صفحة جزء
( ومن حلف لا يدخل دارا فدخل دارا خربة لم يحنث ، ولو حلف لا يدخل هذه الدار فدخلها بعد ما انهدمت وصارت صحراء حنث ) لأن الدار اسم للعرصة عند العرب والعجم ، يقول دار عامرة ، وقد شهدت أشعار العرب بذلك [ ص: 98 ] والبناء وصف فيها غير أن الوصف في الحاضر لغو وفي الغائب معتبر .


( قوله ومن حلف لا يدخل دارا فدخل دارا خربة لم يحنث ، ولو حلف لا يدخل هذه الدار فدخلها بعد ما انهدمت وصارت صحراء حنث لأن اسم الدار للعرصة عند العرب والعجم فيقال دار عامرة ودار غير عامرة في العجم والعرب ، وقد شهدت أشعار العرب بذلك ) قال نابغة ذبيان واسمه زياد بن معاوية :

يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد      [ ص: 98 ] وقفت فيها أصيلانا أسائلها
عيت جوابا وما بالربع من أحد     إلا الأواري لأيا ما أبينها
والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

إذا كانت الدار بالعلياء فالسند وهو ارتفاع الجبل بحيث يسند إليه : أي يصعد لم يضرها السيل ، وأقوت أقفرت ، وطال عليها سالف الأبد بالباء السالف الماضي ، والأبد الدهر : أي طال عليها ماضي الزمان ، وهذا كناية عن خرابها .

وأصيلانا تصغير جمع أصيل أصلان كبعير وبعران وهو عشية النهار وقد تبدل نونه لاما فيقال أصيلال ، وإنما صغره للدلالة على قصر الوقت الذي وقف فيه للمساءلة . وهذا السؤال توجع وتحسر ، وعيت جوابا عجزت . يقال في تعب البدن إعياء والفعل أعيا وفي كلام اللسان عي . ورئي فاضل قادما إلى المدينة ماشيا فقيل له [ ص: 99 ] مولانا عي أم أعيا ؟ فقال بل أعييت ، فوضع أعيت جوابا في البيت المذكور مكان عيت خلاف المعروف .

والأواري جمع آري وهي محابس الخيل ومرابطها ، واللأي البطء : أي تبيني لها ببطء فاستلزم تعبا ، فمن فسر اللأي بالشدة فهو باللازم ، فإن البطء في التبين لا يكون إلا لتعب فيه . والنؤي حاجز من تراب يجعل حول الخباء لمنع السيل من دخوله ، وما وقع في بعض المواضع أنه حفيرة غلط ، وما عسى أن يبلغ عمق الحفيرة حتى تمنع السيل فإنها لو كانت بئرا امتلأت في لحظة وفاضت ، وإنما هو ما ذكرنا ، ولذا قال في البيت بعده :

ردت عليه أقاصيه وليدة     ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد

يعني ردت الوليدة وهي الأمة الشابة ما تباعد من النؤى بسبب تهدمه عليه بضرب المسحاة في الثأد وهي الأرض الندية .

قال الأعلم : وهو مصدر وصف به ، وأراد بالمظلومة الأرض التي لم تمطر ، والجلد الصلبة ، فيكون النؤي والوتد أشد ثباتا فيها

وقال امرؤ القيس :

يا دار ماوية بالحائل     فالسهب فالخبتين من عاقل
صم صداها وعفا رسمها     واستعجمت عن منطق السائل

يريد أنها مقفرة لا أنيس بها فيسمع صوته ولا أحد يتكلم فيجيبه الصدى . وهو الذي يسمى بابنة الجبل .

وقال امرؤ القيس :

لمن طلل أبصرته فشجاني     كخط زبور في عسيب يماني
ديار لهند والرباب وفرنني     ليالينا بالنعف من بدلاني

يريد أنها درست وخفيت الآثار كخفاء خط الكتاب ودقته إذا كان في عسيب يمان وكان أهل اليمن يكتبون عهودهم في عسيب النخلة فهذه الأشعار وما لا يحصى كثرة تشهد بأن اسم الدار للعرصة ليس غير ، لأن هؤلاء المتكلمين بهذه الأشعار لا يريدون بالاسم إلا العرصة فقط فإن هذه الديار التي ذكروها لم يكن فيها بناء أصلا بل هي عرصات منزولات إنما يضعون فيها الأخبية لا أبنية الحجر والمدر فصح أن البناء وصف فيها غير لازم ، وإنما اللازم فيها كونها قد نزلت ، غير أنها في عرف أهل المدن . لا يقال إلا بعد البناء فيها .

ولو انهدم بعد ذلك [ ص: 100 ] بعضها قيل دار خراب فيكون هذا الوصف جزء المفهوم لها ، فأما إذا محيت الأبنية بالكلية وعادت ساحة فالظاهر أن إطلاق اسم الدار في العرف عليها كهذه دار فلان مجاز باعتبار ما كان ، فالحقيقة أن يقال كانت دارا ، وإذا عرف ذلك فإذا حلف لا يدخل دارا فدخل دارا خربة بأن صارت لأبناء بما لا يحنث ، وهذا هو المراد فإنه قال في مقابله فيما إذا حلف لا يدخل هذه الدار فدخلها بعد ما صارت صحراء حنث ، وإنما تقع المقابلة بين المعين والمنكر في الحكم إذا توارد حكمهما على محل ، فأما إذا دخل بعدما زالت بعض حيطانها فهذه دار خربة فينبغي أن يحنث في المنكر إلا أن يكون له نية ، وإنما وقعت هذه المفارقة لأن البناء وإن كان وصفا فيها يعني معتبرا فيها غير أن الوصف في الحاضر لغو لأن ذاته تتعرف بالإشارة فوق ما تتعرف بالوصف ، وفي الغائب معتبر لأنه المعرف له .

التالي السابق


الخدمات العلمية