صفحة جزء
( ومن حلف أن يهب عبده لفلان فوهبه ولم يقبل بر في يمينه ) خلافا لزفر فإنه يعتبره بالبيع [ ص: 204 ] لأنه تمليك مثله . ولنا أنه عقد تبرع فيتم بالمتبرع ولهذا يقال وهب ولم يقبل ، ولأن المقصود إظهار السماحة وذلك [ ص: 205 ] يتم به ، أما البيع فمعاوضة فاقتضى الفعل من الجانبين


( قوله ومن حلف ليهبن عبده لفلان فوهبه ولم يقبل بر في يمينه ) الأصل أن اسم عقد المعاوضة كالبيع والإجارة والصرف والسلم والنكاح والرهن والخلع [ ص: 204 ] بإزاء الإيجاب والقبول معا ، وفي عقود التبرعات بإزاء الإيجاب فقط كالهبة والصدقة والعارية والعطية والوصية والعمري والنحلي والإقرار والهدية . وقال زفر : هي كالبيع . وفي البيع وما معه الاتفاق على أنه للمجموع . فلذا وقع الاتفاق على أنه لو قال : بعتك أمس هذا الثوب فلم تقبل فقال : بل قبلت أو آجرتك هذه الدار فلم تقبل فقال بل قبلت القول قول المشتري والمستأجر ; لأن إقراره بالبيع تضمن إقراره بالإيجاب والقبول ، وقوله : لم تقبل رجوع عنه ، وكذا على عدم الحنث إذا حلف لا يبيع فأوجب فقط ، وعلى الحنث إذا حلف ليبيعن اليوم فأوجب فيه فقط ، ووقع الخلاف في ذلك لو كان بلفظ الهبة ، فعندنا يبر الإيجاب ، وعنده يحنث . ثم استدل المصنف لزفر باعتباره بالبيع ( لأنه ) أي عقد الهبة ( تمليك مثله ) حتى يتوقف تمام سببيته على القبول فلا يكون هو : أي عقد الهبة بلا قبول كالإيجاب في البيع ، ثم لا يشترط القبض في رواية عنه بل بمجرد إيجاب الهبة والقبول من الآخر بر لتمام السبب ، وإنما القبض شرط حكمه والسبب يتم دونه كالبيع بشرط الخيار .

وفي رواية أخرى عنه : يشترط معه القبض فلا يبر حتى يقبض الآخر ; لأن السبب بلا حكم غير معتبر . قال المصنف ( ولنا أنه عقد تبرع فيتم بالمتبرع ) أي الهبة اسم للتبرع ، فإذا تبرع وجد المسمى فيحنث ، ولا يراد تمامه سببا للملك إلا على ما نقل عن بعضهم أن الملك يثبت به قبل القبول ، إلا أن بالرد ينتقض دفعا لضرر المنة بلا اختيار ونحوه من فسخ نكاح الزوجة المرقوقة ; لأنه لا معول ولا عمل على هذا ، بل لا بد من القبول لتمام العقد فكان في احتياجه إلى القبول في تمام العقد ووقوعه سببا لملك الآخر كالبيع . والحاصل أنه إنما يتم به ما هو من جهته وهو التمليك ، وبهذا القدر لا يدخل في ملك الآخر وإن كان بلا بدل حتى يظهر رضاه بذلك بلفظه المفيد له فهو كالبيع في هذا القدر ، وحقيقة الخلاف إنما هو في تعيين مسميات شرعية لألفاظ هي لفظ البيع والهبة وأخواتهما ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالنقل أو الاستدلال ، فلما كان عند إطلاق لفظ باع فلان كذا أو بعت كذا يفهم منه وقوع الإيجاب والقبول حكم بأن اسم البيع للمجموع ، ثم وقع النزاع في اسم الهبة فقال زفر هو كذلك ، واستدل الأصحاب بالنقل وهو ما في الصحيحين من قول ابن عباس { أن الصعب بن جثامة أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمار وحش وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه ، فلما رأى ما في وجهه قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم } فقد أطلق اسم الإهداء من أحد الجانبين فقط لفرض أنه رده عليه .

