صفحة جزء
باب ما يقطع فيه وما لا يقطع [ ص: 364 ]

( ولا قطع فيما يوجد تافها مباحا في دار الإسلام كالخشب والحشيش والقصب والسمك والطير والصيد والزرنيخ والمغرة والنورة ) والأصل فيه حديث { عائشة قالت : كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام في الشيء التافه } ، أي الحقير ، وما يوجد جنسه مباحا ، في الأصل بصورته غير مرغوب فيه حقير تقل الرغبات فيه [ ص: 365 ] والطباع لا تضن به ، فقلما يوجد أخذه على كره من المالك فلا حاجة إلى شرع الزاجر ، ولهذا لم يجب القطع في سرقة ما دون النصاب ولأن الحرز فيها ناقص ; ألا يرى أن الخشب يلقى على الأبواب وإنما يدخل في الدار للعمارة لا للإحراز والطير يطير والصيد يفر وكذا الشركة العامة التي كانت فيه وهو على تلك الصفة تورث الشبهة ، والحد يندرئ بها . ويدخل في السمك المالح والطري ، وفي الطير الدجاج والبط والحمام لما ذكرنا ولإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام { لا قطع في الطير } [ ص: 366 ] وعن أبي يوسف أنه يجب القطع في كل شيء إلا الطين والتراب والسرقين وهو قول الشافعي ، والحجة عليهما ما ذكرنا .


( باب ما يقطع فيه وما لا يقطع )

ما يقطع فيه هو المسروق ، وهو متعلق السرقة إذ هو محلها : فهو ثان بالنسبة إلى نفس الفعل فلذا أخره عن [ ص: 364 ] بيان السرقة وما يتصل بها ( قوله لا قطع فيما يوجد تافها مباحا في دار الإسلام ) أي إذا سرق من حرز لا شبهة فيه بعد أن أخذ وأحرز وصار مملوكا .

التافه والتفه : الحقير الخسيس من باب لبس ( كالخشب والحشيش والقصب والسمك والطير والصيد ) بريا أو بحريا ( والزرنيخ والمغرة ) وهو بفتح الغين المعجمة : الطين الأحمر ويجوز إسكانها ( والنورة ) ( قوله الأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها ) هو ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه . ومسنده : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن هشام بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة قالت { : لم يكن السارق يقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه } . زاد في مسنده : { ولم يقطع في أدنى من ثمن حجفة أو ترس } .

ورواه مرسلا أيضا : حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه ، وكذا رواه عبد الرزاق في مصنفه : أخبرنا ابن جريج عن هشام به ، وكذا إسحاق بن راهويه . أخبرنا عيسى بن يونس عن هشام ، ورواه ابن عدي في الكامل مسندا أخرجه عن عبد الله بن قبيصة الفزاري عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة ، ولم يقل في عبد الله هذا شيئا إلا أنه قال لم يتابع عليه ، ولم أر للمتقدمين فيه كلاما فذكرته لأبين أن في رواياته نظرا ، ولا يخفى أن هذه المرسلات كلها حجة ، وقد تقدم وصله من حديث ابن أبي شيبة ومتابعة عبد الرحيم بن سليمان ، وإذا عرف هذا قال المصنف ( ما يوجد جنسه مباحا في الأصل بصورته ) أي الأصلية بأن لم تحدث فيه صنعة متقومة ( غير مرغوب فيه حقير ) فيكون متناول النص فلا يقطع بالحديث المذكور والكتاب مخصوص بقاطع فجاز مطلقا وقوله ( بصورته ) ليخرج الأبواب والأواني والخشب .

و ( غير مرغوب فيه ) ليخرج نحو المعادن من الذهب والفضة والصفر واليواقيت واللؤلؤ ونحوها من الأحجار لكونها مرغوبا فيها فيقطع في كل ذلك . وعلى هذا نظر بعضهم في الزرنيخ فقال : ينبغي أن يقطع به لأنه يحرز ويصان في دكاكين العطارين كسائر الأموال بخلاف الخشب ، لأنه إنما يدخل الدور للعمارة فكان إحرازه ناقصا ، بخلاف الساج والأبنوس . واختلف في الوسمة والحناء والوجه القطع لأنه جرت العادة بإحرازه في الدكاكين .

وقوله ( تقل الرغبات فيه ) يعني فلا تتوفر الدواعي على استحصاله وعلى المعالجة [ ص: 365 ] في التوصل إليه ( ولا تضن به الطباع ) إذا أحرز ، حتى إنه ( قلما يوجد أخذه على كره من المالك ) ولا ينسب إلى الجناية بناء على أن الضنة بها تعد من الخساسة . وما هو كذلك لا يحتاج إلى شرع الزاجر فيه كما دون النصاب . قال المصنف ( ولأن الحرز فيه ناقص ) فإن الخشب بصورته الأولى يلقى على الأبواب ، وإنما يدخل في الدار للعمارة لا للإحراز ، وذلك في زمانهم . وأما في زماننا فيحرز في دكاكين التجار .

قال ( والطير يطير ) يعني من شأنه ذلك وبذلك تقل الرغبات فيه . والوجه أن قوله والطير يطير من بيان نقصان الحرز إلا أن هذا الوجه قاصر عن جميع صور الدعوى ( وكذا الشركة العامة التي كانت فيه ) أي في الصيد قبل الإحراز بقوله عليه الصلاة والسلام { الصيد لمن أخذه } ( وهو ) حال كونه ( على تلك الصفة ) أي الأصلية ( تورث ) الشركة العامة فيه ( شبهة ) بعد الإحراز فيمتنع القطع . والوجه أن يحمل على أن الشبهة العامة الثابتة في الكل بالإباحة لأصلها ثابتة بالإجماع ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام { الناس شركاء في ثلاثة } فإنما يتناول الحشيش والقصب بلفظ الكلإ ففيه قصور أيضا . قال ( ويدخل في السمك المالح والطري ) وصوابه السمك المليح أو المملوح ( وفي الطير الدجاج والبط والحمام لما ذكرنا ) يعني قوله والطير يطير فيقل إحرازه عنه .

وأما قوله ( ولإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم { لا قطع في الطير } ) فحديث لا يعرف رفعه ، بل رواه عبد الرزاق بسند فيه جابر الجعفي عن عبد الله بن يسار ، قال : أتي عمر بن عبد العزيز برجل سرق دجاجة فأراد أن يقطعه . فقال له سلمة بن عبد الرحمن قال عثمان : لا قطع في الطير ، ورواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي عن زهير بن محمد عن يزيد بن خصيفة قال : أتي عمر بن عبد العزيز برجل قد سرق طيرا فاستفتى في ذلك السائب بن يزيد ، فقال : ما رأيت أحدا قطع في الطير ، وما عليه في ذلك قطع ، فتركه عمر . فإن كان هذا مما لا مجال للرأي فيه فحكمه حكم السماع ، وإلا فتقليد الصحابي عندنا [ ص: 366 ] واجب لما عرف .

( قوله وعن أبي يوسف أنه يجب القطع في كل شيء إلا الطين والتراب والسرقين ) وروي عنه إلا في الماء والتراب والطين والجص والمعازف والنبيذ ، لأن ما سوى هذه أموال متقومة محرزة فصارت كغيرها ، والإباحة الأصلية زالت وزال أثرها بالإحراز بعد التملك ( وهو قول الشافعي والحجة عليهما ما ذكرنا ) من حديث عائشة وثبوت الشبهة .

التالي السابق


الخدمات العلمية