صفحة جزء
[ ص: 444 ] ( باب كيفية القتال )

( وإذا دخل المسلمون دار الحرب فحاصروا مدينة أو حصنا دعوهم إلى الإسلام ) لما روى ابن عباس رضي الله عنهما { أن النبي عليه الصلاة والسلام [ ص: 445 ] ما قاتل قوما حتى دعاهم إلى الإسلام } قال ( فإن أجابوا كفوا عن قتالهم ) لحصول المقصود ، وقد قال صلى الله عليه وسلم { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله } الحديث . [ ص: 446 ] ( وإن امتنعوا دعوهم إلى أداء الجزية ) به أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام أمراء الجيوش ، ولأنه أحد ما ينتهي به القتال على ما نطق به النص ، وهذا في حق من تقبل منه الجزية ، ومن لا تقبل منه كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب لا فائدة في دعائهم إلى قبول الجزية لأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام ، قال الله تعالى { تقاتلونهم أو يسلمون } ( فإن بذلوها فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ) لقول علي رضي الله عنه : إنما بذلوا الجزية ليكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا ، والمراد بالبذل القبول وكذا المراد بالإعطاء المذكور فيه في القرآن ، والله أعلم


( باب كيفية القتال )

لما ذكر أن القتال لازم فلا بد أن يفعله ، وفعله على حد محدود شرعا فلا بد من بيانه فشرع فيه فقال : ( وإذا دخل المسلمون دار الحرب ) يصح أن يكون عطفا على قوله الجهاد فرض على الكفاية عطف جملة ، وأن يكون واو استئناف ( فحاصروا مدينة ) وهي البلدة الكبيرة فعيلة من مدن بالمكان أقام به ( أو حصنا ) وهو المكان المحصن الذي لا يتوصل إلى ما في جوفه ( دعوهم إلى الإسلام ) فإن لم تبلغهم الدعوة فهو على سبيل الوجوب ، لأنه [ ص: 445 ] صلى الله عليه وسلم أمر بذلك أمراء الأجناد ، فمن ذلك ما أخرج الجماعة إلا البخاري من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه . وألفاظ بعضهم تزيد على بعض وتختلف قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : اغزوا بسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث أو خلال ، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم . ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم إن تخفروا ذمتكم وذمة أصحابكم خير من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه ، وإذا أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم فإنك لا تدري أصبت حكم الله فيهم أم لا ، ثم اقضوا فيهم بعد ما شئتم }

وفي الأحاديث في ذلك كثرة .

وفي نفس هذا الحكم شهرة وإجماع ، ولأن بالدعوة يعلمون أنا ما نقاتلهم على أخذ أموالهم وسبي عيالهم فربما يجيبون إلى المقصود من غير قتال فلا بد من الاستعلام وأما حديث ابن عباس المذكور في الكتاب فرواه عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن أبيه عن ابن عباس قال { ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما حتى دعاهم } رواه الحاكم وصححه ، ولو قاتلوهم قبل الدعوة أثموا ، ولكن لا غرامة بما أتلفوا من نفس ولا مال من دية ولا ضمان لأن مجرد حرمة القتل لا توجب ذلك كما لو قتلوا النساء والصبيان .

وذلك لانتفاء العاصم وهو الإسلام ، والإحراز بدار الإسلام .

وفي المحيط : بلوغ الدعوة حقيقة أو حكما بأن استفاض شرقا وغربا أنهم إلى ماذا يدعون وعلى ماذا يقاتلون فأقيم ظهورها مقامها انتهى .

ولا شك أن في بلاد الله تعالى من لا شعور له بهذا الأمر فيجب أن المدار عليه ظن أن هؤلاء لم تبلغهم الدعوة فإذا كانت بلغتهم لا تجب ولكن يستحب .

أما عدم الوجوب فلما في الصحيحين عن ابن عوف : كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال فكتب إلي : إنما كان ذلك أول الإسلام { قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون ، وأنعامهم تسقى على الماء ، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث حدثني به عبد الله بن عمر وكان في ذلك الجيش } .

وروى أبو داود وغيره عن أسامة بن زيد { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إليه فقال : أغر على أبنى صباحا وحرق } والغارة لا يكون مع دعوة . وأبنى بوزن حبلى موضع من فلسطين بين عسقلان والرملة ، ويقال يبنى بياء مضمومة آخر الحروف ، وقيل اسم قبيلة . وأما [ ص: 446 ] الاستحباب فلأن التكرار قد يجدي المقصود فينعدم الضرر الأعلى ، وقيد هذا الاستحباب بأن لا يتضمن ضررا بأن يعلم بأنهم بالدعوة يستعدون أو يحتالون أو يتحصنون ، وغلبة الظن في ذلك بما يظهر من أحوالهم كالعلم بل هو المراد ، وإذا فحقيقته يتعذر الوقوف عليها ، فإن أجاب المدعو أو غيره إلى الإسلام فلا إشكال ، والحديث المشهور جعله غاية الأمر بالقتال حيث قال { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وإن امتنعوا دعوهم إلى أداء الجزية بهذا أمر عليه الصلاة والسلام أمراء الأجناد } وقد ذكرناه من حديث بريدة ( ولأنه أحد ما ينتهي به القتال كما نطق به النص ) قوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } إلى قوله سبحانه { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وهذا إن لم يكونوا مرتدين ولا مشركي العرب ، فإن هؤلاء لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف على ما سيتضح ( فإن بذلوها ) أي قبلوها ( وكذا هو المراد بالإعطاء المذكور في القرآن ) بالإجماع ، وقد قال علي : إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا .

والأحاديث في هذا كثيرة ، بل هو من الضروريات ، [ ص: 447 ] ومعنى حديث علي رواه الشافعي في مسنده . أخبرنا محمد بن الحسن الشيباني ، أنبأنا قيس بن الربيع الأسدي عن أبان بن تغلب عن الحسن بن ميمون عن أبي الجنوب قال : قال علي من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا ودينه كديننا وضعف الدارقطني أبا الجنوب

التالي السابق


الخدمات العلمية