صفحة جزء
[ ص: 36 ] ( ولا يثبت نسب ولدها إلا أن يعترف به ) وقال الشافعي : يثبت نسبه منه وإن لم يدع ; لأنه لما ثبت النسب بالعقد فلأن يثبت بالوطء وأنه أكثر إفضاء أولى . ولنا أن وطء الأمة يقصد به قضاء الشهوة دون الولد ; لوجود المانع عنه [ ص: 37 ] فلا بد من الدعوة بمنزلة مالك اليمين من غير وطء ، بخلاف العقد ; لأن الولد يتعين مقصودا منه فلا حاجة إلى الدعوة .


( قوله : ولا يثبت نسب ولدها ) أي ولد الأمة لا أم الولد ، وهذا رجوع إلى المذكور أول الباب في قوله إذا ولدت الأمة من مولاها فلا يثبت نسبه إلا أن يعترف به ، وإن اعترف بوطئها ، وهو قول الثوري والبصري والشعبي ، ومروي عن عمر وزيد بن ثابت مع العزل . وقال الشافعي ومالك وأحمد : يثبت إذا أقر بوطئها ، وإن عزل عنها إلا أن يدعي أنه استبرأها بعد الوطء بحيضة ، وهو ضعيف ، فإنهم زعموا أنها بالوطء صارت فراشا كالنكاح وفيه يلزم الولد ، وإن استبرأها مع أن الحامل تحيض عند مالك والشافعي فلا يفيد الاستبراء ، وهم ينفصلون عن هذا بأن الغالب أن لا تحيض والأمر بالاستبراء اعتبارا للغالب فيحكم عند وجوده بعدم الحمل حكما بالغالب ، ولو وطئها في دبرها يلزمه الولد عند مالك ، ومثله عن أحمد وهو وجه مضعف للشافعية .

( قوله : لأنه لما ثبت ) هذا وجه قول الجمهور في أن النسب يثبت بما تأتي به الأمة بمجرد وطئها ، وهو أنه لما ثبت النسب بعقد البالغ حتى ثبت نسب ما تأتي به المنكوحة به بعد العقد ، وإن لم يعلم الوطء ; لوجوده بعد المفضي إلى الولد فثبوته بعد وطء البالغ وأنه أكثر إفضاء إلى وجود الولد أولى . وإنما قيدنا بالبالغ ; لأن الزوج الصبي لا يثبت به نسب ، وإن كان بعقد وضع للولد ( ولنا أن وطء الأمة يقصد به قضاء الشهوة دون الولد ; لوجود المانع ) من قصده وهو سقوط تقومها عند أبي حنيفة ونقصانه عندهما فكان [ ص: 37 ] الظاهر عدم قصده فكان للظاهر العزل .

وبه يندفع ما قيل فلا يلزم بمجرد الوطء ، وما قيل الوطء قد يقصد به وقد لا يقصد به فلا يتعين عدمه . قلنا : ولا يتعين وجوده كما قلتم فيبقى على الأصل من العدم . واعلم أن أصل دليلهم فيه المنقول من حديث عائشة رضي الله عنها قالت { اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعني في ابن وليدة زمعة ، فقال سعد : يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه وقال عبد بن زمعة : هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه فرأى شبهه فرأى شبها بينا بعتبة فقال : هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر ، واحتجبي منه يا سودة ، فلم تره سودة قط } رواه الجماعة إلا الترمذي .

وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما قضى به لعبد بن زمعة على أنه عبد له ورثه لا على أنه أخوه ، ولذا قال هو لك ولم يقل هو أخوك ، وقال : احتجبي منه يا سودة ، ولو كان أخا لها بالشرع لم يجب احتجابها منه ، فهذا دفع بانتفاء لازم الأخوة شرعا والأول باللفظ نفسه . ويدفع الأول بأن في رواية أخرى { هو أخوك يا عبد } وأما الأمر بالاحتجاب فلما رأى من الشبه البين بعتبة . ويدفع الأول بأن هذه الرواية حينئذ معارضة لرواية " هو لك " وهي أرجح ; لأنها المشهورة المعروفة فلا تعارضها الشاذة ، والشبه لا يوجب احتجاب أخته شرعا منه ، وإلا لوجب الآن وجوبا مستمرا أن كل من أشبه غير أبيه الثابت نسبه منه يجب حكما للشبه احتجاب أخته وعمته وجدته لأبيه منه وهو منتف شرعا . وإذن قوله : " للفراش الولد " ينتفي به نسبه عن سعد بأنه ابن أخيه وعن عبد بأنه أخوه : يعني أن الولد للفراش ولا فراش الواحد من عتبة وزمعة فهو حينئذ عبد لك يا عبد ميراث لك من أبيك .

واعلم أنه روي عند الإمام أحمد { أما الميراث فله ، وأما أنت فاحتجبي منه فإنه ليس لك بأخ } فتصريحه بأنه ليس أخاها يفيد أنه ليس أخا لعبد بن زمعة ، وبه تقوى معارضة رواية هو أخوك . وقوله " أما الميراث فله " يفيد أنه أخوهما ، فإما أن يحكم بضعف الحديث لتدافع معناه ، أو يجمع بأن المثبت الأخوة الشرعية والمنفي الأخوة الحقيقة ، وهو أن يخلقا من ماء رجل واحد ، وأن الحكم الشرعي في عدم الاحتجاب أن يترتب على الأخوة بمعنى التخلق من ماء شخص واحد مع ثبوت النسب منه ، إلا أن هذا يتعذر الوقوف عليه فاعتبر ثابتا بثبوت النسب ما لم يعارضه شبه غير المنسوب كما هو في الصورة المروية ، ثم يجعل هذا ليس حكما مستمرا على ما ذكرنا خاصا بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأن حجابهن منيع ، وقد قال تعالى لهن : { لستن كأحد من النساء } وعلى هذا يجب حمل الوليدة على أنها كانت ولدت لزمعة قبل ذلك ويكون قوله : " الولد للفراش " يعني أم الولد ، وحينئذ فقوله هو لك : أي مقضي به لك ، ويكون المراد أنه أخوك كما هو الرواية الأخرى . وأما ما نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ما بال رجال يطئون ولائدهم ثم يعتزلونهن ، لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه قد ألم بها إلا ألحقت به ولدها ، فاعتزلوا بعد ذلك أو اتركوا . رواه الشافعي فمعارض بما روي [ ص: 38 ] عن عمر أنه كان يعزل عن جاريته فجاءت بولد أسود فشق عليه ، فقال : ممن هو ؟ فقالت : من راعى الإبل ، فحمد الله وأثنى عليه ولم يلتزمه .

وأسند الطحاوي عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يأتي جارية فحملت فقال : ليس مني إني أتيتها إتيانا لا أريد به الولد . وعن زيد بن ثابت أنه كان يطأ جارية فارسية ويعزل عنها فجاءت بولد فأعتق الولد وجلدها . وعنه أنه قال لها : ممن حملت ؟ فقالت منك ، فقال : كذبت ما وصل إليك ما يكون منه الحمل ولم يلتزمه مع اعترافه بوطئها . والمروي عن عمر من قوله : إنه يلحق بالواطئ مطلقا جاز لكونه علم من بعضهم إنكار من يجب عليه استلحاقه ، وذلك أنا بينا أن الواطئ إذا لم يعزل وحصنها وجب عليه الاعتراف به . فقد يكون علم من الناس إنكار أولاد الإماء مطلقا فقال لهم إني ملحق بكم إياهم مطلقا ، وأما من علم منه الاعتدال في الأمر بأن يعترف بمن يجب عليه الاعتراف به وينفي من يجب عليه نفيه أو يجوز فإنه لا يتعرض له .

التالي السابق


الخدمات العلمية