صفحة جزء
[ ص: 435 - 436 ] قال ( الجهاد فرض على الكفاية [ ص: 437 ] إذا قام به فريق من الناس سقط عن الباقين ) أما الفرضية فلقوله تعالى { فاقتلوا المشركين } [ ص: 438 ] ولقوله عليه الصلاة والسلام { الجهاد ماض إلى يوم القيامة } وأراد به فرضا باقيا ، وهو فرض على الكفاية ; لأنه ما فرض لعينه إذ هو إفساد في نفسه ، وإنما فرض لإعزاز دين الله ودفع الشر عن العباد ، [ ص: 439 ] فإذا حصل المقصود بالبعض سقط عن الباقين كصلاة الجنازة ورد السلام ( فإن لم يقم به أحد أثم جميع الناس بتركه ) لأن الوجوب على الكل ، ولأن في اشتغال الكل به قطع مادة الجهاد من الكراع والسلاح فيجب على الكفاية ( إلا أن ) ( يكون النفير عاما ) فحينئذ يصير من فروض الأعيان [ ص: 440 ] لقوله تعالى { انفروا خفافا وثقالا } الآية . وقال في الجامع الصغير : الجهاد واجب إلا أن المسلمين في سعة حتى يحتاج إليهم ، فأول هذا الكلام إشارة إلى الوجوب على الكفاية [ ص: 441 ] وآخره إلى النفير العام ، وهذا لأن المقصود عند ذلك لا يتحصل إلا بإقامة الكل فيفترض على الكل ( وقتال الكفار واجب ) وإن لم يبدءوا للعمومات


( قوله الجهاد فرض على الكفاية [ ص: 437 ] إذا قام به فريق من الناس سقط عن الباقين ) وهذا واقع موقع تفسير فرض الكفاية ( أما الفرضية فلقوله تعالى { فاقتلوا المشركين } ) حيث وجدتموهم وقوله تعالى { فقاتلوا أئمة الكفر } وقوله تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } وقوله تعالى { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } وقوله تعالى انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله وقوله عليه الصلاة والسلام { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله } والتخصيص المعتبر عند أهل الأصول قصر العام على بعض ما يتناوله بدليل مستقل لفظي مقارن للمعنى ، وبهذه ينتفي ما نقل عن الثوري وغيره أنه ليس بفرض وأن الأمر به للندب ، وكذا { كتب عليكم } كقوله { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية } ونقل عن ابن عمر .

ويجب حمله إن صح على أنه ليس بفرض عين . فإن قلت : كيف يثبت الفرض وهي عمومات مخصوصة ، والعام المخصوص ظني الدلالة ، وبه لا يثبت الفرض ؟ والجواب أن المخرج من الصبيان والمجانين مخصوص بالعقل على ما عرف وبالتخصيص به لا يصير العام ظنيا ، وأما غيرهما فنفس النص ابتداء تعلق بغيرهما فلم يكن من قبيل المخصوص ، وذلك أن النص مقرون بما يقيده بغيرهم وهو من حيث يحارب لقوله تعالى { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } فأفاد أن قتالنا المأمور به جزاء لقتالهم ومسبب عنه ، وكذا قوله تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } أي لا تكون منهم فتنة للمسلمين عن دينهم بالإكراه بالضرب والقتل ، وكان أهل مكة يفتنون من أسلم بالتعذيب حتى يرجع عن الإسلام على ما عرف في السير ، فأمر الله سبحانه بالقتال لكسر شوكتهم فلا يقدرون [ ص: 438 ] على تفتين المسلم عن دينه ، فكان الأمر ابتداء بقتال من بحيث يحارب من المشركين بالحديث الصحيح ، وقد أكد هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الروايات الصحيحة لحديث النهي عن قتل النساء حين رأى المقتولة { ما كانت هذه تقاتل } وأما قوله صلى الله عليه وسلم { الجهاد ماض إلى يوم القيامة } فدليل على وجوبه ، وأنه لا ينسخ ، وهذا لأن خبر الواحد لا يفيد الافتراض .

وقول صاحب الإيضاح إذا تأيد خبر الواحد بالكتاب والإجماع يفيد الفرضية ممنوع ، بل المفيد حينئذ الكتاب والإجماع ، وجاء الخبر على وفقهما ، والحديث رواه أبو داود من حديث أنس رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم من حديث { والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال ، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل ، والإيمان بالأقدار } فيه يزيد بن أبي شيبة من بني سليم لم يرو عنه إلا جعفر بن برقان ، وعن هذا والله أعلم قال المنذري : هو في معنى المجهول . ولا شك [ ص: 439 ] أن إجماع الأمة أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة لم ينسخ ، فلا يتصور نسخه بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا قائل أن بقتال آخر الأمة الدجال ينتهي وجوب الجهاد . وأما كونه على الكفاية فلأن المقصود منه ليس مجردا ابتلاء المكلفين بل إعزاز الدين ، ودفع شر الكفار عن المؤمنين بدليل قوله تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } ( فإذا حصل ذلك بالبعض سقط ) هو لحصول ما هو المقصود منه ( كصلاة الجنازة ) المقصود منها قضاء حق الميت والإحسان إليه .

