صفحة جزء
( باب اليمين في الكلام ) [ ص: 143 ] قال ( ومن حلف لا يكلم فلانا فكلمه وهو بحيث يسمع إلا أنه نائم حنث ) لأنه قد كلمه ووصل إلى سمعه لكنه لم يفهم لنومه فصار كما إذا ناداه وهو بحيث يسمع لكنه لم يفهم لتغافله . وفي بعض روايات المبسوط شرط أن يوقظه ، وعليه عامة مشايخنا ، لأنه إذا لم يتنبه كان إذا ناداه من بعيد وهو بحيث لا يسمع صوته .


( باب اليمين في الكلام )

لما فرغ من ذكر الأفعال التي هي أهم من الكلام كالأكل والسكنى وتوابعهما شرع في الكلام إذ لا بد من وقوعه لأن الإنسان لا بد له من إيصال ما في نفسه إلى غيره لتحصيل مقاصده . وبدأ بالكلام الأعم من خصوصيات [ ص: 143 ] العتق والطلاق وغيرها لتقدم الأعم على الخصوصيات ( قوله ومن حلف لا يكلم فلانا فكلمه وهو بحيث يسمع كلامه ) لقرب مكانه منه ( إلا أنه نائم حنث ) لأنه قد كلمه ووصل إلى سمعه إلا أنه لم يفهم لنومه فصار كما إذا ناداه وهو بحيث يسمع لكنه لم يفهم لتغافله : أي لغفلته فإنه يحنث ، وهذا لأن العلم بوصول صوته إلى صماخه غير ثابت فأدير على مظنة ذلك فحكم به وهو كونه بحيث لو كان مصغيا سالما ولهذا لو كان أصم حنث . وفي بعض روايات المبسوط شرط أن يوقظه ، فإنه في بعضها فناداه أو أيقظه ، وفي بعضها فناداه وأيقظه .

قال : واختاره مشايخنا لأنه إذا لم ينتبه بكلامه صار كما إذا ناداه من بعيد جدا بحيث لا يسمع صوته فضلا عن أن يميز حروفه ، وفي ذلك يكون لاغيا لا متكلما مناديا ، وصار كما لو كان ميتا لا يحنث بكلامه ، بخلاف الأصم لأنه يصح أن يقال كلمه إذا كان بحيث لولا الصمم سمع ، لا يقال : يصح مثل هذا في الميت . لأنا نقول : يمينه لا تنعقد إلا على الحي لأن المتعارف هو الكلام معه ، ولأن الغرض من الحلف على ترك الكلام إظهار المقاطعة وذلك لا يتحقق في الميت والبعيد الذي لا شعور له بندائه وكلامه ، لكن ما ذكر محمد في السير الكبير : إذا نادى المسلم أهل الحرب بالأمان من موضع يسمعون إلا أنهم لا يسمعون لشغلهم بالحرب فهو أمان ، قال السرخسي هذا يبين أن الصحيح في مسألة الأيمان الحنث وإن لم يوقظه انتهى .

وقد فرق على هذه الرواية بأن الأمان يحتاط في إثباته . وقيل يحكم فيها بالخلاف ، فعنده يحنث لأنه يجعل النائم كالمستيقظ وعندهما لا يحنث ، والمراد بما نسب إليه ما ذكر في باب التيمم من أن المتيمم إذا مر وهو نائم على ماء ولا علم له به ينتقض تيممه ، وقد تقدم هناك ما فيها من الاستبعاد للمشايخ ; فإنه لو كان مستيقظا حقيقة وإلى جانبه حفيرة ماء لا يعلم بها لا ينتقض تيممه فكيف بالنائم حتى حمله بعضهم على الناعس ، وأضيف إلى هذه مسائل تزيد على عشرين جعل فيها النائم كالمستيقظ .

وفي الذخيرة : لا يحنث حتى يكلمه بكلام مستأنف بعد اليمين منقطع عنها لا متصل ، فلو قال موصولا إن كلمتك فأنت طالق فاذهبي أو اخرجي أو قومي أو شتمها أو زجرها متصلا لا يحنث لأن هذا من تمام الكلام الأول ، فلا يكون مرادا باليمين إلا أن يريد به كلاما مستأنفا ، وهو وجه لأصحاب الشافعي ، وبه قال الشافعي في الأظهر وأحمد ومالك وفي المنتقى : لو قال فاذهبي أو اذهبي لا تطلق ، ولو قال اذهبي طلقت لأنه منقطع عن اليمين .

