صفحة جزء
والتعزير أكثره تسعة وثلاثون سوطا وأقله ثلاث جلدات . وقال أبو يوسف : يبلغ بالتعزير خمسة وسبعين سوطا والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام { من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين } وإذا تعذر تبليغه حدا فأبو حنيفة ومحمد نظرا إلى أدنى الحد وهو حد العبد في القذف فصرفاه إليه وذلك أربعون سوطا فنقصا منه سوطا . وأبو يوسف اعتبر أقل الحد في الأحرار إذ الأصل هو الحرية ثم نقص سوطا في رواية عنه ، وهو قول زفر وهو القياس ، وفي هذه الرواية نقص خمسة وهو مأثور عن علي فقلده [ ص: 349 ] ثم قدر الأدنى في الكتاب بثلاث جلدات لأن ما دونها لا يقع به الزجر ، وذكر مشايخنا أن أدناه على ما يراه الإمام فيقدر بقدر ما يعلم أنه ينزجر لأنه باختلاف الناس [ ص: 350 ] وعن أبي يوسف أنه على قدر عظم الجرم وصغره ، وعنه أن يقرب كل نوع من بابه ; فيقرب المس والقبلة من حد الزنا ، والقذف بغير الزنا من حد القذف . .


( قوله أكثره تسعة وثلاثون سوطا ) عند أبي حنيفة ( ومحمد وقال أبو يوسف يبلغ به خمسة وسبعين سوطا والأصل )

في نقصه عن المحدود ( قوله عليه الصلاة والسلام { من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين } ) ذكر البيهقي أن المحفوظ أنه مرسل ، وأخرجه عن خالد بن الوليد عن النعمان بن بشير ، ورواه ابن ناجية في فوائده : حدثنا محمد بن حصين الأصبحي ، حدثنا عمر بن علي المقدمي ، حدثنا مسعر عن خالد بن الوليد بن عبد الرحمن عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من بلغ " الحديث . ورواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار مرسلا فقال : أخبرنا مسعر بن كدام قال : أخبرني أبو الوليد بن عثمان عن الضحاك بن مزاحم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من بلغ " الحديث ، والمرسل عندنا حجة موجبة للعمل وعند أكثر أهل العلم ، وإذا لزم أن لا يبلغ به حدا فأبو حنيفة ومحمد نظرا إلى صرافة عموم النكرة في النفي فصرفاه إليه فنحاه عن حد الأرقاء لأن الأربعين يصدق عليها حد فلا يبلغ إليهما بالنص المذكور ، خصوصا والمحل محل احتياط في الدرء ( وأبو يوسف اعتبر أقل حدود الأحرار لأن الأصل الحرية ثم نقص سوطا في رواية ) هشام عنه ( وهو قول زفر وهو القياس ) لأنه يصدق عليه قولنا ليس حدا فيكون من أفراد المسكوت عن النهي عنه ، وفي ظاهر الرواية عنه خمسة وسبعون .

قيل وليس فيه معنى معقول ، وذكر أن سبب اختلاف الرواية عنه أنه أمر في تعزير رجل بتسعة وسبعين ، وكان يعقد لكل خمسة عقدا بأصابعه فعقد خمسة عشر ولم يعقد للأربعة الأخيرة لنقصانها عن الخمسة فظن الذي كان عنده أنه أمر بخمسة وسبعين ، وإنما أمر بتسعة وسبعين ، قال : وروي مثله عن عمر : يعني خمسة وسبعين وليس بصحيح : ونقل عن أبي الليث قال : [ ص: 349 ] قيل إن أبا يوسف أخذ النصف من حد الأحرار وأكثره مائة ، والنصف من حد العبيد وأكثره خمسون فتحصل خمسة وسبعون .

ومنع صحة اعتبار هذا الأخذ وهو لا يضره بعد أن أثره عن علي كما ذكر في الكتاب من أنه قلد عليا فيه ، وكونه لا يعقل يؤكده ، إذ الغرض أن ما لا يدرك بالرأي يجب تقليد الصحابي فيه ، وإنما يتم جوابه بمنع ثبوته عن علي كما قال أهل الحديث إنه غريب ، ونقله البغوي في شرح السنة عن ابن أبي ليلى ، وبقولنا قال الشافعي في الحر ، وقال في العبد تسعة عشر لأن حد العبد في الخمر عنده عشرون وفي الأحرار أربعون . وقال مالك : لا حد لأكثره ، فيجوز للإمام أن يزيد في التعزير على الحد إذا رأى المصلحة في ذلك مجانبا لهوى النفس ; لما روي أن معن بن زائدة عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال ثم جاء به لصاحب بيت المال فأخذ منه مالا ، فبلغ عمر ذلك فضربه مائة وحبسه ، فكلم فيه فضربه مائة أخرى ، فكلم فيه فضربه مائة ونفاه . وروى الإمام أحمد بإسناده أن عليا أتي بالنجاشي الشاعر قد شرب خمرا في رمضان فضربه ثمانين للشرب وعشرين سوطا لفطره في رمضان .