وذهب ابن المسيب إلى أنه فرض عين تمسكا بعين الأدلة المذكورة ; إذ بمثلها يثبت فروض الأعيان . قلنا : نعم لولا قوله تعالى { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون } الآية إلى قوله تعالى { وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما } ولأنه لو كان عينا لاشتغل الناس كلهم به فيتعطل المعاش على ما لا يخفى بالزراعة والجلب بالتجارة ويستلزم ( قطع مادة الجهاد من الكراع ) يعني الخيل ( والسلاح ) والأقوات فيؤدي إيجابه على الكل إلى تركه للعجز ( فلزم أن يجب على الكفاية ) ولا يخفى أن لزوم ما ذكر إنما يثبت إذا لزم في كونه فرض عين أن يخرج الكل من الأمصار دفعة واحدة ، وليس ذلك لازما بل يكون كالحج على الكل ، ولا يخرج الكل بل يلزم كل واحد أن يخرج ففي مرة طائفة وفي مرة طائفة أخرى وهكذا ، وهذا لا يستلزم تعطيل المعاش ، فالمعول عليه في ذلك نص { لا يستوي القاعدون } ثم هذا ( إذا لم يكن النفير عاما ، فإن كان ) بأن هجموا على بلدة من بلاد المسلمين ( فيصير من فروض الأعيان ) سواء كان المستنفر عدلا أو فاسقا فيجب على جميع أهل تلك البلدة النفر ، وكذا من يقرب منهم إن لم يكن بأهلها كفاية وكذا من يقرب ممن يقرب إن لم يكن بمن يقرب كفاية أو تكاسلوا أو عصوا ، وهكذا إلى أن يجب على جميع [ ص: 440 ] أهل الإسلام شرقا وغربا ، كجهاز الميت والصلاة عليه يجب أولا على أهل محلته ، فإن لم يفعلوا عجزا وجب على من ببلدهم على ما ذكرنا هكذا ذكروا ، وكأن معناه إذا دام الحرب بقدر ما يصل الأبعدون وبلغهم الخبر وإلا فهو تكليف بما لا يطاق .

بخلاف إنفاذ الأسير وجوبه على الكل متجه من أهل المشرق والمغرب ممن علم ، ويجب أن لا يأثم من عزم على الخروج ، وقعوده لعدم خروج الناس وتكاسلهم أو قعود السلطان أو منعه ، واستدل على ذلك بقوله تعالى { . انفروا خفافا وثقالا } قيل المراد به ركبانا ومشاة ، وقيل شبابا وشيوخا ، وقيل عزابا ومتزوجين ، وقيل أغنياء وفقراء .

وينبغي أن يقال قول آخر وهو كل من هذه : أي انفروا مع كل حال من هذه الأحوال . وحاصلها أنه لم يعذر أحدا فأفاد العينية ، وفيه نظر ; لأن الجهاد على كل من ذكر في التفسير المذكور على الكفاية فلا يفيد تعيينها العينية ، بل الحق أن هذه الآية وما تقدم من الآيات كلها لإفادة الوجوب ، ثم تعرف الكفاية بالآية المتقدمة ، وأما العينية في النفير العام فبالإجماع لأنه من إغاثة الملهوف والمظلوم ، وهذا من جهة الدراية . ثم ذكر الرواية وهو قول محمد ( الجهاد واجب إلا أن المسلمين في سعة من تركه حتى يحتاج إليهم ) قال ( فأول هذا الكلام ) يعني قوله : واجب وأنهم في سعة من تركه ( إشارة إلى أن الوجوب على الكفاية ) [ ص: 441 ] لا يمكن أن يراد ترك الكل وإلا لم يكن واجبا فهو ترك البعض ( وآخره ) وهو قوله حتى يحتاج إليهم ( يفيد العينية ) إذ صار الحاصل لأنه واجب يسع البعض تركه إلا أن يحتاج فلا يسع ، ولا بد من الاستطاعة فيخرج المريض المدنف .

وأما الذي يقدر على الخروج دون الدفع ينبغي أن يخرج لتكثير السواد فإن فيه إرهابا . ونفر القوم نفرا ونفيرا إذا خرجوا ( قوله وقتال الكفار ) الذين لم يسلموا وهم من مشركي العرب أو لم يسلموا ولم يعطوا الجزية من غيرهم ( واجب وإن لم يبدءونا ) لأن الأدلة الموجبة له لم تقيد الوجوب ببداءتهم ، وهذا معنى قوله ( للعمومات ) [ ص: 442 ] لا عموم المكلفين ، لأنه إنما يفيد الوجوب على كل واحد فقط فالمراد إطلاق العمومات في بداءتهم وعدمها خلافا لما نقل عن الثوري . والزمان الخاص كالأشهر الحرم وغيرها خلافا لعطاء ، ولقد استبعد ما عن الثوري وتمسكه بقوله تعالى { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } فإنه لا يخفى عليه نسخه .

وصريح قوله في الصحيحين وغيرهما { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله } الحديث يوجب أن نبدأهم بأدنى تأمل ، وحاصر صلى الله عليه وسلم الطائف لعشر بقين من ذي الحجة إلى آخر المحرم أو إلى شهر .

وقد يستدل على نسخ الحرمة في الأشهر الحرم بقوله تعالى { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وهو بناء على التجوز بلفظ حيث في الزمان ، ولا شك أنه كثر في الاستعمال

التالي السابق


الخدمات العلمية