وأما ما في نوادر ابن سماعة عن محمد : لا أكلمك اليوم أو غدا حنث لأنه كلمه اليوم بقوله أو غدا فلا شك في عدم صحته لأنه كلام [ ص: 144 ] واحد ، فإنه إذا أراد أن يحلف على أحد الأمرين لا يقال إلا كذلك ، وعلى هذا إذا قال لآخر إن ابتدأتك بكلام فعبدي حر فالتقيا فسلم كل على الآخر معا لا يحنث وانحلت يمينه لعدم تصور أن يكلمه بعد ذلك ابتداء . ولو قال لها إن ابتدأتك بكلام وقالت هي له كذلك لا يحنث إذا كلمها لأنه لم يبتدئها ، ولا تحنث بعد ذلك لعدم تصور ابتدائها .

ولو حلف لا يكلمه فسلم على قوم هو فيهم حنث لا أن لا يقصده فيصدق ديانة لا قضاء ، وعند مالك والشافعي رحمهما الله قضاء أيضا . أما لو قال السلام عليكم إلا على واحد صدق قضاء عندنا ، ولو سلم من الصلاة فإن كان إماما قيل إن كان المحلوف عليه عن يمينه لا يحنث ، وإن كان عن يساره يحنث لأن الأولى واقعة في الصلاة فلا يحنث بها بخلاف الثانية .

وقيل لا يحنث بها لأنها في الصلاة من وجه ، وكذا عن محمد لا يحنث بهما وهو الصحيح والأصح ما في الشافي أنه يحنث إلا أن ينوي غيره . وفي شرح القدوري فيما إذا كان إماما يحنث إذا نواه وإن كان مقتديا فعلى ذلك التفصيل عندهما . وعند محمد لا يحنث مطلقا لأن سلام الإمام يخرج المقتدي عن الصلاة عنده خلافا لهما ، وبه قال مالك . ولو دق عليه الباب فقال من حنث . وقال أبو الليث : لو قال بالفارسية كيست لا يحنث ، ولو قال كي ترحنث ، وبه أخذ وهو المختار ، ولو ناداه المحلوف عليه فقال لبيك أو لبى حنث ، ولو كلمه الحالف بكلام لا يفهمه المحلوف عليه ففيه اختلاف الروايتين .

ولو أراد أن يأمره بشيء فقال وقد مر المحلوف عليه يا حائط اسمع افعل كيت وكيت فسمعه المحلوف عليه وفهمه لا يحنث قاله في الذخيرة . ولو حلف لا يتكلم فناول امرأته شيئا وقالها حنث . ولو جاء كافر يريد الإسلام فبين الإسلام مسمعا له ولم يوجه إليه لم يحنث . وفي المحيط .

لو سبح الحالف للمحلوف عليه للسهو أو فتح عليه القراءة وهو مقتد لم يحنث ، وخارج الصلاة يحنث . ولو كتب إليه كتابا أو أرسل رسولا لا يحنث لأنه لا يسمى كلاما عرفا خلافا لمالك وأحمد . واستدلالهم بقوله تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا } أجيب عنه بأن مبنى الأيمان على العرف . واعلم أن الكلام لا يكون إلا باللسان فلا يكون بالإشارة ولا الكتابة ، والإخبار والإقرار والبشارة تكون بالكتابة لا بالإشارة ، والإيماء والإظهار والإفشاء والإعلام يكون بالإشارة أيضا .

فإن نوى في ذلك كله : أي في الإظهار والإفشاء والإعلام والإخبار كونه بالكلام والكتابة دون الإشارة دين فيما بينه وبين الله تعالى . ولو حلف لا يحدثه لا يحنث إلا أن يشافهه ، وكذا لا يكلمه يقتصر على المشافهة . ولو قال لا أبشره فكتب إليه حنث . وفي قوله إن أخبرتني أن فلانا قدم ونحوه يحنث بالصدق والكذب .

ولو قال بقدومه ونحوه فعلى الصدق خاصة ، وكذا إن أعلمتني ، وكذا البشارة ومثله إن كتبت إلي أن فلانا قدم فكتب قبل قدومه فوصل إليه الكتاب حنث سواء وصل إليه قبل قدومه أو بعده ، بخلاف إن كتبت إلي بقدومه لم يحنث حتى يكتب بقدومه الواقع . وذكر هشام عن محمد : سألني هارون الرشيد عمن حلف لا يكتب إلى فلان فأمر من يكتب إليه بإيماء أو إشارة هل يحنث ؟ فقلت نعم يا أمير المؤمنين إذا كان مثلك . قال السرخسي : وهذا صحيح لأن السلطان لا يكتب بنفسه وإنما يأمر ومن عادتهم الأمر بالإيماء والإشارة .

ولو حلف لا يقرأ كتاب فلان فنظر فيه حتى فهمه لا يحنث عند أبي يوسف ، ويحنث عند محمد لأن المقصود الوقوف على ما فيه لا عين التلفظ به . ولو حلف لا يكلم فلانا وفلانا لم يحنث بكلام أحدهما إلا أن ينوي كلا منهما فيحنث بكلام أحدهما ، وعليه الفتوى وإن ذكر خلافه [ ص: 145 ] في بعض المواضع

التالي السابق


الخدمات العلمية