صفحة جزء
قال ( وإذا سرق العاقل البالغ عشرة دراهم أو ما يبلغ قيمته عشرة دراهم مضروبة من حرز لا شبهة فيه وجب القطع ) والأصل فيه [ ص: 356 ] قوله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } الآية ولا بد من اعتبار العقل والبلوغ لأن الجناية لا تتحقق دونهما والقطع جزاء الجناية ، ولا بد من التقدير بالمال الخطير لأن الرغبات تفتر في الحقير ، وكذا أخذه لا يخفى فلا يتحقق ركنه ولا حكمة الزجر لأنها فيما يغلب ، والتقدير بعشرة دراهم مذهبنا . وعند الشافعي التقدير بربع دينار . وعند مالك رحمة الله تعالى عليه بثلاثة دراهم . لهما أن القطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان إلا في ثمن المجن ، وأقل ما نقل في تقديره ثلاثة دراهم ، والأخذ بالأقل المتيقن به أولى ، [ ص: 357 ] غير أن الشافعي رحمه الله يقول : { كانت قيمة الدينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر درهما } والثلاثة ربعها . ولنا أن الأخذ بالأكثر في هذا الباب أولى احتيالا لدرء الحد . وهذا لأن في الأقل شبهة عدم الجناية وهي دارئة للحد ، وقد تأيد ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم { لا قطع إلا في دينار ، أو عشرة دراهم } [ ص: 358 ] واسم الدراهم ينطلق على المضروبة عرفا فهذا يبين لك اشتراط المضروب كما قال في الكتاب وهو ظاهر الرواية ، وهو الأصح رعاية لكمال الجناية ، [ ص: 359 ] حتى لو سرق عشرة تبرا قيمتها أنقص من عشرة مضروبة لا يجب القطع ، والمعتبر وزن سبعة مثاقيل لأنه هو المتعارف في عامة البلاد . وقوله أو ما يبلغ قيمته عشرة دراهم إشارة إلى أن غير الدراهم تعتبر قيمته بها وإن كان ذهبا ، ولا بد من حرز لا شبهة فيه لأن الشهادة دارئة ، وسنبينه من بعد إن شاء الله تعالى . .


( قوله وإذا سرق العاقل البالغ عشرة دراهم أو ما يبلغ قيمته عشرة دراهم مضروبة من حرز لا شبهة فيه وجب القطع ، والأصل في وجوب القطع قوله تعالى [ ص: 356 ] { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } الآية ولا بد من اعتبار العقل والبلوغ لأن الجناية لا تتحقق دونهما ) لأنها بالمخالفة والمخالفة فرع تعلق الخطاب ( قوله ولا بد من التقدير بالمال الخطير ) اختلف في أنه هل يقطع بكل مقدار من المال أو لا بد من مقدار معين لا يقطع في أقل منه ، فقال بالأول الحسن البصري وداود والخوارج وابن بنت الشافعي لإطلاق الآية ولقوله عليه الصلاة والسلام { لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ، ويسرق البيضة فتقطع يده } متفق عليه .

ومن سوى هؤلاء من فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار على أنه لا قطع إلا بمال مقدر لقوله عليه الصلاة والسلام { لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا } متفق عليه ، فلزم في الأول التأويل بالحبل الذي يبلغ عشرة دراهم ، وبالبيضة البيضة من الحديد أو النسخ ، ولو قيل ونسخه أيضا ليس أولى من نسخ ما رويتم . قلنا : لا تاريخ ; بقي وجه أولوية الحمل وهو مع الجمهور ، فإن مثله في باب الحدود متعين عند التعارض ، ثم قد نقل إجماع الصحابة على ذلك وبه يتقيد إطلاق الآية وبالعقل ، وهو أن الحقير مطلقا تفتر الرغبات فيه فلا يمنع أصلا كحبة قمح وهو مما يشمله إطلاق الآية ( وكذا لا يخفى أخذه فلا يتحقق ) بأخذه ( ركن السرقة ) وهو الأخذ خفية ( ولا حكمة الزجر ) أيضا ( لأنها فيما يغلب ) فإن ما لا يغلب لا يحتاج إلى شرع الزاجر لأنه لا يتعاطى فلا حاجة إلى الزجر عنه ، فهذا مخصص عقلي بعد كونها مخصوصة بما ليس من حرز بالإجماع . ثم اختلف الشارطون لمقدار معين في تعيينه ، فذهب أصحابنا في جماعة من التابعين إلى أنه عشرة دراهم ، وذهب الشافعي إلى أنه ربع دينار ، وذهب مالك وأحمد إلى أنه ربع دينار أو ثلاثة دراهم ، لما روي من مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة بنت عبد الرحمن أن سارقا سرق في زمن عثمان بن عفان أترجة فأمر بها عثمان فقومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر بدينار فقطع عثمان يده .

