صفحة جزء
[ ص: 70 ] ( وقد يضمر الحرف فيكون حالفا كقوله الله لا أفعل كذا ) لأن حذف الحرف من عادة العرب إيجازا ، ثم قيل ينصب لانتزاع الحرف الخافض ، وقيل يخفض فتكون الكسرة دالة على المحذوف ، وكذا إذا قال لله في المختار لأن الباء تبدل بها ، قال الله تعالى { آمنتم له } . أي آمنتم به [ ص: 71 ] وقال أبو حنيفة رحمه الله : إذا قال وحق الله فليس بحالف ، وهو قول محمد رحمه الله تعالى وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله تعالى .

وعنه رواية أخرى أنه يكون يمينا لأن الحق من صفات الله تعالى وهو حقيته فصار كأنه قال والله الحق والحلف به متعارف . ولهما أنه يراد به طاعة الله تعالى ، إذ الطاعات حقوقه فيكون حلفا بغير الله ، قالوا : ولو قال والحق يكون يمينا ، ولو قال حقا لا يكون يمينا ; لأن الحق من أسماء الله تعالى ، والمنكر يراد به تحقيق الوعد .


( قوله : وقد يضمر الحرف فيكون حالفا كقوله الله لا أفعل كذا ; لأن حذف الحرف من عادة العرب ) يريد بالحذف الإضمار ، والفرق أن الإضمار يبقى أثره بخلاف الحذف ، وعلى هذا فينبغي أن يكون في حالة النصب الحرف محذوفا ; لأنه لم يظهر أثره . وفي حالة الجر مضمرا لظهور أثره وهو الجر في الاسم . وقوله ثم قيل ينصب لانتزاع الخافض ، وقيل يخفض فتكون الكسرة دالة على المحذوف ظاهر في نقل الخلاف في ذلك وهو تبع للمبسوط حيث قال : النصب مذهب أهل البصرة والخفض مذهب أهل الكوفة ، ونظر فيه بأنهما وجهان سائغان للعرب ليس أحد ينكر أحدهما ليتأتى الخلاف . وحكي الرفع أيضا نحو الله لا أفعلن على إضمار مبتدإ ، والأولى كونه على إضمار خبر ; لأن الاسم الكريم أعرف المعارف فهو أولى بأن يكون مبتدأ والتقدير الله قسمي أو قسمي الله لأفعلن ، غير أن النصب أكثر في الاستعمال .

وقوله في النصب ; لانتزاع الخافض خلاف أهل العربية بل هو عندهم بفعل القسم لما حذف الحرف اتصل الفعل به إلا أن يراد عند انتزاع الخافض : أي بالفعل عنده . وأما الجر فلا شك أنه بالحرف المضمر . وهو قليل شاذ في غير القسم كقوله :

إذا قيل أي الناس شر قبيلة أشارت كليب بالأكف الأصابع

أي إلى كليب ( قوله وكذلك إذا قيل لله ; لأن الباء تبدل بها ) أي باللام قال تعالى { آمنتم له } { آمنتم به } والقصة [ ص: 71 ] واحدة .

أورد عليه أنها لا تبدل بها بمعنى أن توضع مكانها دالة على عين مدلولها ، وفي الآيتين المعنى مختلف ، فإن قوله تعالى { آمنتم له } أي صدقتموه وانقدتم إليه طاعة { آمنتم به } لا يفيد تلك الزيادة ، ولو سلم فكونها وقعت صلة فعل خاص كذلك وهو آمنتم لا يلزم في كل فعل ; لجواز كون معنى ذلك الفعل يتأتى معناهما فيه بخلافه في القسم ، ولا تستعمل اللام إلا في قسم متضمن معنى التعجب كقول ابن عباس : دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج . وكقولهم : لله لا يؤخر الأجل ، فاستعمالها قسما مجردا عنه لا يصح في اللغة إلا أن يتعارف كذلك . وقوله في المختار احتراز عما عن أبي حنيفة أنه إذا قال لله علي أن لا أكلم فلانا أنها ليست بيمين إلا أن ينوي ; لأن الصيغة للنذر وتحتمل معنى اليمين ، ولم يذكر في كثير من الشروح فائدة هذا الاحتراز ; لأن لفظا في المختار في بعض النسخ لا كلها فكان الواقع لهم ما ليس هو فيه .