ولنا الحديث المذكور ، ولأن العقوبة على قدر الجناية فلا يجوز أن يبلغ بما هو أهون من الزنا فوق ما فرض بالزنا ، وحديث معن يحتمل أن له ذنوبا كثيرة أو كان ذنبه يشتمل كثرة منها لتزويره وأخذه مال بيت المال بغير حقه وفتحه باب هذه الحيلة ممن كانت نفسه عارية عن استشرافها ، وحديث النجاشي ظاهر أن لا احتجاج فيه ، فإنه نص على أن ضربه العشرين فوق الثمانين لفطره في رمضان ، وقد نصت على أنه لهذا المعنى أيضا الرواية الأخرى القائلة إن عليا أتي بالنجاشي الشاعر وقد شرب الخمر في رمضان فضربه ثمانين ثم ضربه من الغد عشرين ، وقال : ضربناك العشرين بجرأتك على الله تعالى وإفطارك في رمضان ، فأين الزيادة في التعزير على الحد في هذا الحديث . وعن أحمد لا يزاد على عشرة أسواط ، وعليه حمل بعض أصحاب الشافعي مذهب الشافعي لما اشتهر عنه من قوله : إذا صح الحديث فهو مذهبي ، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بردة أنه قال { لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله } وأجاب أصحابنا عنه وبعض الثقات بأنه منسوخ بدليل عمل الصحابة بخلافه من غير إنكار أحد .

وكتب عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما أن لا تبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطا ، ويروى ثلاثين إلى الأربعين . وبما ذكرنا من تقدير أكثره بتسعة وثلاثين يعرف أن ما ذكر مما تقدم من أنه ليس في التعزير شيء مقدر بل مفوض إلى رأي الإمام : أي من أنواعه ، فإنه يكون بالضرب وبغيره مما تقدم ذكره ، أما إن اقتضى رأيه الضرب في خصوص الواقعة فإنه حينئذ لا يزيد على تسعة وثلاثين ( قوله ثم قدر الأدنى في الكتاب ) يعني القدوري ( بثلاث جلدات ، لأن ما دونها لا يقع به الزجر ، وذكر مشايخنا أن أدناه على ما يراه الإمام بقدر ما يعلم أنه ينزجر به لأنه يختلف باختلاف الناس ) وجه مخالفة هذا الكلام لقول القدوري أنه لو رأى أنه ينزجر بسوط واحد اكتفى به ، وبه صرح في الخلاصة فقال : واختيار التعزير إلى القاضي من واحد إلى تسعة وثلاثين ومقتضى قول القدوري أنه إذا وجب التعزير بنوع الضرب فرأى الإمام أن هذا الرجل ينزجر بسوط واحد يكمل له ثلاثة ، لأنه حيث وجب التعزير بالضرب فأقل ما يلزم أقله إذ ليس وراء الأقل شيء وأقله ثلاثة ، ثم يقتضي أنه لو رأى أنه إنما ينزجر بعشرين كانت العشرون أقل ما يجب تعزيره به فلا يجوز نقصه عنه .

فلو رأى أنه لا ينزجر بأقل من تسعة وثلاثين كان على هذا أكثر التعزير فإنه [ ص: 350 ] أقل ما يجب منه في ذلك الرجل وتبقى فائدة تقدير أكثره بتسعة وثلاثين أن لو رأى أنه لا ينزجر إلا بأكثر من تسعة وثلاثين لا يبلغ قدر ذلك ويضربه الأكثر فقط . نعم يبدل ذلك القدر بنوع آخر وهو الحبس مثلا ( قوله وعن أبي يوسف أنه على قدر عظم الجرم وصغره ) واحتمال المضروب وعدم احتماله ( وعنه أنه يقرب كل نوع ) من أسباب التعزير ( من بابه ) فيقرب بالمس والقبلة للأجنبية والوطء فيما دون الفرج من حد الزنا والرمي بغير الزنا من المعاصي من حد القذف .

وكذا السكر من غير الخمر من شرب الخمر قيل : معناه يعزر في اللمس الحرام والقبلة أكثر جلدات التعزير ، ويعزر في قوله نحو يا كافر ويا خبيث أقل جلدات التعزير ، ولكن في فتاوى قاضي خان أن أسباب التعزير إن كان من جنس ما يجب به حد القذف يبلغ أقصى التعزير ، وإن كان من جنس ما لا يجب به حد القذف لا يجب أقصاه فيكون مفوضا إلى رأي الإمام .

التالي السابق


الخدمات العلمية