قال مالك : أحب ما يجب فيه القطع إلى ثلاثة دراهم سواء ارتفع الصرف [ ص: 357 ] أو اتضع ، وذلك { لأنه عليه الصلاة والسلام قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم } ، وعثمان قطع في أترجة قيمتها ثلاثة دراهم ، وهذا أحب ما سمعت إلي انتهى . وكون المجن بثلاثة في حديث ابن عمر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم } . أخرجه الشيخان . وفي لفظ لهما عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم { لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا } ( غير أن الشافعي يقول : { كانت قيمة الدينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر درهما } فالثلاثة ربعها ) وفي مسند أحمد عن عائشة عنه عليه الصلاة والسلام { اقطعوا في ربع دينار ، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك } وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم ، وقد ظهر أن المراد مما ذكر المصنف من قوله أن القطع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان إلا في ثمن المجن أنه ما كان إلا في مقدار ثمنه لا حقيقة اللفظ وهي أن المسروق كان نفس ثمنه فقطع به إذ ليس كذلك ، بل المسروق كان نفس المجن فقطع به وكانت قيمته ثلاثة دراهم ( ولنا أن الأخذ بالأكثر في هذا الباب أولى احتيالا للدرء ) فعرف أنه قد قيل في ثمن المجن أكثر مما ذكر ، ويريد بذلك حديث أيمن ، رواه الحاكم في المستدرك عن مجاهد { عن أيمن قال : لم تقطع اليد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن المجن ، وثمنه يومئذ دينار } وسكت عنه .

ونقل عن الشافعي أنه قال لمحمد بن الحسن رضي الله عنه : هذه { سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع في ربع دينار فصاعدا } ، فكيف قلت : لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم فصاعدا ؟ فقال : قد روى شريك عن مجاهد عن أيمن بن أم أيمن أخي أسامة بن زيد : لأمه ، وأن الشافعي أجاب بأن أيمن بن أم أيمن قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قبل أن يولد مجاهد . قال ابن أبي حاتم في المراسيل : وسألت أبي عن حديث رواه الحسن بن صالح عن منصور عن الحكم عن عطاء ومجاهد عن أيمن وكان فقيها قال : { تقطع يد السارق في ثمن المجن ، وكان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا } ، قال أبي : هو مرسل ، وأرى أنه والد عبد الواحد بن أيمن وليس له صحبة ، وظهر بهذا القدر أن أيمن اسم للصحابي فهو ابن أم أيمن ، وأنه استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين واسم لتابعي آخر . وقال أبو الحجاج المزي في كتابه : أيمن الحبشي مولى بني مخزوم ، روى عن سعد وعائشة وجابر . وروى عنه ابنه عبد الواحد وثقه أبو زرعة ، ثم قال أيمن مولى ابن الزبير ، وقيل مولى ابن أبي عمر .