هذا ولا فرق في ثبوت اليمين بين أن يعرب المقسم به خطأ أو صوابا أو يسكنه خلافا لما في المحيط فيما إذا أسكن من أنه لا يكون يمينا إلا بالنية ; لأن معنى اليمين ، وهو ذكر اسم الله تعالى للمنع أو الحمل معقودا بما أريد منعه أو فعله ثابت فلا يتوقف على خصوصية في اللفظ . ( قوله : وقال أبو حنيفة رحمه الله : إذا قال وحق الله فليس بحالف وهو قول محمد وإحدى الروايتين عن أبي يوسف ) وعنه أي عن أبي يوسف ( رواية أخرى أن يكون يمينا ) يعني إذا أطلق ; لأن الحق من صفات الله تعالى وقد عد في أسمائه الحسنى ، قال تعالى { ولو اتبع الحق أهواءهم } ( وهو حقيته ) أي كونه تعالى ثابت الذات موجودها فكأنه قال : والله الحق ( والحلف به متعارف ) فوجب كونه يمينا ، وهذا قول الأئمة الثلاثة حتى قال أحمد : لا يقبل قوله : يعني في عدم اليمين ; لأنه انصرف بعرف الاستعمال إلى اليمين فانصرف الحق إلى ما يستحقه لنفسه من العظمة والكبرياء فصار كقدرة الله تعالى ( قوله : ولهما أنه ) أي حق الله ( يراد به طاعة الله إذ الطاعات حقوقه ) وصار ذلك متبادرا شرعا وعرفا حتى كأنه حقيقة حيث لا يتبادر سواه إذ يعلم أنه لا يخطر من ذكره وجوده وثبوت ذاته ، والحلف بالطاعات حلف بغيره وغير صفته فلا يكون يمينا ، والمعدود من الأسماء الحسنى هو الحق المقرون باللام ، وبهذا الوجه من التقرير اندفع ترجيح بعضهم القول بأنه يمين بأنه تقدم أن ما كان من صفات الله يعبر به عن غيرها يعتبر فيه العرف ، وبه حصل الفرق بين علم الله وقدرته .

وإذا كان الحلف بقدرة الله يمينا للتعارف فبحق الله كذلك للتعارف . فإن التعارف يعتبر بعد كون الصفة مشتركة في الاستعمال بين صفة الله تعالى وصفة غيره ، وقد بينا أن لفظ حق لا يتبادر منه ما هو صفة الله بل ما هو من حقوقه فصار نفس وجوده ونحوه كالحقيقة المهجورة .

، وأما الاستدلال على أنه يراد به الطاعات بقول السائل للنبي عليه الصلاة والسلام { ما حق الله تعالى على العباد ؟ فقال : أن لا يشركوا به شيئا } إلى آخره كما وقع لبعض الشارحين فليس بشيء ; لأن صلته بلفظ على العباد يبين المراد بالحق أنه غير وجوده وصفته . والكلام في لفظ حق غير مقرون بما يدل على أحد المعنيين بخصوصه ، فليس الوجه إلا ما ذكرنا ( قوله : ولو قال والحق يكون يمينا ) أي بالإجماع . كذا ذكره غير واحد . واعترضه [ ص: 72 ] شارح بأن الحق بالتعريف يطلق على غيره تعالى كقوله تعالى { فماذا بعد الحق إلا الضلال } { فلما جاءهم الحق من عندنا } فكيف يكون يمينا بلا خلاف ، لكن جوابه أنه إن نوى اليمين باسم الله تعالى يكون يمينا وإلا فلا . انتهى .

وأنت علمت أنه إذا ثبت كونه اسما له تعالى لا تعتبر فيه النية وإن أطلق على غيره ، وإنما ذلك القول المقابل للمختار . وأما على القول المفصل بين أن يريد به اليمين وأن لا يريد فالحق يتبادر منه ذاته تعالى ، فصار غيره مهجورا لا بدليل ، وبه يندفع قول أبي نصر إن نوى بالحق اليمين كان يمينا وإلا فلا ، ولا يلزم بطلان قول من حكى الإجماع من الشارحين ; لأنه يريد إجماع علمائنا الثلاثة فإنه لا عبرة بخلاف غير المجتهدين في انعقاد الإجماع . ولو قال حقا بأن قال حقا علي أن أعطيك كذا ونحوه لا تكون يمينا ; لأن الحق من أسمائه تعالى فينعقد به اليمين ، والمنكر يراد به تحقيق الوعد ، وما نقل عن الشيخ إسماعيل الزاهد ، والحسن بن أبي مطيع أنه يمين ; لأنه لم يضفه إلى الله تعالى فصار كالحق مردود بأن المنكر ليس اسما لله تعالى ، ومن الأقوال الضعيفة ما قال البلخي : إن قوله بحق الله يمين ; لأن الناس يحلفون به ، وضعفه لما علمت أنه مثل وحق الله بالإضافة وعلمت المغايرة فيه وأنه ليس يمينا فكذا بحق الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية