صفحة جزء
[ ص: 326 ] ( ومن قذف غيره فمات المقذوف بطل الحد ) وقال الشافعي : لا يبطل ( ولو مات بعدما أقيم بعض الحد بطل الباقي ) عندنا خلافا له بناء على أنه يورث عنده وعندنا لا يورث ، ولا خلاف أن فيه حق الشرع وحق العبد فإنه شرع لدفع العار عن المقذوف وهو الذي ينتفع به على الخصوص ، فمن هذا الوجه حق العبد ، ثم إنه شرع زاجرا ومنه سمي حدا ، والمقصود من شرع الزاجر إخلاء العالم عن الفساد ، وهذا آية حق الشرع وبكل ذلك تشهد الأحكام . وإذا تعارضت الجهتان [ ص: 327 ] فالشافعي مال إلى تغليب حق العبد تقديما لحق العبد باعتبار حاجته وغنى الشرع ، ونحن صرنا إلى تغليب حق الشرع لأن ما للعبد من الحق يتولاه مولاه فيصير حق العبد مرعيا به ، ولا كذلك عكسه لأنه لا ولاية للعبد في استيفاء حقوق الشرع إلا نيابة عنه ، وهذا هو الأصل المشهور الذي يتخرج عليه الفروع المختلف فيها منها الإرث ، إذ الإرث يجري في حقوق العباد لا في حقوق الشرع . ومنها العفو فإنه لا يصح عفو المقذوف عندنا ويصح عنده . ومنها أنه لا يجوز الاعتياض عنه ويجري فيه التداخل وعنده لا يجري . وعن أبي يوسف في العفو مثل قول الشافعي ; ومن أصحابنا من قال : إن الغالب حق العبد [ ص: 328 ] وخرج الأحكام ، والأول أظهر .


( قوله ومن قذف غيره فمات المقذوف بطل الحد ، وقال الشافعي : لا يبطل ولو مات بعد ما أقيم بعض الحد بطل الباقي عندنا خلافا له بناء على أنه يورث عنده ) فيرث الوارث الباقي فيقام له ( وعندنا لا يورث ولا خلاف أن فيه حق الشرع وحق العبد فإنه شرع لدفع العار عن المقذوف وهو الذي ينتفع به على الخصوص ) كالقصاص ( فمن هذا الوجه ) أي من هذا الدليل ( هو حق العبد ثم ) نعلم ( أنه شرع زاجرا ومنه سمي حدا . والمقصود من شرع الزواجر كلها إخلاء العالم عن الفساد وهذا آية حق الشرع ) إذ لم يختص بهذا إنسان دون غيره ( وبكل ) من حق الله وحق العبد في حد القذف ( تشهد الأحكام ) فباعتباره حقا للعبد شرطت الدعوى في إقامته ولم تبطل الشهادة بالتقادم ، ويجب على المستأمن ويقيمه القاضي بعلمه إذا علمه في أيام قضائه ، وكذا لو قذفه بحضرة القاضي حده ، وإن علمه القاضي قبل أن يستقضي ثم ولي القضاء ليس له أن يقيمه حتى يشهد به عنده ، ويقدم استيفاؤه على حد الزنا والسرقة إذا اجتمعا .

ولا يصح الرجوع عنه بعد الإقرار به ، وباعتبار حق الله تعالى استوفاه الإمام دون المقذوف ، بخلاف القصاص ، ولا ينقلب مالا عند سقوطه ولا يستحلف عليه القاذف ويتنصف بالرق كالعقوبات الواجبة حقا لله تعالى وحق العبد يتقدر بقدر التالف ، ولا يختلف باختلاف المتلف ، وإذا تعارضت الجهتان ولم يمكن إهدار مقتضى إحداهما لزم اعتبارهما فيه فثبت أن فيه الحقين ( إلا أن [ ص: 327 ] الشافعي مال إلى تغليب حق العبد تقديما لحق العبد باعتبار حاجته وغنى الشرع ، ونحن صرنا إلى تغليب حق الشرع لأن ما للعبد من الحق يتولى استيفاءه مولاه فيصير حق العبد مرعيا ) بتغليب حق الشرع لا مهدرا ( ولا كذلك عكسه ) أي لو غلب حق العبد لزم أن لا يستوفى حق الشرع إلا بالتحكيم بجعل ولاية استيفائه إليه ، وذلك لا يجوز إلا بدليل ينصبه الشرع على إنابة العبد في الاستيفاء ولم يثبت ذلك ، بل الثاني استنابة الإمام حتى كان هو الذي يستوفيه كسائر الحدود التي هي حقه تعالى على ما قدمناه من الأحكام ، فإذا ثبت ما ذكرنا من الاختلاف في هذا الأصل تفرعت فروع أخرى مختلف فيها بعد الفروع المتفق عليها الشاهدة لكل من ثبوت الجهتين ، منها الإرث فعنده يورث .