عن النبي صلى الله عليه وسلم في السرقة إلى أن قال : وعنه عطاء ومجاهد ، قال النسائي : ما أحسب أن له صحبة ، فقد جعله اسما لتابعيين ، وأما ابن أبي حاتم وابن حبان فجعلاهما واحدا ، قال ابن أبي حاتم : أيمن الحبشي مولى ابن أبي عمر روى عن عائشة وجابر ، روى عنه مجاهد وعطاء وابنه عبد الواحد قال : سمعت أبي يقول ذلك وسئل أبو زرعة عن أيمن والد عبد الواحد فقال : مكي ثقة . وقال ابن حبان في الثقات : أيمن بن عبيد الحبشي مولى لابن أبي عمر المخزومي من أهل مكة روى عن عائشة وروى عنه مجاهد وعطاء ، وابنه عبد الواحد بن أيمن ، [ ص: 358 ] وكان أخا أسامة بن زيد لأمه ، وهو الذي يقال له أيمن بن أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ومن زعم أن له صحبة فقد وهم ، حديثه في القطع مرسل ، فهذا يخالف الشافعي وغيره ممن ذكر أن أيمن بن أم أيمن قتل يوم حنين وأنه صحابي حيث جعله من التابعين ، وهكذا فعل الدارقطني في سننه ، أيمن لا صحبة له وهو من التابعين ، ولم يدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء بعده ، وهو الذي يروي { عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ثمن المجن دينار ، } روى عنه ابنه عبد الواحد وعطاء ومجاهد .

والحاصل أنه اختلف في أيمن راوي قيمة المجن هل هو صحابي أو تابعي ثقة ، فإن كان صحابيا فلا إشكال . وإن كان تابعيا ثقة كما ذكره أبو زرعة الإمام العظيم الشأن وابن حبان فحديثه مرسل . والإرسال ليس عندنا ولا عند جماهير العلماء قادحا بل هو حجة فوجب اعتباره ، وحينئذ فقد اختلف في تقويم ثمن المجن أهو ثلاثة أو عشرة فيجب الأخذ بالأكثر هنا لإيجاب الشرع الدرء ما أمكن في الحدود ، ثم يقوى بما رواه النسائي أيضا بسنده عن ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : { كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم } ، وأخرجه الدارقطني أيضا ، وأخرجه هو وأحمد في مسنده عن الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وكذا إسحاق بن راهويه .

، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب اللقطة عن سعيد بن المسيب عن رجل من مزينة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ما بلغ ثمن المجن قطعت : يد صاحبه } وكان ثمن المجن عشرة دراهم . قال المصنف : وتأيد ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم ، { لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم } وهذا بهذا اللفظ موقوف على ابن مسعود وهو مرسل عنه رواه عبد الرزاق . ومن طريقه الطبراني في معجمه . وأشار إليه الترمذي في كتابه الجامع فقال : وقد روي عن ابن مسعود أنه قال لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم . وهو مرسل رواه القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود ، والقاسم بن عبد الرحمن يسمع من ابن مسعود انتهى .

وهو صحيح لأن الكل ما رووه إلا عن القاسم ، لكن في مسند أبي حنيفة من رواية ابن مقاتل عن أبي حنيفة عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه { عن عبد الله بن مسعود قال : كان قطع اليد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة دراهم } ، وهذا موصول وفي رواية خلف بن ياسين عن أبي حنيفة : { إنما كان القطع في عشرة دراهم } . وأخرجه ابن حرب من حديث محمد بن الحسن عن أبي حنيفة يرفعه { لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم } فهذا موصول مرفوع ، ولو كان موقوفا لكان له حكم الرفع لأن المقدرات الشرعية لا دخل للعقل فيها فالموقوف فيها محمول على الرفع ( قوله واسم الدراهم ) يعني في الحديث وهو قوله أو عشرة دراهم ( ينطلق على المضروبة عرفا ) فإذا أطلق بلا قيد ، فهو وجه اشتراط كونها مضروبة في القطع كما ذكره في القدوري ( وهو ظاهر الرواية وهو الأصح ) للظاهر من الحديث و ( رعاية لكمال الجناية ) لأنها شرط العقوبة ، وشروط العقوبات يراعى وجودها على وجه الكمال .

ولهذا شرطنا الجودة حتى لو كانت زيوفا لا يقطع [ ص: 359 ] بها ، ولو تجوز بها لأن نقصان الوصف بنقصان الذات ، وعن أبي يوسف يقطع بها إذا كانت رائجة ( حتى لو سرق عشرة تبرا ) أي فضة غير مضروبة صكا ( قيمتها أقل من عشرة مصكوكة لا يجب القطع ) على ظاهر المذهب وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يقطع للإطلاق المذكور وأنت تعلم أن المطلق يقيد بالعرف والعادة ( قوله والمعتبر وزن سبعة ) يعني المعتبر في وزن الدراهم التي يقطع بعشرة منها ما يكون وزن عشرة وزن سبعة ( كما قيل ) كما في الزكاة . وتقدم بحثنا فيها في الزكاة وهو أنه ينبغي أن يراعى أقل ما كان من الدراهم على ما قالوا ، وأما هنا فمقتضى ما ذكروه من أن { الدراهم كانت في زمنه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف . صنف وزن خمسة ، وصنف وزن ستة . وصنف وزن عشرة } أن يعتبر في القطع وزن عشرة ، فهذا مقتضى أصلهم في ترجيح تقدير المجن بعشرة بأنه أدرأ للحد ، وما كان دارئا كان أولى .

لا يقال : هذا إحداث قول ثالث لأنا نقول : لا نسلم فإنه إنما يكون ذلك إذا تحققنا أن كل من قدر نصاب القطع بعشرة قدر العشرة بوزن سبعة وهو ممنوع فإن ممن نقل تقديره بعشرة سفيان الثوري وعطاء ولم ينقل تقديرهما بوزن سبعة فلا يتحقق لزوم القول الثالث ، ثم هذا البحث إلزام على قولهم إن وزن سبعة لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما إن قيل كالشافعية إنها كانت كذلك في زمنه صلى الله عليه وسلم فلا ( قوله وقوله ) أي قول القدوري ( أو ما يبلغ قيمته عشرة إشارة إلى أن غير الدراهم تعتبر قيمته بالدراهم وإن كان ذهبا ) حتى لو سرق دينارا قيمته أقل من عشرة لا يقطع . ذكره في المحيط . قال : والمراد من الدينار المذكور أنه يقطع به في الحديث ما يكون متقوما به لا قيمة الوقت ، أي يكون دينارا قيمته عشرة [ ص: 360 ] دراهم فضة جياد بوزن سبعة مثاقيل أو أكثر سواء كانا في الوقت كذلك أو لا فلا اعتبار للوقت لأنه يزيد وينقص فيه السعر ، ولا بد من كون قيمة غير الفضة بعشرة يوم السرقة ووقت القطع حتى لو نقص القيمة وقت القطع عن عشرة لم يقطع ، إلا إن كان النقص بسبب عيب دخله أو فوات بعض العين ، فعلى هذا إذا سرق في بلد ما قيمته فيها عشرة فأخذ في أخرى وقيمتها فيها أقل لا يقطع ، وفي قول الطحاوي يعتبر وقت الإخراج من الحرز فقط .

ولو سرق أقل من وزن عشرة فضة تساوي عشرة مصكوكة لا يقطع لأنه يخالف النص . وهو قوله { لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم } في محل النص ، وهو أن يسرق وزن عشرة ، ولا بد من ثبوت دلالة القصد إلى النصاب المأخوذ ، وعليه ذكر في التجنيس من علامة النوازل : سرق ثوبا قيمته دون العشرة وعلى طرفه دينار مشدود لا يقطع ، وذكر من علامة فتاوى أئمة سمرقند : إذا سرق ثوبا لا يساوي عشرة وفيه دراهم مضروبة لا يقطع ، وقال : وهذا إذا لم يكن الثوب وعاء للدراهم عادة ، فإن كان يقطع لأن القصد فيه يقع على سرقة الدراهم ، ألا يرى أنه لو سرق كيسا فيه دراهم كثيرة يقطع وإن كان الكيس يساوي درهما ، ولا بد من أن يكون للمسروق منه يد صحيحة حتى لو سرق عشرة وديعة عند رجل ولو لعشرة رجال يقطع ، بخلاف السارق من السارق على الخلاف وأن يخرجه ظاهرا حتى لو ابتلع دينارا في الحرز وخرج لا يقطع ، ولا ينتظر أن يتغوطه بل يضمن مثله لأنه استهلكه وهو سبب الضمان للحال وأن يخرج النصاب بمرة واحدة ، فلو أخرج بعضه ثم دخل وأخرج باقيه لا يقطع .

التالي السابق


الخدمات العلمية