد إلى الاستخدام ، بخلاف المكاتب بسبب أن المستسعى زال الملك عن بعضه لا إلى مالك صدقة عليه به وإنما يلزم المال ضرورة الحكم الشرعي وهو تضمينه قسرا ، بخلاف المكاتب فإن عتقه في مقابلة التزامه بعقد باختياره يقال ويفسخ بتعجيزه نفسه ، وعلى هذا ما إذا أعتق أمة مشتركة بينه وبين آخر ثم ولدت فللشريك أن يضمن المعتق القيمة عن نصيبه يوم أعتق ولا يضمنه شيئا من قيمة الولد لأنه ما صنع في الولد شيئا ولأنه لم يثبت حق الشريك في الولد لأنها كانت مكاتبة حين ولدت والمكاتبة أحق بولدها كما أنها أحق بكسبها ، والاعتراض أنه ليس كالمكاتب لهذا الفرق ليس بشيء لأن التشبيه لا يستلزم عموم وجه الشبه فيه ، وإذا تحققت ما ذكرناه من محل النزاع ظهر لك أن ما ذكروا من إلحاقهم بالطلاق والعفو عن القصاص والاستيلاد غير مفيد لأنه إن أريد إلحاق إزالة الرق بها في عدم التجزيء [ ص: 462 ] فغير محل الخلاف للاتفاق على أن الرق لا يتجزأ زوالا أو إلحاق إزالة الملك بها فيه فغير صحيح ، لأنهم وغيرهم لا يقولون بأنه لا يتجزأ .

وأقصى ما يمكن في تقريره أن يجعل إلحاقا لزوال الملك لا إلى مالك في عدم التجزيء بأن يتنزل ويدعي أن المتجزئ زوال الملك إلى مالك لا إلى غير مالك إلحاقا بالأمور المذكورة ، فإن في الطلاق زوال ملك لا إلى مالك وفي العفو زوال حق لا إلى مستحق آخر والاستيلاد زوال ملك كذلك : أعني مالك بيعها وهبتها . والجواب أولا أنه إلحاق بلا جامع ; لأن عدم التجزيء في الأصول لعدم التصور ، إذ لا يمكن نصف المرأة منكوحة ونصفها مطلقة ، ولا نصفها مستولدا ونصفها لا ، ولا إسقاط نصف حق القتل ، فإن القتل بثبوت حقه لا نصفه ، فمعه لا يثبت وهو معنى سقوط القصاص ، وليس عدم التجزيء فيها ; لأن الزوال لا إلى مالك ، بل لا أثر لكون الزوال إلى مالك أولا إليه ، بخلاف زوال مالك الرقبة ، وهذا معنى قول المصنف : وليس في الطلاق والعفو حالة متوسطة : أي ليس فيهما إلا زوال كليهما أو بقاؤهما ، ( فأثبتناه في الكل

) أي فأثبتنا زوال الملك في الكل ترجيحا للمحرم ، وهو الحرمة ، فإنه اجتمع فيهما موجب الحرمة وهو الطلاق والعفو وموجب الحل وهو عدم اتصاف البعض به .

وأما الاستيلاد فمتجزئ عنده حتى لو استولد نصيبه من مدبرة اقتصر عليه ، حتى لو مات المستولد تعتق من جميع ماله ، ولو مات المدبر عتقت من ثلث ماله ، وإنما كمل في القنة لأنه لما ضمن نصيب صاحبه بالإفساد ملكه من حين الاستيلاد فصار مستولدا جارية نفسه فثبت عدم التجزيء ضرورة .

التالي السابق


الخدمات العلمية