وعندنا لا يورث إذ الإرث يجري في حقوق العباد لا في حقوق الله تعالى : أي إنما يرث العبد حق العبد بشرط كونه مالا ، أو ما يتصل بالمال كالكفالة ، أو فيما ينقلب إلى المال كالقصاص ، والحد ليس شيئا منها فيبطل بالموت إذ لم يثبت دليل سمعي على استخلاف الشرع وارث من جعل له حق المطالبة أو وصيه في المطالبة التي جعلها شرطا لظهور حقه ، ومنها العفو ، فإنه بعدما ثبت عند الحاكم القذف والإحصان لو عفا المقذوف عن القاذف لا يصح منه ويحد عندنا ، ويصح عنده ، ولا يسقط عندنا الحد بعد ثبوته إلا أن يقول المقذوف لم يقذفني أو كذب شهودي ، وحينئذ يظهر أن القذف لم يقع موجبا للحد لا أنه وقع ثم سقط بقوله ذلك ، وهذا كما إذا صدقه المقذوف فإنه يبطل بمعنى ظهور أن القذف لم ينعقد موجبا للحد ، بخلاف العفو عن القصاص يسقط بعد وجوبه لأن المغلب فيه حق العبد .

ومنها أنه لا يجوز الاعتياض عنه عندنا ، وبه قال مالك ، وعنده يجوز وهو قول أحمد ويجري فيه التداخل عندنا ، وبه قال مالك ، حتى لو قذف شخصا مرات أو قذف جماعة كان فيه حد واحد إذا لم يتخلل حد بين القذفين .

ولو ادعى بعضهم فحد ففي أثناء الحد ادعى آخرون كمل ذلك الحد ، وعند الشافعي لا يجري فيه التداخل . وعن أبي يوسف في العفو مثل قول الشافعي وهو أنه يصح عفو المقذوف .

( قوله ومن أصحابنا من قال : إن الغالب في حد القذف حق العبد إلخ ) وما تقدم من بيان الأصل المختلف فيه وتفريع الأحكام المختلف فيها على الخلاف فيه هو الأظهر من جهة الدليل والأشهر لأنه قول عامة المشايخ ، وذهب صدر الإسلام أبو اليسر [ ص: 328 ] إلى أن المغلب فيه حق العبد كقول الشافعي ( وخرج الأحكام ) المختلف فيها على غير ذلك ، أما توجيه أن حق العبد غالب فلأن أكثر الأحكام تبنى عليه والمعقول يشهد له ، وهو أن العبد ينتفع به على الخصوص . وقد نص محمد في الأصل أن حد القذف حق العبد كالقصاص . وأما تخريج الأحكام فإنما فوض إلى الإمام لأن كل أحد لا يهتدي إلى الضرب الواجب أو لأنه ربما يزيد المقذوف في قوته لحنقه فيقع متلفا ; وإنما لا يورث لأنه مجرد حق ليس مالا ولا بمنزلته فهو كخيار الشرط ، وحق الشفعة بخلاف القصاص على ما قدمنا . وإنما لا يصح عفوه لأنه عفو عما هو مولى عليه فيه وهو الإقامة ، ولأنه متعنت في العفو لأنه رضي بالعار والرضا بالعار عار ، وهذا كما ترى تخريج لبعض الفروع المختلفة ، ثم لا يخفى ما في تخريجه عدم صحة العفو ، إذ لا يخفى أن كون المقذوف ينتفع به على الخصوص ممنوع ، بل فيه صيانة أعراض الناس عن خصوص القاذف ، وصيانة أعراض بعضهم عن بعض على العموم .

وأن العفو لا يستلزم الرضا بالعار بل قد لا يرضى الإنسان بما يكرهه ولا يعاقب عليه فاعله ، وكونه مولى عليه إنما هو في نفس الفعل للتهمة بسبب حنقه فلا ينفي أن يعفو فلا يعقل ذلك أصلا ، وما ذكرنا في ترجيح تغليب حق الله تعالى أوجه مما في الخبازية إن شاء الله تعالى .

وقول محمد إن وقع في موضع أنه حق الناس فقد وقع في آخر أنه حق الله تعالى

التالي السابق


الخدمات العلمية