ووجهه أن قول ابن عباس أهدى إما حكاية قول الصعب بن جثامة أهديت لك هذا أو حكاية فعل ، وعلى كل تقدير يفيد أن اسم الهداية يتم بمجرد فعل الواهب قبل الآخر أو لا . واستدل أيضا بقولنا : وهبت لفلان فلم يقبل وليس شيء منهما بلازم ; لأن غاية ما فيه أنه يصح أن يطلق لفظ الهبة والهدية على مجرد الإيجاب بقرينة كقوله فلم يقبل ، ونحن لا ننكر أنه يصح أن يقال عليه فقط كما يقال على المجموع ، وكونه ظهر في موضع أنه استعمل في مجرد الإيجاب بقرينة لا يفيد الحكم بأنه هو معناه الحقيقي الذي يجب الحكم به عليه عند عدم القرينة ألا ترى أنه لو قال : بعته هذا الثوب بألف فلم يقبل لم يكن مخطئا ويكون مستعملا لاسم الكل [ ص: 205 ] في الجزء ، فلو دل صحة قول القائل وهبت فلم يقبل على أن وضع لفظ الهبة لمجرد الإيجاب دل على صحة قوله : بعته فلم يقبل على أن البيع لمجرد الإيجاب والإثبات . وأما الاستدلال بقول الصديق لعائشة رضي الله عنهما : كنت نحلتك عشرين وسقا من مال العالية وإنك لم تكوني حزتيه . فسماه نحلى قبل القبض ، فإنما ينتهض على إحدى روايتي زفر أنه مأخوذ فيه القبض أيضا ، ولسنا نصححها بل المعتبر المجموع من الإيجاب والقبول ، والقبض شرط الحكم لا من تمام السبب ومسمى اللفظ .

وأما الوجه القائل : إن المقصود من الهبة إظهار السماحة وهو يتم بالإيجاب : يعني فالظاهر أن الاسم بإزاء ما يتم به المقصود من العقد فلا يخفى أنه غير لازم ، وإلا كانت أسماء الأمور التي لها غايات أسماء لتلك الغايات . وأيضا فقصد الإظهار للسماحة هو عين المراءاة ، ولا ينبغي حمل فعل جميع العقلاء عليه ، بل اللازم كون المقصود منها وصول النفع للحبيب والفقير الأجنبي ، وهذا أليق أن يجعل مقصودا للعقلاء فيجب الحمل عليه ، وعلى اعتباره لا يتحقق الوصول إلا بمجموع القبول والإيجاب ، وأقر بها أنه اسم للتبرع كما ذكر المصنف . والاستدلال عليه بأنه عقد تبرع فيتم بالمتبرع وإن كان تمام السبب يتوقف على شيء آخر ، فهو اسم لجزء السبب إن سلم هذا ، وعلى هذا الخلاف القرض . وعن أبي يوسف أن قبول المستقرض لا بد منه فيه ; لأن القرض في حكم المعاوضة ، فلو قال أقرضني فلان ألفا فلم أقبل لا يقبل قوله . ونقل عن أبي حنيفة فيه روايتان . والإبراء يشبه البيع من حيث إنه يفيد الملك باللفظ دون قبض . والهبة ; لأنه تمليك بلا عوض ، ولهذا ذكر في الجامع أن في القرض والإبراء قياسا واستحسانا ، وقال الحلواني فيها كالهبة .

قيل والأشبه أن يلحق الإبراء الهبة لعدم العوض ، والقرض بالبيع للعوض . واعلم أن الإبراء له شبهان : شبه بالإسقاط ; لأن الدين وصف في الذمة لا عين مال ، فباعتباره قلنا لا يتوقف على القبول . وشبه بالتمليكات باعتبار أن مآله إلى عين المال حتى جرت أحكام المال عليه في باب الزكاة ، ولهذا قلنا يرتد بالرد ولا يقبل التعليق ، ولا يعلم خلاف في أن الاستقراض كالهبة . [ فروع ] حلف لا يوصي بوصية فوهب في مرض الموت لا يحنث ، وكذا لو اشترى أباه في مرضه فعتق عليه ، ولو حلف ليهبنه اليوم مائة درهم فوهبه مائة له على آخر وأمره بقبضها بر ، ولو مات الواهب قبل قبض الموهوب له لا يتمكن من قبضه ; لأنها صارت ملكا للورثة . وفي شرح الجامع الكبير للعتابي أن الإباحة والوصية والإقرار والاستخدام لا يشترط فيها القبول من الآخر . ولو قال لعبد : إن وهبك فلان مني فأنت حر فوهبه منه إن كان العبد في يد الواهب لا يعتق سلمه إليه أو لا ، وإن كان وديعة في يد الموهوب له إن بدأ الواهب فقال : وهبتكه لا يعتق قبل أو لم يقبل ، وإن بدأ الموهوب له فقال وهبته منك عتق . ولو حلف لا يهب عبده من فلان فوهبه له أجنبي فأجاز الحالف الهبة حنث كذا رواه ابن سماعة عن محمد . ولا يهب عبده لفلان فوهبه له على عوض حنث . حلف لا يستدين دينا فتزوج لا يحنث .

ولو حلف لا يشاركه ثم شاركه بمال ابنه الصغير فالشريك هو الابن لا الأب ; لأنه لا ربح للأب في المال ، وتنعقد يمين نفي الشركة على ما عليه عادات الناس من الشركة في التجارات دون الأعيان ، فلو اشتريا عبدا لم يحنث ، بخلاف ما لو قال : لا يكون بيني وبينه شركة في شيء حيث يحنث ، بخلاف ما لو ورثا شيئا لا يحنث ; لأنه لم يشاركه مختارا إنما لزمه حكما أحب أو كره

التالي السابق


الخدمات العلمية